الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دماء التنوير

دماء التنوير
25 نوفمبر 2015 21:23
تحتل الشهادة مكانة عالية لدى الشعوب الأوروبية وبخاصة لدى الشعب الفرنسي الذي عشت في ربوعه أكثر من ثلاثين عاماً متواصلة، لم أزر خلالها مدينة أو قرية تقريباً إلا وفاجأني وجود نصب تذكاري شامخ يحتفل بالشهادة والشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن وطنهم. وأحياناً كثيرة تجد أسماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن أرض الوطن منقوشة على النصب التذكارية. لكن المفاجأة سرعان ما تختفي إذا تذكرنا أن فرنسا دفعت ثمناً غالياً إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، سواء من البشر أو الدمار الذي لحق بالمدن. ونحن عندما نزور أوروبا ونرى ازدهارها أوعمرانها الحالي ننسى أنها كانت مدمرة يوماً ما بل ومدمرة مرتين لا مرة واحدة. وننسى أنهم عانوا من ويلات الحروب ما لا يخطر على قلب بشر. فالحروب وحشية وآثارها وانعكاساتها كارثية بالمعنى الحرفي للكلمة. وقبل أن أتحدث عن شهداء القرن العشرين وبعض الرموز دعونا نرجع إلى الوراء قليلاً أو كثيراً لكي ندرك معنى الشهادة بالنسبة لشعوب أخرى غير شعوبنا. فالمقارنة هي أساس المعرفة والنظر. تنقسم الشهادة بالنسبة للمسيحيين الأوروبيين إلى قسمين كبيرين: الشهادة الدينية العقائدية، والشهادة الفكرية الفلسفية. الشهادة العقائدية ربما من الضروري الإشارة إلى أن المسيحية كانت أقلية مضطهدة طيلة القرون الأربعة الأولى من عمرها. ومعظم بابواتها ماتوا قتلاً على يد الامبراطورية الرومانية الوثنية الطابع أو المؤمنة بتعددية الآلهة. بل وحتى مؤسسها السيد المسيح فهو يعتبر الرمز الأعلى للشهادة والشهداء. فبحسب الاعتقاد المسيحي فإنه مات على الصليب بعد أن عانى من عذابات مبرحة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولذلك فإن الشهادة ذات أهمية كبرى بالنسبة للمسيحيين. إنها حاضرة في تاريخهم ومسجلة في أعماقهم النفسية. وربما لهذا السبب ألف لويس ماسينيون كتاباً ضخماً عن الحلاج مقارناً بينه وبين شهداء المسيحية. فعذاب الحلاج يشبه أيضاً عذاب المسيح. وبعد السيد المسيح فإن معظم الحواريين ماتوا قتلاً أيضاً. فبطرس الرسول الذي خلف المسيح قتل على يد الأمبراطور الدموي الشهير نيرون عام 64 ميلادية، وصلبوه ورأسه منكس إلى الأسفل.. وبولس الرسول الذي يعتبر المؤسس الثاني للمسيحية بعد المسيح مات قتلاً أيضاً وسقط شهيداً مضرجاً بدمائه في روما في ذات العام. ولكنه لم يمت صلباً كبطرس وإنما قطعوا رأسه بحد السيف. وقد قال قبيل ذلك: «لقد ناضلت من أجل الحق وحافظت على إيماني حتى النهاية. والآن اقتربت لحظة مفارقة هذا العالم». ويبدو أن الجنود اقتادوه إلى جانب الجدار الجنوبي لمدينة روما وهناك نفذوا به حكم الإعدام. وكان عمره آنذاك اثنين وستين عاماً. وقد شهدت المسيحية عدة موجات من الاضطهاد على مدار القرون الثلاثة الأولى، كان آخرها وأعظمها ما حصل في عهد الأمبراطور ديوكليتيان. ولكن جاء بعده عهد الأمبراطور قسطنطين وانفرجت الأمور. فقد فاجأ الجميع بالتخلي عن الديانة الوثنية التي كانت الديانة الرسمية للامبراطورية واعتنق المسيحية. وكان حدثاً مدوياً قل نظيره في التاريخ. إذ بدءاً من تلك اللحظة تحولت المسيحية من ديانة مضطهدة إلى ديانة قوية مدعومة من قبل السلطة. وأصبحت الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية التي اضطهدتها طيلة قرون عديدة. بل وأصبحت هي التي تضطهد أعداءها وتلاحقهم، ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث مع جان دارك التي اتهمت بالزندقة وأحرقت. وهذا يعني أن المضطهد بالأمس قد يصبح جلاد اليوم. وهو شيء تمت البرهنة عليه مرات عديدة على مدار التاريخ. فاليهود كانوا مضطهدين من قبل النازية ولكنهم تحولوا إلى جلادين في فلسطين. وقس على ذلك... شهادة العلماء والفلاسفة الشهادة ليست دينية فقط وإنما علمانية وفلسفية أيضاً. وسوف نتحدث عن العلماء والفلاسفة الذين اضطهدتهم الكنيسة الكاثوليكية بعد قليل. ولكن دعونا نتحدث أولاً عن أول شهيد في تاريخ الفلسفة: سقراط. فقد سقط صريعاً دفاعاً عن أفكاره ومبادئه. وضرب به المثل على مدار التاريخ في الاستشهاد من أجل الحقيقة. لقد رفض التخلي عن مبادئه بل ورفض الهرب للنجاة بروحه وفضل أن يتجرع السم الزعاف على أن يتراجع. وهنا تكمن قمة الشهادة. فالشهيد يُفهم بمعنيين: إما أنه ذلك الشخص الذي يضحي بروحه من أجل الوطن، وإما أنه ذلك الشخص الذي يضحي بروحه من أجل عقيدته ومبادئه. إنه يفضل الموت على التراجع عن عقيدته. كما ويفضل التضحية بنفسه على خيانة وطنه. فنفس الشهيد رخيصة من أجل الوطن. هذا هو الشهيد الحقيقي. وكذلك الأمر في مجال الفكر. فسقراط كان من السهل عليه أن ينجو بروحه لو أنه قبل ولو ظاهرياً بالتراجع. أو لو أنه قبل بالهرب من أثينا كما فعل أرسطو لاحقاً. ومعلوم أن هذا الأخير تعرض لنفس التهمة التي تعرض لها أرسطو سابقاً وهي النيل من العقائد الدينية للمجتمع وإفساد الشبيبة. ولكنه فضل الهروب من أثينا تحت جنح الظلام على أن يموت شهيداً. وقال عندئذ عبارته الشهيرة: لن أدعهم يرتكبون جريمة أخرى ضد الفلسفة. يكفي أنهم قتلوا سقراط. والواقع أن سقراط نفسه كان يمكن أن يهرب من السجن بمساعدة أصدقائه ومحبيه، ولكنه رفض. وقد ألحوا عليه كثيراً لكي يقبل بالهرب وفي كل مرة كان يرفض ويعتبر ذلك عيباً لا يليق به. وقال عندئذ عبارته العظيمة: يستطيعون قتلي ولكنهم لا يستطيعون إلحاق الضرر بي. ولكن هل هناك ضرر أكبر من القتل والموت؟ نعم: إنه العار. وكان سقراط يقصد بذلك أنهم يستطيعون قتله جسدياً ولكنهم لا يستطيعون قتل سمعته أو تشويهها. وهذا صحيح. فالواقع أن سمعته ازدادت أضعافاً مضاعفة بعد قتله. بل وحوله الاستشهاد إلى أسطورة. وربما لولا موته بهذه الطريقة دفاعاً عن فلسفته ومبادئه لما بقي اسمه مخلداً إلى مثل هذا الحد. بل إن ذلك شيء مؤكد. فالشهادة سواء كانت من أجل الوطن أو من أجل الفكر تجعل اسمك لامعاً،مشرقاً، على صفحة التاريخ. نماذج مضيئة لكن دعونا الآن نعود إلى لائحة العلماء والفلاسفة الذين اضطهدتهم الكنيسة الكاثوليكية طيلة العصور الوسطى قبل انتصار الحداثة، ومعظم هؤلاء كانوا ملاحقين من قبل البابوات ورجال الدين، وكانوا مشبوهين في عقيدتهم وإيمانهم. وبالتالي فقد أقلقوهم ولاحقوهم وأقضوا مضاجعهم. ووصل الأمر «بميشيل سيرَ» (وهو أحد فلاسفة فرنسا المعدودين حالياً إن لم يكن الفيلسوف الأول) إلى حد القول بأنه لم يعش مفكر فرنسي واحد قرير العينين طيلة العصور الوسطى وحتى مشارف القرن العشرين. كلهم حوربوا من أجل أفكارهم ولوحقوا وهددوا، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: جيوردانو برينو، غاليليو، ديكارت، سبينوزا، كانط، جان جاك روسو، الخ.. فالمفكر الإيطالي جيوردانو برينو قطعوا لسانه وألقوه طعمة للنيران في كهوف الفاتيكان المظلمة دون أن يتراجع عن أفكاره التي يؤمن بها. وهذا أيضاً نوع من الشهادة. وقد اتهموه بنفس التهمة التي اتهم بها سقراط قديماً: أي النيل من العقائد الدينية المسيحية أو الاعتراف علناً بعدم الإيمان بها. أما غاليليو الذي جاء بعده بسنوات قلائل فقد تراجع عن أفكاره وكشوفاته العلمية لكي ينجو بروحه. ولكنهم على الرغم من ذلك حقدوا عليه واضطهدوه وأبقوه حبيس منزله حتى مات. ولكن بعد أن تطورت الكنيسة الكاثوليكية في عصرنا الراهن وتصالحت مع الحداثة العلمية والفلسفية شعرت بالخجل من تاريخها الأسود طيلة تلك العصور المظلمة. وهذا شرف لها في الواقع. فلولا أن بابوات روما تخلوا عن النزعة التعصبية التكفيرية التي كانت سائدة في القرون الوسطى لما استردوا احترام البشرية لهم ولما أنقذوا شرف دينهم وعقيدتهم. فالبابوات السابقون كانوا تكفيريين ظلاميين حتى منتصف القرن العشرين. بعدئذ انخرطت الكنيسة الكاثوليكية في حركة إصلاحية ضخمة متخلية عن أفكار التعصب والتزمت وتكفير العالم الحديث. ولولا ذلك لما أصبح بابا روما الحالي نجماً من نجوم الكرة الأرضية. بل وقرأت مؤخراً أن البابا الأرجنتيني فرانسيس أصبح أهم رجل في العالم نظراً لتركيزه على قضية الفقراء والعدالة والمساواة واحترام كرامة الإنسان أيا كان وليس فقط الإنسان المسيحي الكاثوليكي. فالجميع مخلوقات الله ويستحقون عطفه ورعايته أيا يكن دينهم أو مذهبهم أو عقيدتهم وبخاصة إذا كانوا طيبين صادقين فاعلين للخير.انظروا مانشيتات الصحف والمجلات الفرنسية بعد زيارة البابا للولايات المتحدة. كلها تمجد به وبدفاعه عن قضايا الحق والعدل في شتى أنحاء العالم. وكلها تشيد بإدانته للجشع المالي والمصرفي للرأسمالية. ولكن في عهد جيوردانو برينو وغاليلو ما كانت الأمور هكذا. كان البابوات يكفرون العلماء والفلاسفة على طول الخط تقريباً. وكانوا يلاحقونهم ويقطعون رؤوسهم أو يرعبونهم على الأقل. كانوا «داعشيين» مثلنا وربما أكثر منا. ثم تطوروا وتغيروا وأصبحوا يفتخرون بالعلم والعلماء، بالفلسفة والفلاسفة. ولولا ذلك لما تقدموا وتحضروا وتفوقوا علينا وعلى كل أمم الأرض. فمن لا يحترم العلم والعلماء لا خير فيه. ديكارت أيضاً مات شهيداً! ماذا عن رينيه ديكارت أكبر فيلسوف فرنسي على مدار التاريخ؟ إنه مفخرة فرنسا والفرنسيين. آخر الأبحاث اكتشفت مؤخراً أنه مات مقتولاً! لقد قتلته الأصولية المسيحية البابوية. وهكذا طمست الحقيقة مدة أربعة قرون متواصلة قبل أن تنفجر أخيراً. أو قل إنها كبتت لمدة 365 سنة لكي نكون أكثر دقة. وهذا يعني أن الحقيقة قد تنام طويلاً، قد تطمس كثيراً، لكنها لا تموت. ومن الذي حقق هذا الاكتشاف المدوي؟ إنه الباحث الألماني تيودور ايبيرت أستاذ الفلسفة في جامعة ايرلانجين بولاية بافاريا. فقد أصدر عام 2009 كتاباً بعنوان: «الموت السري المجهول لديكارت» ( ترجم إلى الفرنسية بعنوان مختلف قليلاً: «لغز موت ديكارت»، ويبدو أن الترجمة ناجحة جداً وموفقة وليت أن كل الترجمات بالعربية تكون صحيحة ودقيقة مثلها). لنختصر القصة بسرعة شديدة. ديكارت يذهب إلى استكهولم بالسويد بدعوة من الملكة كريستين خريف عام 1642. وهذا يعني أن شهرته كانت قد طبقت الآفاق وتحولت إلى أسطورة. وإلا فلا تدعوه الملوك لزيارتها وتلح في الدعوة. وفي كل صباح كان يعطيها دروساً في الفلسفة. ويبدو أنها على عكس الملوك الآخرين أو رجال السلطة كانت ذات فضول معرفي كبير. تقول القصة الرسمية بأن برد استكهولم الشديد أدى إلى إصابة الفيلسوف بنزلة بردية أو التهاب رئوي وأنه مات بسبب ذلك، لكن تيودور ايبيرت يفكك هذه القصة ويطيح بها تماماً ويثبت أنها مغلوطة. فالحقيقة أن الكاهن فرانسوا فيوغيه «مرشد» السفارة الفرنسية في العاصمة السويدية هو الذي قتله عن طريق تقديم القربان المقدس له مسموماً. والدليل على ذلك أن ديكارت عندما أحس بأنهم غدروا به طلب وهو يتوجع أن يعطوه شراباً كريهاً يساعد على التقيؤ لكي يخرج السم من جسده. ولكن هيهات. فالسم كان قد انتشر والضرر قد حصل. وهكذا مات مدشن الفلسفة العقلانية الحديثة وأحشاؤه تكاد تتمزق. ولكن السؤال المطروح هو التالي: لماذا قتله هذا الكاهن الأصولي وهو المسيحي الكاثوليكي مثله؟ لو كان ديكارت بروتستانتيا لفهمنا أنه قتله لأسباب طائفية أما وأنه كاثوليكي بل ومن عائلة كاثوليكية معروفة في فرنسا فإننا نستغرب مصرعه على يد كاهن من نفس المذهب والطائفة. في الواقع كان هذا الكاهن يكره ديكارت ويشتبه في صحة اعتقاده. بل وكان يعتبر فلسفته بعيدة جداً عن المذهب الكاثوليكي وأقرب ما تكون إلى المذهب البروتستانتي الإصلاحي العقلاني. وبما أن الملكة كريستين كانت تنوي ترك مذهبها البروتستانتي والتحول إلى المذهب الكاثوليكي البابوي فإن الكاهن فرانسوا فيوغيه خشي من تأثير أفكار ديكارت العقلانية عليها. لقد خشي أن تؤدي دروسه إلى إقلاعها عن الفكرة كلياً. باختصار شديد لقد رأى في ديكارت عقبة في وجه تغيير الملكة لمذهبها، ولذلك قتله. الشهادة في القرن العشرين أولا ينبغي القول بأن احتفال الفرنسيين بشهدائهم ومقاومتهم للاحتلال النازي شيء كبير ومدهش. كل من عاش في فرنسا زمناً طويلاً يدرك ذلك. فالأفلام السينمائية المكرسة للحرب العالمية الثانية بل وحتى الأولى لا تعد ولا تحصى. والكثير منها ذو نوعية جيدة بل وممتازة لأنه بعيد عن البروباغندة التي قتلت الفن والأدب السوفياتي الشيوعي. ولكن ليست السينما هي وحدها التي تحتفل بالشهادة والشهداء والتضحيات الكبرى للشعب الفرنسي إبان تلك المرحلة العصيبة. وإنما تشارك أنواع الفنون الأخرى في ذلك كالشعر والأغاني مثلاً. كلنا يتذكر قصيدة بول ايلوار الشهيرة: أكتب اسمك يا حرية! لنقرأ بعض المقاطع: حرية على دفاتري المدرسية على المنبر والأشجار على الرمل والثلوج اكتب اسمك يا حرية *** على كل الصفحات المقروءة على كل الصفحات البيضاء حجر، دم، ورق، أو رماد اكتب اسمك يا حرية *** على الصور الذهبية على أسلحة المحاربين على تيجان الملوك اكتب اسمك يا حرية *** على الأدغال والصحراء على الأعشاش والأزهار على أصداء طفولتي المنسية اكتب اسمك يا حرية *** على الحقول، على الآفاق على أجنحة العصافير على طاحونة الظلال اكتب اسمك يا حرية الخ.. كتب ايلوار هذه القصيدة عام 1942 أي في عز الاحتلال الألماني لفرنسا. وكانت بمثابة نشيد مرفوع إلى الحرية المفقودة، الحرية الغالية، التي لا نعرف قيمتها إلا عندما نفقدها. وفيها يتحدث الشاعر عن كل الأماكن الواقعية أو الخيالية التي أراد أن ينقش عليها كلمة واحدة: الحرية. ومعلوم أن فرنسا لم تشهد في تاريخها هزيمة ساحقة ماحقة كتلك التي شهدتها عام 1940 على يد هتلر والنازية. لم تشهد إذلالاً كذلك الإذلال. فقد دخلها فاتحاً وداس على ترابها الوطني وراح يتبختر تحت برج إيفل أو على جادة الشانزيلزيه أجمل شارع في العالم. وبالتالي فقد بقيت تلك اللحظة القاصمة محفورة في الوجدان الجماعي الفرنسي إلى الأبد. ولولا أن الجنرال ديغول استلم شعلة المقاومة ورفعها عالياً وحقق الانتصار في نهاية المطاف، ودخل باريس محرراً عام 1944 لربما انتهت فرنسا ولما قامت لها قائمة بعد هزيمة مدوية من هذا النوع. ولهذا السبب لم يبق أديب أو شاعر أو فنان إلا وشارك في تمجيد البطولة والمقاومة والشهادة والشهداء. يكفي أن نذكر هنا أيضاً بعض قصائد أراغون الخالدة. والواقع أنه لا توجد أمة من الأمم إلا وهي تمجد أبطالها وشهداءها الذين ضحوا بأنفسهم- أي بأغلى ما عندهم- من أجل الوطن والحرية. وهل ننسى ذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه أندريه مالرو تخليداً لبطل المقاومة الفرنسية جان مولان؟ كان ذلك يوم 19 ديسمبر من عام 1964 في احتفال مهيب حضره الجنرال ديغول شخصياً وبقية قادة الدولة الكبار. وكان ذلك بمناسبة نقل رفات جان مولان إلى البانتيون: أي مقبرة العظماء الواقعة في أعلى الحي اللاتيني بباريس. والتي تضم أيضاً رفات فولتير وجان جاك روسو وفيكتور هيغو وبقية العظماء الذين تفتخر بهم فرنسا. لقد هز أندريه مالرو الحضور وهو يلقي خطابه التأبيني بكل حماسة وانفعال. وربما أبكى الكثيرين عندما تحدث بصوته الأجش عن كيفية القبض على جان مولان وتعذيبه من قبل الغستابو بشكل وحشي دون أن ينالوا منه سراً واحداً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وضرب بذلك مثلاً على الشهادة والشهداء وعلى البطولة التي تفوق طاقة البشر أيضاً. وجان مولان هذا كان رئيساً للمجلس الوطني للمقاومة الفرنسية الداخلية وممثلاً شخصياً للجنرال ديغول قائد فرنسا الحرة. وكان يعرف بالتالي كل أسرار المقاومة ومعظم رجالاتها وقادتها في المحافظات. ولو أنه باح بأسرارها لتم القبض على الجميع حتماً ولقصم ظهر المقاومة.. لهذا السبب فإن الفرنسيين يحتفلون به كل عام ويقيمون له النصب التذكارية ويخلدونه بكل أنواع الفنون والرسوم والموسيقى والغناء. ومعلوم أن أندريه مالرو كان وزيراً للثقافة طيلة عهد ديغول وبالتالي فقد فعل كل شيء لتخليد اسمه على صفحة التاريخ. وهذا حق. فقد ضحى الرجل بنفسه من أجل الوطن. وهل هناك أغلى من التضحية بالروح والنفس؟ أما الخونة والعملاء فتلاحقهم لعنات الأجيال على مدار التاريخ. فكروا هنا باسمين فقط: اسم ديغول، واسم بيتان. الأول فعل كل شيء لسحق النازيين وتخليص بلاده من شرهم واحتلالهم، والثاني انحنى لهم وتعامل معهم ونفذ رغباتهم. فحقت عليه اللعنة في الدنيا والآخرة. أخيراً نلاحظ أن الشهادة سواء في مجال الفكر،أو في ساح القتال، هي التي تؤدي إلى تقدم حركة التاريخ: إلى انتصار الحقيقة وتحقيق الكشوفات. وهي التي تؤدي إلى اندحار الباطل والظلم في معظم الأحيان. ولكن في كلتا الحالتين فإن ثمن انتصار الحقيقة واندحار الباطل غال جداً. من هنا عظمة الشهادة والشهداء. إنّها.. بشعة إبّان الحرب الأولى (1914- 1918) سقط ما لا يقل عن مليون ونصف مليون فرنسي من أصل تسعة ملايين أوروبي. وفي الحرب الثانية سقط أكثر من نصف مليون فرنسي من أصل ستين مليون قتيل أوروبي. هذا فضلاً عن الجرحى والمقعدين الذين شوهت حياتهم وفقدوا قدرتهم الجسدية إلى الأبد. ناهيك عن الدمار الذي أصاب المدن والمباني، حيث سويت بالأرض وتحولت إلى أنقاض في أماكن كثيرة. ميشيل سيرَ: لم يعش مفكر فرنسي واحد قرير العين طيلة العصور الوسطى وحتى مشارف القرن العشرين تعصّب طائفي الشيء العجيب الغريب هو أن الجامعات الألمانية استقبلت كتاب الباحث الألماني تيودور إيبيرت «الموت السري المجهول لديكارت» بحفاوة كبيرة، واهتمت به واعتبرته حدثاً حقيقياً في تاريخ الكشوفات الفكرية، ولكن الجامعات الفرنسية أهملته ومررته تحت ستار كثيف من الصمت. والشيء البشع وغير المقبول إطلاقاً هو رد فعل الفيلسوف جان لوك ماريون على الكتاب. فقد اعتبر المسألة ثانوية ولا تستحق أي اهتمام. لكن سرعان ما يزول تعجبنا إذا ما عرفنا أن جان لوك ماريون فيلسوف كاثوليكي. وبالتالي يصعب عليه اتهام مذهبه بالقتل. إنه يريد الدفاع عنه بأي شكل. مضحياً بالحقيقة لأجل اعتبارات طائفية. وهذا شيء محزن في بلد متقدم ومتنور كفرنسا. لكنه أيضاً أكبر دليل على أن التعصب الطائفي يصعب جداً اقتلاعه من النفوس. فاذا كان الفلاسفة لا يزالون متحيزين لطائفتهم فما بالك بالناس العاديين؟ بيد أنه ينبغي الاعتراف بأن حالة جان لوك ماريون شاذة أو نادرة جداً في فرنسا المعاصرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©