الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجهاً لوجه مع إبليس

وجهاً لوجه مع إبليس
25 نوفمبر 2011 22:06
كنت ضمن الثلاثة ملايين آدمي الذين استضافهم الله في بيته في حج هذا العام، ولأن إفشاء علاقة العبد بربه قد تضلله بسحابة الرياء وتمطره بحجارة عدم القبول، فيُحبط عمله ويضيع تعبه «بَلّوشي»، فليس أمامي إلا الحديث عن الذي دار بيني وبين إبليس خلال تلك الرحلة. ولا أعرف إن كنت من يختار الكتابة عن إبليس أم هو الذي يغريني الآن بذلك، فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، وفوق هذا، فهو يبلغ من العمر آلاف السنوات، بينما الآدمي لو عمّر فإنه بالكاد سيتجاوز المئة سنة من عمره، ومن يكبرك بيوم أفهم منك بسنة. وحكايتي مع إبليس بدأت فور تسجيل اسمي في حملة الحج، إذ في تلك اللحظة شعرت بكآبة لا يمكن وصفها، فكيف أترك ما تعوّدت عليه من عيش خاطئ، وإصرار عنيد على الموبقات، وإهمال لذيذ للواجبات؟ وهل يمكن أن أفتح صفحة جديدة برحلة لا تكلّف إلا بضع آلاف من الدراهم ولا تستغرق سوى أيام قلائل؟ وهل يمكن أن أخدع نفسي فأقول إنني سأفتح الصفحة الجديدة، لكنني سأترك مجالاً للعودة إلى الصفحة السابقة، على الأقل أحتفظ بقصاصة صغيرة منها؟ بقيت أياماً أقلّب الأمر في رأسي وصدري، فإن كنت لم أقرر بعد قراراً صادقاً بفتح صفحة جديدة، فما الداعي إلى الذهاب إلى الرحلة؟ وإن كان لا بد من اتخاذ ذلك القرار، فكيف اتخذه وهو أصعب قرار في حياتي؟ ولا أعرف كيف انقطع صوت إبليس في داخلي في اليوم الأخير، ربما توارى عني ليراقب تصرفاتي ثم يقرر الطريقة التي سيتعامل بها معي، إذ ما أن وضعت رجلي في مطار دبي الدولي اتخذت القرار وقُضي الأمر، وأخذت أمشي في المطار بين جموع الحجّاج والمسافرين وأنا شخص آخر لا يمت بصلة إلى الشخص الذي دخل المطار سوى الكندورة البيضاء التي كان وكنت أرتديها. مضت الأيام في الديار المقدسة على خير لدرجة أنني نسيت أن هناك شيئاً اسمه إبليس، وربما كان السبب هو الإجهاد البدني المستمر ما بين صلوات وطاعات وطواف حول البيت العتيق وصعود ونزول من أدوار المسجد الحرام ومشي وهرولة بين الصفا والمروة، لدرجة أنني أعتقد أن إبليس يصاب بالإحباط من المؤمنين بطبيعة الحال، وكذلك من الأشخاص الذين يمارسون رياضات مجهدة، فالذي يركض في اليوم الواحد عشرة كيلومترات ليس لديه الوقت أو الطاقة ليستمع إلى سخافات إبليس. وإبليس نفسه يغريني الآن كي أكتم بعض المواقف التي حضر فيها واستطاع أن يوغر صدري على بعض الحجّاج، واستطاع في أثناء الطواف حول البيت تحريك يدي نحو أحد الحجّاج ودفعه بقوة، هو الذي فعل وكنت مجرد دمية بين يديه، ودخل في فمي وأخذ يسحب لساني ليسبّ ذلك الحاج، لكنني أطبقت على يديه بأسناني وكظمت غيظي. وفي يوم عرفة، غاب إبليس عن وعيي تماماً، وهكذا في مزدلفة التي نفرنا إليها بعد مغيب شمس يوم عرفة، وربما التقيت به مرة واحدة أثناء الاصطفاف أمام دورات المياه في المشعر الحرام، فأمام كل حمّام هناك طابور يتكوّن من عشرة أشخاص على الأقل، ومن الطبيعي أن تسمع في تلك اللحظات أصوات غريبة، وكان يأتيني مع كل صوت ليغريني بالقهقهة أو على الأقل تبادل نظرات الاستهزاء مع الحجّاج الآخرين، لكنني كنت أقول له: هذا مستواك يا عدو الله، لا تطل برأسك إلا أمام بيوت الخلاء، ولولا أن رميك بالحجارة لا يكون إلا في اليوم التالي لرميتك بنعالي هذا. وبعد أن قضينا ليلتنا في العراء وجمعنا الجمرات، تحركنا بعد طلوع شمس يوم النحر نحو مشعر منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، ولم يخطر ببالي كيف يمكن أن أرمي إبليس في أثناء المسير مع الملايين، فالشيء الذي سنرميه بالحصوات ليس إلا أعمدة حجرية مثبتة في الأرض في ثلاثة مواقع، صحيح أنها ترمز إلى إبليس الذي تراءى لنبي الله إبراهيم في تلك المواقع، إلا أن تخيّل تلك الأعمدة رمزاً لإبليس بقي عصياً على خيالي ولم أستطع تمثّله. وبالاقتراب من العمود الحجري أو الشاهد كنت لا أزال عاجزاً عن التخيّل والحصوات السبع في يدي، وحين واجهت العمود تماماً، رفعت يدي وأنا أرتدي الإحرام وانطلقت كلمة «خُذ» من فمي بينما أرمي الحصاة الأولى، ولا أدري لم جرت الكلمة على لساني بالعربية الفصحى بدلاً من اللهجة العامية التي أفكّر فيها في الغالب، ويبدو أنني انفصلت في تلك اللحظة عن الوعي بوجود ملايين الناس من حولي وعمّن أكون وإلى أي جماعة أنتمي، ولم يكن هنالك سوى الله ونفسي وإبليس. كنت أشعر بألم في نفسي مع كل حصاة أرميها، إذ كنت أقف بين يدي سيدين خدمتهما معاً، الأول هو الذي أنعم علي بكل شيء وأباح لي جميع الملذّات الحلال، لكنني لم أقم بخدمته في الغالب إلا بتثاقل. والثاني هو عدوي الذي يقف خلف جميع الملذّات الحرام، لكنني مع هذا كنت أتبعه في أحيان كثيرة طوال حياتي، وكان يجدني دائماً خفيف الحركة أمام أوامره وعلى أهبة الاستعداد. وفي تلك اللحظات كنت مبتهجاً لأنني أرضيت الرحمن وأرغمت أنف الشيطان، وفي الوقت نفسه، كنت أشعر بالخجل من السيد المزيّف وكنت أسمعه يقول بنبرة عتاب: ترميني وأنا من شاركك تلك اللذة؟ ترميني وأنا من مهّد لك السبيل لتلك المعصية التي كنت غارقاً فيها؟ ترميني وأنا من كنت معه في هذه وتلك؟ لكنه لم يكن يسمع مني سوى كلمة «خُذْ». انفلتُ من الزحام بعد أن رميت إبليس الذي كان حقيقياً، ومشيت وأنا مصاب بالذهول وسرى الألم النفسي إلى ضلوعي وعظامي، وشعرت بوهن في كامل أنحاء جسدي: هل خرجت روحي وعادت من جديد؟ هل الحصوات كانت ترتد من الشاهد لتضرب روحي؟ لا أدري.. وأوشكت على البكاء لكنني تمالكت نفسي، فالناس من حولي فرحين برمي إبليس بينما أنا أريد أن أبكي، لا بد أنهم سيعتقدون أنني إبليس نفسه. منذ تلك اللحظة وأنا أعيش معاناة زجر النفس، فلا شيء أثقل عليّ من سماع ضحكات إبليس وهو ينظر إليّ وأنا أطيعه ويقول لي ساخراً: كنت ترميني يا مسكين وها أنت تعود إليّ من جديد. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©