السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حُب المال

حُب المال
21 نوفمبر 2013 21:14
كرست كل حياتي من أجل أولادي، حتى لا يعانوا ما عانيت ولا يقاسوا ما قاسيت، فقد كنت الابن الوحيد لأبي مع ثلاث فتيات كلهن أكبر مني، وقد توفاه الله ولم يترك لنا ما نرثه من قليل أو كثير، إلا أنني كنت أعمل معه في تجارة الثمار من الحدائق، ونقوم بتوصيلها للتجار الكبار الذين كانوا يستأثرون بالربح ويستحوذون على مكاسب المهنة، كنت حينها صبياً وفي مرحلة التعليم الابتدائي، تحملت مسؤولية نفسي ومسؤولية شقيقاتي، ورغم ضيق ذات اليد قررت أن أواصل تعليمي بجانب العمل في نفس المهنة الوحيدة التي أعرفها ولا أعرف غيرها، وقد ساعدني أهل الخير من أصدقاء أبي في السماح لي بالعمل كما كانوا يتعاملون معه وزيادة. المهام الجسام سارت بنا الأيام بطولها وعرضها وظروفها ونحن نعاني ونقاوم ونحاول أن نحيا كراماً من غير أن نحتاج إلى أحد، وقد أعأنني ربي على تلك المهام الجسام خلال سنوات طوال، وتزوجت أخواتي الثلاث وقمت بواجبي نحوهن كما ينبغي أن يكون، وساهمت في تجهيزهن مثل المعتاد في بلادي، وبما أنني قد انتهيت من دراستي وحصلت على مؤهل جامعي رغم قسوة ظروفي، قررت أن أتزوج أنا الآخر لأنني أصبحت وحيداً بعد أن تركنني بمفردي، واخترت فتاة من معارفنا لا تربطنا صلة قرابة ولكن في نفس مستوانا وظروفنا وكانت نعم الزوجة، وقد أعانتني على استمرار البر بشقيقاتي وصلتهن على الدوام، وكان بينها وبينهن توافق كبير. مع حصولي على وظيفة واصلت ممارسة مهنة التجارة التي كانت تدر عليّ دخلاً جيداً رغم أنها تحتاج إلى وقت طويل، وأمكنني التوفيق بينها وبين وظيفتي، كنت أحاول ألا أتخلى عن التجارة خاصة في الإجازات والعطلات الرسمية، لزيادة دخلي وأنني ليس لدي أي رأس مال وما زلت أتحمل بعض الواجبات نحو أخواتي لأن ظروفهن صعبة، وأزواجهن فقراء، علاوة على أنني أنتظر طفلاً حيث إن زوجتي حامل في شهرها الخامس، وفي ظل هذه الظروف فوجئت بخبر مفاجئ، فقد جاءني أحد معارفي بعقد عمل في الخارج، رغم أنني حديث التخرج ولم أكن قد سعيت إلى ذلك ولم أفكر فيه من قبل، لأنني أريد أن أكون قريباً من أخواتي، ولا أريد أن أتركهن وحدهن حتى لو كن في بيوت أزواجهن فليس لهن غيري في الدنيا، ولكن كنت مضطراً للموافقة على السفر وحتى لا أندم على تضييع الفرصة فحزمت حقائبي نحو رحلة الغربة المجهولة. هوايتي المفضلة ثماني سنوات قضيتها في الخارج، عدت بعدها ولا أعرف لماذا، إلا أنها مشيئة الله، وقد تمكنت من شراء بناية من أربعة طوابق وأصبح معي مبلغ لا بأس به، وعدت إلى الاستثمار وهو هوايتي المفضلة، للاستفادة من المبلغ بدلاً من إيداعه في البنوك، واتجهت إلى تجارة الفاكهة التي ما زلت أجيدها بجانب بعض الأنشطة الأخرى وحتى أعمال السمسرة والوساطة في العقارات، واستقر بي المقام في شقة فسيحة بعيداً عن بيتي الذي أستفيد منه في تأجيره. ولأن الدنيا إذا حلت أوحلت، فقد أصبت بمرض عضال يحتاج إلى علاج مستمر مدى الحياة، ورضيت بما أراده الله لي وظللت في هذه المعاناة عدة سنوات تزيد على العشر، قضيت جلها في المشافي وبين التحاليل والأشعات، ولا أبالغ إذا قلت إنني من كثرة التردد على العيادات والمستشفيات والإجراءات الطبية أصبحت لدي خبرة أكثر من بعض الأطباء، ولذا كنت على مدى السنوات الخمس الأخيرة أقوم بإجراء التحاليل وأسير على العلاج من دون الرجوع للأطباء. تدهورت حالتي الصحية وقرر الأطباء إجراء جراحة عاجلة وضرورية في المخ، ومع أنها خطرة ولكن ليس أمامي اختيار، واعتقدت أن هذه نهاية حياتي، لأن كل الذين عرفتهم وأجريت لهم هذه العملية قضوا إما في العمليات وإما بعدها بأشهر أو أسابيع معدودة، لذلك قررت أن أقسم كل ما أملك وأوزعه بين أبنائي، فسجلت لكل واحدة من البنات شقة في البناية التي أملكها وللولد شقة بجانب التي نقيم فيها، وفعلت ذلك حتى لا يجور أحدهم على الآخرين، وكي لا يقع بينهم أي خلاف بعد موتي، وقد كانت زوجتي رافضة لكل ذلك باعتبار أنه فأل غير حسن، ويجب أن أترك كل شيء لطبيعته ولوقته. فترة الخطوبة في ظل هذه الظروف وقبل دخول غرفة العمليات بأيام قليلة تقدم شاب لابنتي الكبرى يطلب يدها، فكان رأي زوجتي أن نؤجل ذلك إلى ما بعد العملية، ولكنني رفضت وقررت أن تتم الخطوبة فوراً لأنه شاب على خلق وحتى إذا ما جاء الأجل يتم زفافهما بعد ذلك في وقت معقول ولا تزيد فترة الخطوبة، وتمت الخطوبة وأنا على سرير المرض فلم نقم احتفالاً بهذه المناسبة وقد وجدت أن ألمي من ذلك أكثر من المرض، فقد كنت أحلم وبالطبع هي وأمها بأن يكون الاحتفال في ظروف أفضل وبشكل مختلف، ولكن قدر الله وما شاء فعل. وانتهت الجراحة بنجاح وما زال في العمر بقية، ولكنني لم أعد إلى طبيعتي وجهدي كما كنت، ومع هذا كله لم أتوقف عن العمل وعن التجارة حتى وأنا في أشد اللحظات ألماً وعلى قدر ما أستطيع، وقد وجه كثيرون ممن حولي اللوم لي واعتبروني متشبثاً بحب المال والدنيا، ولكن الحقيقة أنني متشبث بالحياة ولم أفقد الأمل في رحمة الله، وبعد شهرين تم زفاف ابنتي في حفل محدود لم أحضره لأنني غير قادر على الحركة بسهولة، فتركتهم بعد عقد القران، وتماسكت وأمسكت دموعي إلى أن خرجت بعيداً عنهم، وأكثر ما يؤلمني أنني لم أستطع أن أقيم لابنتي حفل عرس كما ينبغي أن يكون، وكي تتم فرحتها، ولكن ما باليد حيلة وليس في الإمكان أفضل مما كان. تحسنت حالتي الصحية رويداً رويداً مع الأيام واستقرت بعد فترة طويلة ومعاناة، ولكن كما قلت فإن المرض الذي أعاني منه سيستمر مدى الحياة، ومع ذلك حاولت أن أتناسى حالتي وأتعايش معها ولم أجعلها تسيطر عليّ ولا تمثل مشكلة، فمارست حياتي بشكل شبه طبيعي كما لو كنت لا أعاني من أي مرض، وإن كان لا يمر أسبوع بلا تحاليل أو أشعات مع استمرار الأدوية، وعدت إلى ممارسة تجارتي مع وظيفتي وليس هذا كي أحقق أي مجد أو المزيد من المال، وإنما فقط كي أحقق كل متطلبات أسرتي، واحتياجات أبنائي سواء من كان منهم في الدراسة أو من انتهى منها ويقدم على الزواج. ابنتي الثانية وانتهى أبنائي من دراستهم وأقبل الولد على الزواج وفي الوقت ذاته جاء عريس لابنتي الثانية، ووضعت كل ما بين يدي تحت تصرفهما وجهزت شقة للولد واشتريت للبنت كل ما تريد وزيادة، بل فعلت أكثر مما يحلمان به، وقبل أن أنتهي من ذلك جاء عريس لابنتي الصغرى آخر العنقود، وفعلت لها مثل إخوتها، واستقل ابني بحياته في مسكن قريب منا واستقرت كل بنت مع زوجها، وبقيت أنا وزوجتي وحيدين، ولكن لم نشعر بالوحدة ولا الفراغ لأنني ما زلت أمارس حياتي في عملي وفي تجارتي، بجانب أن البيت لا يخلو من أحد من أبنائي، أو نذهب أنا وزوجتي إلى أي منهم، أما يوم الجمعة فهذا لقاء أسبوعي لا يتخلف عنه أحد، يأتون جميعاً هم وأبناؤهم، وأستعيد طفولتي، وأنا ألعب مع أحفادي وأسعد بهم، وربما أكون أستعيد طفولتي المفقودة التي لم أعشها، فأرى أنني أنا الذي يحتاج إلى اللعب أكثر من الصغار. في الأيام العادية وسط الأسبوع تعد زوجتي الطعام لي ولها وفي الغالب لمن تستطيع من أبنائنا تباعاً، فأنا في الأصل أريد أن يحيا أبنائي حياة رغدة ولو وصلت إلى حد الترف، المهم ألا يعانوا أو يعيشوا الحرمان كما كنت من قبل، وفي الوقت الذي لم أنس فيه أخواتي وما زلت على صلة بهن والود معهن مثل ذي قبل وأكثر، وهكذا تسير حياتي وتصرفاتي مع أبنائي، بل لم أعد أهتم بالادخار وأفضل أن يستمتع أبنائي بما بين يدي من مال، وفوق هذا وذاك أستجيب لكل مطالبهم حتى لو كانت مبالغاً فيها أو غير معقولة، ومن هنا بدأت أشعر بأنهم جميعا على نفس الشاكلة والتفكير بما يصل إلى حد الاتفاق، إنهم يريدون أن يستنزفوا كل ما يقع بين يدي من أموال، ويستولوا عليها قبل أن تدخل جيبي، وقد استشعرت هذا ولمسته بوضوح وهم يطلبون أشياء غير منطقية، وإذا ناقشتهم يبادرون بأنني أنام على كنز ويتساءلون لماذا أدخر المال. التفكير الخاطئ صدمني هذا التحول والتفكير الخاطئ الذي وصل إلى الصراحة، وهم يطلبون مني أن أبيع البناية التي شيدتها بعرق وجهد العمر والسنين والغربة ورغم المرض والمعاناة، وحجتهم في ذلك أنني قد سجلتها لهم من قبل ويجب أن أنفذ ذلك بحجة أنهم في حاجة إليها، وأن كلاً منهم يريد أن يحصل على حقه في “الميراث” ليستمتع به ويستثمره أو يستفيد منه في احتياجاته، وهم لا يفهمون أن المال لا يسمى ميراثاً إلا إذا توفي صاحبه، كما أنني لم أتراجع عن هذا التقسيم ولكن فقط أحافظ لهم عليه لأنني أرى فيهم حماقة وسفهاً، وأنهم سيبددون كل ما يقع تحت أيديهم بسهولة لأنهم لم يتعبوا فيه. زوجتي تمارس علي ضغوطاً للاستجابة لهم، ولكنني أرفض لأنني لا أستطيع أن أراهم وهم يبددون جهد العمر هباء، وأصبحت بيني وبينهم حواجز نفسية، وأتراجع عن المجهود الكبير الذي أبذله من أجلهم، والغريب أن ابنتي الكبرى قد مضى على زواجها أكثر من خمس سنوات وتطالبني الآن بإعادة تجهيزها لأنها لم تأخذ حظها مثل بقية أخواتها، وهكذا تتنوع مطالب أبنائي اللا معقولة، فتسببوا في تدهور حالتي الصحية من جديد، أصبحت غاضباً منهم لا عليهم.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©