الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بعد ربع قرن···

15 ابريل 2007 02:39
دق جرس المنبه معلناً الساعة الرابعة· بدت تلك الدقات في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وكأنها رجع صدى لضربات متلاحقة يحدثها ''البرد'' المتساقط على زجاج الشباك منذ ساعات، على الرغم من الهدوء الذي يعكسه صوت جاك بريل المنساب من آلة التسجيل· لم يكن السهارى الأربعة في حاجة لدقات منبه توقظهم من نوم لم يألفوه فعلياً منذ أسبوعين، بل كل ما كانوا يحتاجونه هو تنبيه إلى أن ساعة الرحيل قد أزفت، فيتوقفون عن كلام امتد سحابة عمر ولن تكفيه سويعات متبقيات على موعد الطائرة· ـ ياالله يا شباب· قال أحدهم فيما يشبه توجيهاً عسكرياً بنقل الحقائب إلى السيارة، التي سيستقلونها إلى مطار بيروت المشرع الأبواب للمهاجرين والراحلين والهاربين، قبل أن تقفله نوبة جنون أخرى· منذ أسبوعين تقريباً وقفت شلة الأصدقاء الأربعة أمام سؤال وجودي: تبقى في منزلقات الوطن، أم تنزلق في مسارب السفر؟ بضربة حظ غير محسوبة، حصل أحد الأصدقاء الأربعة على قبول ومنحة دراسية في إحدى جامعات فرنسا· قضى أربعتهم الأيام التالية في التحضير وفي طرح الأسئلة عن الآتي وابتداع صيغ للمستقبل، أهمها أنهم أطلقوا على الصديق المسافر لقب دكتور· في المطار لم يتبادلوا أحاديث المودعين، لكنهم واصلوا ما كانوا بدأوه قبل عشر سنوات: الحرية، والوطن، والإنسان المعاصر، وأسئلة البداية والمصير، على أمل أن يستكملوا ما علق من نقاط بقراءة مزيد من الكتب، والاستماع إلى مزيد من الشعر، ومشاهدة الكثير من أفلام الموجة السينمائية الجديدة· هكذا غادر ''الدكتور'' إلى المستقبل، ورجع الثلاثة المتبقين إلى ''الحاضر''· عند ''أبو خضر'' على كورنيش المزرعة، لم تستطع ''ترويقة'' السحلب الساخن أن تبعث الدفء في أوتار الكلام المتجلدة، فانتقلوا إلى كورنيش المنارة يستقبلون أمواج البحر العالية بوجوههم الملتهبة وسجائرهم العاصية على الاشتعال··· لكن الصمت ظل سيد الكلام، فما كان يدور بين أربعة لا يستقيم بين ثلاثة· لم تنقض أسابيع حتى جاء ثانيهم بسمات الحكمة: يا شباب، هل انتبهتم إلى الزمن؟ هل أدخلتم مرة عامل الزمن في معادلة الحرية والوطن والإنسان وأسئلة المصير؟ ماذا يبقى من كل ذلك إذا جردناه من عنصر الوقت؟ ـ متى ستسافر؟ هكذا انطلق السؤال على لسانين في وقت واحد· آخر الشهر، أجاب· إلى أين؟ سؤال آخر مشترك· إلى الخليج، أجاب· لا يمكن الجزم كيف انطلق ذلك التعليق: ستستذكر كثيراً صيحة السياب: يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى··· وبسرعة جاءت إجابة المسافر الثاني: سوف أترككم للهواء الذي تعشقونه، وبه ستموتون، ''انتعاشاً'' جراء جرعة زائدة من سمومه أو نقائه- لا فرق- أو اختناقاً بسبب اضمحلاله··· ومرة ثانية أصبح ما كان يقال بين ثلاثة أعجز من أن يملأ مساحة الصمت بين اثنين· كانت بيروت في ذلك الوقت مدينة الجنون والردى· في شوارعها تتدفق أنهار الفجيعة والموت، كأنها فعل ''فعل حب'' يومي يرتكبه الناحرون والمنتحرون على أعتاب مدينتهم· راحت بيروت، التي كنا نعرفها، بيروت الثقافة والسينما والمسرح والشعر، بيروت الجدل الفكري في ساحات الجامعات وفوق منابر الأندية والأحزاب والصحف، بيروت الانفتاح والتجارة بكل معانيها··· راحت بيروت تلك تنسل من مسام عشاقها، بعدما انتظم نبضهم على هدير المدافع وانفجارات القذائف· وفي لحظة جنون وانهيار (لا يدرك مداها إلا من انفتحت له طواياها) حل نداء الرحيل الثالث، فوق رأس كاتب هذا المقام· هل كان يجدي السؤال في تلك اللحطة: يا صبي هل تهرب من الجنون أم إلى الجنون؟ يا صبي هل تهرب من الغربة إلى الغربة؟ يا صبي هل تهرب من مدينتك العاصية إلى مدن عصية؟ لا السؤال كان ذا جدوى، ولا الإجابة كانت ذات منفعة· فعندما يأتيك النداء من آخر الطريق، ولو كان مسدوداً بجدار، فلا راد له· تماماً كما ذلك النداء الذي تسمعه عندما تدخل إلى غابة، يسحرك عشقك للأشجار، فتسمع اسمك يتردد صداه من أعماق الغابة فتجري وتجري لكي تلحق بمن يناديك وتظل تجري تجري لأن ذلك النداء الأسطوري لن يتوقف أبداً··· ـ ما الذي تحتاجه من أجل هذه الغربة؟ ينطلق السؤال من لسان واحد هذه المرة· ـ ليس أكثر من حلم وكتاب وحذاء· لا ليس هذا جنوناً، فعندما تتكسر أجنحة الحلم، لا بد من حذاء يعين على التجوال، أما الكتاب فهو وسادة الروح· هكذا بدأت غربة جغرافية مثلثة (مفتوحة؟؟؟) أعادت صياغة الأسئلة القديمة ملايين المرات· وفي بيروت بقي رابع الشلة، يحرس المفاتيح، كما فعلت فيروز في مسرحية الرحابنة التي قرأت المستقبل مبكراً، وشاهداً على ''الأرض اليباب'' كما ستقول لنا قصيدة تي· أس· إليوت عندما ستنبسط معانيها بعد سنوات· خلال سنوات الغربة الكثيرة حاول الأصدقاء الأربعة أن يجتمعوا ولو ليوم أو يومين يستعيدون خلالهما سيرة الأحلام بتجلياتها وانكساراتها· خذلتهم بيروت كثيراً· استكثرت القاهرة عليهم اللقاء· حالت مفارقات تونسية عجيبة من تحقيق ما كانوا يسعون إليه· ضيعت برودة الإنجليز أوقاتاً ثمينة للاجتماع في لندن· وضع الفرنسيون شروطاً صعبة للسفر إلى باريس· تضاربت المواعيد في أثينا· أفشلت مفاجآت خارجة عن الإرادة مشروعاً للقاء في قبرص· هكذا مرت خمس وعشرون سنة، ربع قرن بالتمام والكمال، لم يستطع خلالها الأصدقاء الأربعة استئناف حوار قطعوه في مطار بيروت· وفي ليلة رائقة من ليالي أبوظبي، الساعة الرابعة تماماً بعد منتصف الليل، ينطلق من الهاتف الجوال صوت قديم: إذا كان العنوان الذي أعطيتنا إياه صحيحاً، وإذا كان السائق الآسيوي قد فهم ما قلناه له، فنحن عند مدخل العمارة التي تقطن فيها· تنطلق كالسهم إلى المدخل، حيث في لحظة واحدة ستنطوي خمس وعشرون سنة مرت، ومعها سينطوي هدوء يعم المكان· يعود ذلك الصخب الأول، بكل تفاصيله، بكل جنونه وسخافاته، بكل استفزازاته وجدالاته··· لكن الأسئلة هذه المرة لن تكون عن المستقبل، بل عن الماضي، والأحلام هذه المرة لن تقود أصحابها إلى ما وراء البحار بل ستعود بهم إلى المكان الأول، البئر الأولى كما يسميه جبرا ابراهيم جبرا· وحده رابع الشلة، حارس المفاتيح، الشاهد المتبقي على ''الأرض اليباب'' سوف يسأل كثيراً عن السفر، وسوف يبحث كثيراً عن طريق تحمله إلى الغربة، حتى ولو كان الرحيل بلا حلم ولا كتاب ولا حذاء··· عـادل علـي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©