السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أمر الدنيا

أمر الدنيا
15 ابريل 2007 02:34
سعاد جواد: suad-jawad@hotmail.com حللت ضيفة عند صديقتي التي ارتبطت بصداقتها من خلال تواجدنا معا في السكن الجامعي· تركت هي الدراسة وتزوجت، أما أنا فقد أكملت دراستي وتوظفت ولم أوفق للزواج، وبالطبع فإنني وصديقتي هذه لم ننقطع طوال تلك السنين عن الاتصال ببعضنا بين الحين والآخر، وقد وعدتها بالزيارة في أقرب فرصة ممكنة· اضطرتني ظروف العمل للتواجد في العاصمة لثلاثة أيام، فلم أقبل أن أسكن في الفندق الذي تم تخصيصه لنا، وفضلت أن أقيم عند صديقتي كفرصة للجلوس معها وقضاء بعض الوقت الممتع بصحبتها· استقبلتني صديقتي بحفاوة كبيرة فلم أشعر بالحرج في بيتها وكأنني في بيتي تماما· في أول يوم من وصولي كانت المائدة معدة بشكل يظهر كرم الضيافة المعروف لدينا· أنهيت طعامي وذهبت لأغسل يدي فمررت في طريقي بغرفة جانبية فلمحتها··· امرأة كبيرة في السن تجلس على سريرها وبيدها مسبحة تقلبها بين أصابعها، أسرعت للسلام عليها· كانت صديقتي خلفي فقامت بتعريفي بها قائلة: إنها والدتي! استغربت كثيرا! لماذا لم تشاركنا الطعام؟ ولماذا لم تجلس معنا؟ لم أخف تساؤلاتي عن صديقتي فأجابت بأن والدتها مريضة ولا تحب أن تجالس الآخرين· نظرت العجوز إلى ابنتها نظرة حارقة وقالت: لا تكذبي··· لست مريضة··· ولست متوحشة حتى أهرب من مجالسة الناس··· أنتم لا تريدونني معكم، أنتم لا تحبونني··· أنت وزوجك تكرهونني· ارتبكت صديقتي واحمر وجهها، ثم حاولت تدارك الموقف فسحبتني من يدي خارج الغرفة وهي تردد: أمي أرجوك··· لا تفعلي ذلك أمام الضيفة، ولكن العجوز استمرت في إطلاق موجات الاتهامات والكلمات الساخطة نحو ابنتها· حاولت أن أستفهم منها شيئا، ولكنها اعتذرت لي بكلمات لطيفة وطلبت مني عدم التفكير بهذا الأمر، ووعدتني بأن تشرح لي كل شيء فيما بعد، فالوقت سيكون أمامنا طويلا للتحدث، وعلي أن أرتاح من عناء الطريق، وأسرع في النوم، فعلي النهوض باكرا؛ لأن في انتظاري عمل كثير· اقتنعت بقولها وانصرفت للنوم وأنا أفكر بتلك العجوز وما تعانيه في بيت ابنتها· وبالطبع فإن الليلة الأولى كانت متعبة بسبب تغيير مكان النوم، ولكن على الرغم من الأرق الذي أصابني فقد نهضت مبكرة كعادتي· خرجت إلى الصالة وفي نيتي الخروج من المنزل دون إحداث أي إزعاج لأصحاب البيت ولكني فوجئت بأن الفطور معد لي مسبقا فجلست أتناول فطوري بهدوء· سمعت همهمات العجوز وهي تقترب فنهضت وسرت نحوها للسلام عليها، ابتسمت وسلمت علي بحرارة وترحيب شديد ثم أمطرتني بأسئلة واستفسارات عن أهلي ومكان سكني وعلاقتي بابنتها، ثم سكتت قليلا فقدمت لها القهوة والتمر فأخبرتني بأنها لم تفطر بعد· استغربت كثيرا، هل يعقل أن تقوم الخادمة بإعداد الفطور لي وتنسى إعداده لهذه العجوز المسكينة؟ كتمت غيظي ووضعت الطعام أمامها وصببت لها الشاي فبدأت بالأكل على مهل والغصة تحول بينها وبين ما تبلعه من طعام· استأذنت منها وانصرفت لشأني وأنا أفكر فيها وفي معاناتها الغريبة في بيت ابنتها· وبالطبع فإنني مستغربة لأن صديقتي من النوع الطيب الرحيم· فهل يعقل أن ترضى بمثل هذا الوضع لأمها؟ في منتصف النهار عدت إلى منزل صديقتي، لم تكن قد عادت بعد من علمها، فقررت أن أذهب إلى العجوز وأتسلى معها بالحديث لأخفف عنها بعض ما تشعر به، ولأعرف السبب الحقيقي في معاناتها· حكاية الزمن جلست معها وصرت أستدرجها في الحديث، حدثتها عن الناس وعن تصرفاتهم الغريبة وعن كل التغيرات والتبدلات التي تحصل في مجتمعنا، ثم تجرأت فسألتها عن حكايتها فقالت: عملنا أنا وزوجي رحمه الله بجد من أجل أولادنا حتى كبروا وتزوجوا وتركوا المنزل· بقيت ابنتي هذه وهي الوحيدة بين إخوتها الذكور وهي الأصغر بينهم· رفضت أن تتزوج وقررت أن تكمل دراستها الجامعية وتفرغ نفسها للعمل ولرعايتنا أنا ووالدها، ولكن هذا الشيء لم يكن يرضينا فكنا نلح عليها بالزواج، وكان ابن عمها متعلقا بها وقد تقدم لخطبتها عدة مرات وهي ترفضه بسببنا، ثم اشترطت عليه أن يقيما في بيتنا بعد الزواج فوافق على شرطها وتزوجته· وكما تعلمين فقد تركت هي دراستها في الجامعة وتوظفت بشهادة الثانوية وظيفة بسيطة تشغل وقتها بها لغياب زوجها معظم أيام الأسبوع· لم يدم الحال وتبدلت الأمور بعد أن رحل زوجي، وبقيت أنا مع ابنتي لوحدنا في البيت، حيث بدأ زوجها يلح في أن ننتقل إلى العاصمة لنعيش معه، ولكنني لم أتقبل الفكرة أبدا· فكيف يمكن أن أترك بيتي الذي عشت فيه كل تلك السنين؟ ولم أغادره إلا لقضاء الحاجات الضرورية أو لزيارات بسيطة لمجاملة الناس أو للذهاب إلى الطبيب· إنه المكان الذي تربى فيه أولادي وكبروا وتزوجوا، إنه المكان الذي تتوزع في أنحائه كل ذكريات العمر الطويل الذي عشته فيه، فهل يمكنني تركه بمثل هذه السهولة؟ صراع عنيف عشته وأنا تحت ضغط الإقناع من الجميع، أولادي، زوجاتهم، ابنتي، زوجها، الجيران، الأقارب، الكل يحاول إقناعي بترك بيتي واختيار أحد بيوت أولادي أو ابنتي للعيش معهم· بعد كل ذلك الضغط وافقت على العيش مع ابنتي، ويا ليتني لم أفعل· فبمجرد مجيئي إلى هنا ضاق صدري وانحبست روحي وشعرت بالاختناق· طلبت منهم إعادتي لبيتي ولكنهم لم يرضوا وتجاهلوني، فعلت المستحيل ولكن لا أحد يستجيب لي· أنهت حديثها المؤلم ومسحت دمعها بطرف شيلتها، فمددت يدي وأمسكت بيدها وقلت لها: يا أمي··· أنت مؤمنة وتعلمين بأن الإنسان ضيف في هذه الدنيا، ومهما كان تعلقه ببيته وبأهله فإنه لا بد وأن يفارقهم··· الدنيا ليست مستقرا حقيقيا يستدعي أن نتمسك به· نظرت إلي نظرة تائهة وكأنها لا تسمعني ثم قالت: لا أدري ماذا حدث لدجاجاتي··· هل متن من الجوع أم أن الجارة تعطيهن الأكل؟ وماذا حدث لعنزاتي؟ والنخيل··· هل جاء من يخرف النخيل؟ وشجرة اللوز··· هل أطلقت ثمارها من فوق الجدار إلى الشارع؟ وهل تعلق الأطفال بأغصانها ليحصلوا على اللوز الطيب الموجود في أعلاها؟ والقطة التي وضعت صغارها خلف الصندوق الكبير في الحوش··· ماذا تفعل الآن؟ هل كبر صغارها؟ وأين ذهبوا؟ والجارات··· هل مازلن يجتمعن عند دكة الباب يشربون القهوة ويتسامرن بأحاديث مختلفة؟ اقتلعت قلبي هذه العجوز بحديثها ودموعها وحسراتها، فلم أستطع أن أقول لها شيئا، وقد شعرت أن الكلمات ستكون سخيفة لا معنى لها أمام معاناتها وثقلها على نفسها· فقررت أن أتدخل في محاولة لمساعدتها· وجهة نظر أخرى تحدثت مع صديقتي وسألتها عن الجفاء الحاصل بينها وبين أمها، وأنها لا تعاملها كما ينبغي، وحتى الخادمة فإنها لا تعتني بالعجوز بشكل جيد ولا تنفذ لها طلباتها، فقالت صديقتي: منذ أن جاءت والدتي إلى هنا وهي تتصرف بشكل غريب، لا يعجبها شيء أبدا· طوال الوقت غاضبة، لا ترضى عن أي قول أو تصرف· صارت عدائية، تسب وتلعن بلا سبب، تصرخ وتفتعل المرض حتى أتعبتنا كثيرا· حتى الخادمات أصبحن يتهربن منها لأنها تقوم بضربهن بعصاها بحجج كثيرة· لم أعد أعرف كيف أرضيها، لقد تعبت من كثرة شكواها وتذمرها، ولم أجد سوى طريقة واحدة فقط لأريح نفسي وأريحها، وهي أن لا أحاول الاقتراب منها أو إثارتها قدر الامكان، ومع ذلك فهي تتعارك مع الهواء إن لم يكن أحد معها· قلت لها: أنت تعلمين بأنها تفعل كل ذلك لأنها تريد العودة إلى منزلها الذي اعتادت عليه طوال عمرها· قالت: أنا أدرك ما تريد··· ولكن، هل يعقل أن أتركها تعيش لوحدها في ذلك المنزل؟ أم هل يعقل أن نعيش أنا وهي لوحدنا فيه؟ بالطبع فإن إخوتي وزوجي لا يقبلون بمثل هذا الوضع··· فماذا أفعل؟ فعلا إنه أمر محير··· فالعجوز تريد العيش في بيتها ولا أحد من أولادها يستطيع ترك عمله وأسرته ويتفرغ للعيش معها··· فما هو الحل؟ ابتسمت في محاولة للتخفيف عن صديقتي بعد أن انتابها التوتر وقلت لها: ما رأيك لو تبحثوا لها عن عريس يشاركها البيت؟ ضحكت وقالت: إذا وجدت عريسا مناسبا لها فلا مانع عندي· أنهيت زيارتي لتلك الأسرة ولم أستطع نسيان تلك المشكلة، وبقيت أفكر بتلك المرأة العجوز ومعاناتها وتمنيت لو تكون هناك طريقة لمساعدتها على العودة لمنزلها· العودة للدار بعد فترة من الزمن اتصلت بصديقتي لأطمئن عليها فأخبرتني بأنها قد أخذت إجازة وهي مع أمها في مدينتهم· سعدت كثيرا لهذا الخبر وتمنيت أن ترتاح تلك العجوز المسكينة وتسعد خلال هذه الإجازة وقد عادت لبيتها ولو لفترة مؤقتة· أخذتني دوامة العمل والانشغالات اليومية فلم يتسنى لي الوقت الكافي للاتصال بصديقتي والاطمئنان عليها وعلى والدتها حتى فوجئت بـ''مسج'' منها تخبرني فيه بوفاة والدتها· لا حول ولا قوة إلا بالله··· رحلت تلك العجوز وتركت هذه الدنيا خلفها ولم يعد لمشكلتها وجود· ذهبت لأعزي صديقتي في مدينتهم حيث أقيم العزاء· دخلت البيت الذي كونت له بخيالي صورة جميلة من خلال ما صورته لي المرحومة، فوجدته بيتا بسيطا من البيوت الشعبية، تمتلئ ساحته بنخلات هرمات، والدجاجات يمرحن بحرية في أنحائه، كما تهب رائحة الغنم بين حين وآخر· أما أوراق اللوز فقد غطت جزءا كبيرا من الأرض· شعرت بأن هناك ألفة غريبة بيني وبين المكان وكأنني قد زرته سابقا· جلست مع صديقتي بعد أن عزيتها وواسيتها بكلمات الصبر والاحتساب، ثم بعد أن انصرفت المعزيات سألتها عن حكاية موت العجوز فقالت: أمي رحمها الله كانت ذكية جدا، فكرت في خدعة بسيطة تعيدها لمنزلها··· ربما كانت تشعر بقرب أجلها، وبالطبع فهي تفضل الموت في بيتها الذي عاشت فيه معظم سنين عمرها· وكما علمت فهي لم تتقبل العيش بعيدا عنه، ولم يكن سهلا أن تقنعنا بإعادتها لولا تلك الخطة··· أنت لن تصدقي ما فعلت! لقد أخبرتني بأنها تملك مبلغا كبيرا من المال وكمية لا بأس بها من الذهب، وقد أخفت كل ذلك في مكان سري في بيتها، وقد نسيت ذلك المكان، وهي تحتاج لوقت طويل حتى تتذكر أين وضعت ذلك المال، وقد ذكرت مبلغا ضخما لا يمكن تجاهله··· ومع أنني أعرف جيدا بأن أمي وأبي لا يملكان مثل هذا المبلغ، إلا أنها استطاعت أن تتقن الأداء حتى أقنعتني بعدم إضاعة مثل هذا الكنز، فصدقتها وأخذت إجازة بدون راتب من عملي وجلست معها أشهرا طويلة بعيدا عن بيتي لنبحث عن ذلك المال· بحثت في كل مكان ولم أجد شيئا ثم بعد أن يئست من العثور عليه طلبت مها العودة معي فرفضت وأصرت على البقاء· كنت مستغربة وأنا أجدها قد عادت إلى طبيعتها السابقة، لطيفة ومرحة، لقد انقلبت أحوالها انقلابا كاملا وكأنها قد عادت إلى شبابها· قبل أيام من موتها طلبت مني المسامحة على أسلوبها السابق في التعامل معي وعلى كذبتها البيضاء حول المال· صدمتني صدمة عنيفة فلم أستطع تقبلها فجلست أبكي وألومها لأنها جعلتني أترك بيتي وزوجي وعملي من أجل كذبة اخترعتها لتعود لبيتها· اتهمتها بأنها لا تحبني ولا تفكر بمصلحتي وكل ما يهمها هو العودة لبيتها مهما كان الثمن، وصرت أعيب على هذا البيت القديم ورائحته العفنة والقذارة التي تحيط به بسبب الأغنام والدجاج· لم تغضب لغضبي وظلت مبتسمة وسعيدة، تحاول إرضائي ولم تمر إلا أيام قلائل حتى رحلت بهدوء وسكينة وقد تركت لي عذابا نفسيا مؤلما على عدم صبري عليها وعلى لومها وعلى كل تصرفاتي معها· أتمنى أن تسامحني وأن يغفر لي ربي على تصرفي الأحمق مع والدتي· سقطت الدموع الحارة من عينيها فاحتضنتها وخففت عنها وأنا في وضع غريب، مشاعري متناقضة، فأنا سعيدة لأن تلك العجوز قد رحلت وهي في بيتها كما تحب، وحزينة لصديقتي التي لم تعرف كيف تحنو على أمها وهي أمانة أودعها الخالق بين يديها· كم أتأسف لأن الناس يكونون في أشد حالات العطف والحنان على أطفالهم، وعندما يكبرون ويحتاجون لذلك العطف والحنان فلا يجدونه بنفس القدر· حقا إن أمر الدنيا·· عجيب·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©