الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أخيراً نطقت زوجتي

أخيراً نطقت زوجتي
25 نوفمبر 2011 10:47
(القاهرة) - أسرتي غريبة في هذا الزمن الذي انقطعت فيه أواصر الرحمة وصلات القرابة بين الناس، أشعر بأننا في عالم مختلف عن الآخرين من حولنا، فقد اعتدنا على ان نتناول طعامنا في «جماعة» لا يمكن لأي منا أن يأكل اي شيء إلا في حضور الآخرين ومعهم، وهذا أيضا ينطبق علينا عندما يكون اي منا خارج المنزل، فلا نعرف التعامل مع المطاعم بكل أنواعها، وبجانب هذا لا نستسيغ طعاما غير ما تعده أمي بيديها، وأستطيع ان أقول إننا أدمناه فلا يعجبنا الا هو، ولا نقرب غيره مهما بلغ منا الجوع مبلغه الا مضطرين. يومنا منتظم لكنه غير ممل رغم رتابته وتكرار أحداثه، ففي الصباح نستيقظ تقريبا في وقت واحد، ونتناول إفطارنا ثم يتوجه كل منا الى عمله، أنا وأبي وأختاي، بينما تبقى أمي وحدها في المنزل، وما بين الساعة الثالثة والرابعة عصرا نعود ونتجمع على الغداء، وبعدها نأوي الى قيلولة متأخرة، ثم نتجمع لنشرب الشاي ونتابع التلفاز من برامج دينية الى الاخبار وغيرها حتى موعد النوم، لست انا ولا أبي من هواة الخروج والسهر، بخلاف أصدقائي وزملائي الذين يسهرون الى مطلع الفجر على المقاهي بين لعب الورق والشطرنج وتدخين الشيشة، وهذا كله ليس لي رغبة فيه، ولا ألبي دعواتهم اليه، وقد أطلقوا عليَّ لقب «البيتوتي» نسبة الى التزام البيت، ولم يكن اللقب يزعجني بل على العكس كنت سعيدا به. أسرتي الصغيرة تلك، يجمعها الوئام والانسجام وبالطبع نستغرب ما نراه ونسمعه من الناس حولنا عن أن الاسر قد تشتت أفرادها، وكل منهم في واد واختفى التفاهم والود من البيوت، وأصبحت القطيعة والتباعد عنوان التعامل بين الإخوة والأهل والأقارب، أحيانا لا أصدق ما أسمعه من قصص لا يصدقها عقل، فهذا يعيش مع أمه وأخته المريضة بعد ان تزوج أبوه وتركهم كأنه لا يعرفهم، فلا يعرف صديقي شيئا اسمه الطعام المنزلي، وكل وجباته من مطاعم «التيك أواي» السريعة، وآخر تركه أبوه وأمه اللذان يعملان بالخارج، يعيش وحده هنا ولا يتوقف عن الحركة بسيارته، ويلتقي مع أعضاء «الشلة» كل يوم يسهرون حتى الصباح، وثالث لا يعرف أبوه وأمه عن حياته الخاصة شيئا ولا يسألانه عن تصرفاته، يخرج ويعود وقتما أراد ودون ان يعرفا أين يذهب ولا مع من يقضي أوقاته ولا كيف، ونماذج كثيرة أخرى أراها أمامي تجعلني أحمد الله سبحانه على ما انا فيه من نعم يفتقدها كثير من الناس في زمن أطلقوا عليه عصر السرعة، فظلموا أنفسهم وظلموا زمانهم، وانطبق عليهم قول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا. أما هؤلاء الثلاثة من الشباب الذين لقوا حتفهم فجرا وهم يجوبون الشوارع يضربون فيها بلا هدى بسيارة أحدهم بعدما انقلبت بهم وهم يسيرون بسرعة جنونية، ويا للعجب فان أسرهم لا تعرف أين كانوا ولا ماذا يفعلون في الشوارع في هذا الوقت، ما جعلني أضرب كفا بكف لما يحدث، وكذلك أنظر الى حالنا في بيتنا، وأعقد مقارنة بيننا وبين تلك الأمثلة الصارخة والتصرفات الدخيلة على مجتمعاتنا الشرقية والتي يمكن ان نقول بحق إننا ابتلينا بها. ما نشأت وتربيت عليه، لدي قناعة كاملة به، وملتزم بكل تفاصيله ولا أحيد عنه، بل انني أشفق على الناس مما هم فيه، لذلك حملت ذلك كله معي وانا انتقل الى بيتي المستقل وحياتي الزوجية، لم يتغير منه شيء، بعد ان رشحت لي أختي الكبرى إحدى زميلاتها المشهود لها بالخلق والالتزام ودعتني لزيارتها في العمل لأراها، وكأن الزيارة عادية وعابرة ولكن بعدما شاهدتها اقتنعت بها مع ما أكدته اختي من حسن خلقها، وتمت الزيجة بلا تعقيدات او عقبات، حيث ان ظروف الأسرتين وثقافتهما متشابهة، والفتاة جميلة المحيا، دائما هاشة باشة، تتحدث برقة تسيل منها الكلمات معسولة من دون تكلف، وطريقتها في الكلام تلفت الانتباه من أول وهلة فكأنها تقرض شعرا أندلسيا عذبا، او تقرأ مقامة قديمة رصينة، ولا أقول هذا لانني مغرم ولهان بها فقط وانما ظل ذلك رأيي فيها طوال حياتنا فيما بعد وتلك حقائق بلا مبالغة او تهويل. مازلت على كل صفاتي وتصرفاتي بعد الزواج، أقضي وقتي كله مع زوجتي بعد ان نعود من العمل، نعيش السعادة التي ترفرف علينا، نتبادل الحب ونعيش الغرام الذي لم نعشه في فترة الخطبة القصيرة التي لم تستغرق سوى أشهر معدودات، يروي كل منا ذكرياته للآخر وما مر به من ظروف في الحياة خلال السنوات الخوالي، وقد لا تخلو أحاديثنا من بعض البطولات حتى لو كانت مبالغا فيها، ومن ناحية أخرى يتعرف كل طرف الى الاخر بما فيه الكفاية ليعرف ما يحب وما يكره وما هو عليه من طباع ليحدث الانسجام والتفاهم. رزقنا بثلاثة أطفال كانوا زهورا متفتحة تشع منها السعادة وينتشر عبيرها في بيتنا ومن حولنا، كرسنا حياتنا من أجلهم، وهم هدفنا الذي نسعى لتحقيقه في الحياة نريد ان نراهم كما نتمنى، نحلم لهم بمستقبل مشرق، ونأمل ان يكونوا على شاكلتنا مترابطين متحابين بعيدا عن متغيرات العصر الدخيلة وشطحات الشباب البعيدة عن الواقعية، وها هم يكبرون أمام أعيننا وبين أيدينا من يوم الى يوم ومن شهر الى شهر وعام الى عام. بعد سنوات من زواجنا نفد كل ما لدينا انا وزوجتي من كلام وبعد الاعادة والتكرار لاحظت مؤخرا أنني انا الذي يتحدث على طول الخط بينما هي لا تتكلم الا عند الضرورات والحاجة الملحة، الا انني لم أعدم حيلة في استنطاقها واستخراج الكلام من بين شفتيها، وانا أمطرها بالاسئلة واحدا تلو الاخر لتجيب عنها ولكن باقتضاب ربما بكلمة او بكلمتين بالنفي او الايجاب وأحيانا تكتفي بإيماءة بدلا من الكلام تؤدي الغرض، ولا أدري اين ذهب كلامها المنمق وأسلوبها المنظم، فليست هذه هي المرأة التي عاشرتها وعشت معها ما يقرب من خمسة عشر عاما، لقد تغيرت تماما، تكره الكلام وتعشق السكوت، مستعدة لان تصمت ولا تتفوه بكلمة واحدة على الاطلاق لو تعاملت معها بنفس أسلوبها وتركتها من غير ان اتبع أسلوبي معها بمحاصرتها بالاسئلة. أعرف ان الرجال هم الذين يصابون بما يسمى الخرس المنزلي ويكرهون الكلام مع زوجاتهم لانهم يتحدثون كثيرا خارج المنزل فلم يعد لديهم استعداد للمزيد من الكلام، علاوة على ان الرجال يحبون الحديث مع الأخريات، بينما لا يفعلون ذلك مع زوجاتهم، وحتى الثرثرة مع الرجال تكون عندهم أفضل من اي حوار مع الزوجات، وأعرف ايضا ان معظم الزوجات يشتكين من الخرس الزوجي المنزلي، أما المؤكد فانه لا توجد امرأة تصاب بهذا المرض، الا انني وجدت زوجتي مصابة به في حالة غريبة ونادرة، وكان لا بد بعد ذلك ان يساورني القلق ربما أكون انا المخطئ او السبب فيما آلت اليه أحوالها، لكنني أجدها تتهرب من الاجابة وتسكت كأنها ستدفع ثمنا للكلام، وليس هذا موقفها معي وحدي وانما تعتزل مجلسنا انا والأبناء وتنزوي في اي جانب او غرفة، وحتى لا تشاهد التلفاز الذي كانت تحفظ كل برامجه ومواعيدها. أضرب كفا بكف من فيروس الخرس المنزلي الذي أصاب زوجتي، واتعجب كيف أصابها وهو في الاصل مرض يصيب الرجال وحدهم، وأصبحت خرساء لا تعرف الكلام، بلا لسان، صامتة كالأصنام، فحلت الكآبة والصمت الرهيب في بيتنا، ما تسبب في شروخ بجدار العلاقات الأسرية، الامر جد خطير يحتاج الى وقفة عاجلة ولولا ثقتي بزوجتي ويقيني بخلقها ودينها لذهبت بي الظنون الى مدى بعيد، وفي ظل ذلك لا تقصر في شؤون البيت والأبناء، حاولت ان أناقش معها الأمر لعلي أصل الى سبب ما هي فيه فلم أجد جوابا، وقد تهربت من الموضوع برمته وهي تحاول ان تغيره وتتجنب الكلام فيه، مما زادني قلقا وحيرة، فقررت ان أصطحبها الى طبيب نفسي عساه ان يجد حلا، فوجدتها ترفض وبشدة. تطورت الحال ووضعت زوجتي نفسها في عزلة إجبارية، تغلق على نفسها الباب بالساعات الطوال وترفض الحديث معي او مع اي من أبنائنا، فقررنا ان نضع خطة ماكرة، اتفقت معهم على ان اختفي لعدة أيام ثم يدعون انني بعد ان يئست من طريقتها وتصرفاتها قررت الزواج، وننتظر النتيجة، وفور ان سمعت هذه الكلمات انتفضت- كما قال لي الأبناء- مثل العصفور المبلل الذي يريد ان يتخلص من الماء، وبدأت تستفسر منهم عن التفاصيل، واستطاعوا ان يستخدموا المؤثرات والحركات ويتباكون وهم يخبرونها بانني لم أتحمل أفعالها، اقنعوها بالفعل بان الامر قد تم واني قد أكون الان مع العروس ننعم بلحظات السعادة استعدادا للعرس وشهر العسل الجديد، فطلبت منهم ان يحاولوا التدخل لإثنائي عن هذه الخطوة المجنونة التي ستدمر الأسرة كلها، لكنهم رفضوا بحجة انهم لا ذنب لهم فيما حدث وانها السبب فيما آلت اليه الامور والتدهور في العلاقات الأسرية كلها. وجدت زوجتي نفسها محصورة في خانة ضيقة وركن مغلق، وهي تحاول ان تكابر وتدعي اللامبالاة، لكن قدرتها على التحمل لم تكمل يوما واحدا خاصة بعد ان امتنع الابناء عن التدخل ووجدت نفسها أمام خيار واحد هو التنازل والاعتراف بالضعف، واتصلت بي على هاتفي المحمول لعدة مرات، لكنني لم أرد عليها مدعيا انني مشغول وكي تؤتي الخطة ثمارها، تركتها يومين على هذه الحال وانا بالطبع أراقب وأتابع النتائج من خلال أبنائي وعندما تأكدت ان النجاح حليفنا، ظهرت فجأة في البيت، ولكن لأكمل «التمثيلية» وادعيت انني ما جئت الا لوضع كلمة النهاية على علاقتنا الزوجية، وأخيرا تنازلت زوجتي واعترفت بتقصيرها، وبررت ذلك بانه لم يكن إهمالا وانما هو نوع من «الملل الزوجي» خيل اليها - كما قالت- إنها ستجد في العزلة راحة البال، إلا انها لم تشعر بالخطأ الا بعد ان رحلت عن المنزل، وبعد اعترافها، فوجئت بنا نضحك بشدة حتى استلقينا على الارض نحتفل بنجاح مكيدتنا التي غلبت كيد النساء، بعدما كادت زوجتي تنقل اليَّ المرض المعدي او أفعل مثل أصدقائي وأهرب من البيت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©