الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سقوط «أوراق الخريف»

سقوط «أوراق الخريف»
15 نوفمبر 2012
هذا الكتاب عنوانه “أوراق الخريف”، وهي يوميات السفير والوزير التونسي الأسبق الهادي المبروك، وقد مات المؤلف منذ 12 عاماً، ولكن مذكراته لم تصدر إلا هذه الأيام، ولعله أوصى عائلته وأبناءه بأن لا ينشر كتابه إلا بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي رغم أنه لم يتعرض له إلا لماما. والمؤلف شغل وظائف كثيرة منذ استقلال تونس عام 1956 وإلى آخر يوم من عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في 7 نوفمبر 1987، وكان آخر منصب له هو وزير الشؤون الخارجية، كما تولى قبل ذلك وعلى امتداد أربعة عشر عاماً بأكملها منصب سفير لتونس في فرنسا من عام 1973 إلى عام 1986، وهي أطول فترة اضطلع بها سفير تونسي في أي بلد مهما كان. كتب مقدمة المذكرات الصادرة باللغة الفرنسية الشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية سابقا، ولا شك في أن صداقة كانت تربط بين الرجلين وهما ينتميان إلى جيل واحد وقد عملا طويلاً مع بورقيبة. يقول الهادي المبروك في توطئة مذكراته: “إنّ الصدفة والحظ يتيحان أحيانا لرجل أن يكون شاهداً على تاريخ بلاده وأن يكون في قلب الأحداث دون أن تكون له كفاءة أكبر من غيره”، ويصح القول إن الهادي المبروك بحكم المسؤوليات الكثيرة التي اضطلع بها، وبحكم قربه أيضاً من الرئيس الحبيب بورقيبة يمكن اعتباره شاهدا على فترة حاسمة من تاريخ تونس المعاصر، وبالتالي فإن مذكراته تعد وثيقة يمكن للمؤرخين الاستفادة منها والاعتماد على المعلومات الكثيرة التي وردت فيها. والكاتب يجيد اللغة الفرنسية إجادة بالغة، ويتقن التحرير بها، وقد كتب مذكراته بأسلوب أدبي بديع مطرز بكل ما تزخر به اللغة الفرنسية من بلاغة، ومزج في أسلوبه بين السرد والشاعريّة. ويقدم المؤلف في كتابه تحليله الشخصي لطبائع الشعب التونسي مبيّنا خصاله وعيوبه، مبرزاً تاريخ تونس العريق وما عرفته من حضارات متتالية على مرّ العصور، مبينا أنها استطاعت دائماً أن تحافظ على خصوصيتها وأن تحمي هويتها وأصالتها رغم ما عانته على امتداد تاريخها الطويل من غزوات واحتلال. الشرفاء والانتهازيون ولا يخفي الوزير السابق إعجابه الكبير بالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وهو على امتداد هذه المذكرات يكيل له المديح مبرزا خصاله الإنسانيّة والسياسية، مؤكداً أنّ بورقيبة وبعد أن بقي في الحكم 30 عاماً خرج من السلطة وهو لا يملك منزلاً ولا عقارات ولا حساباً بنكيّاً في الخارج. وعدّد المؤلف في السياق نفسه أسماء شخصيّات سياسية عديدة نظيفة اليد، خدمت وطنها بإخلاص دون السعي لجني مصالح ماديّة أو منافع شخصيّة، ولكنه أستدرك ليقول إنّ المجتمع التونسي كغيره من المجتمعات لا يخلو من سياسيين منافقين جشعين ولصوص. وروى قصصا كثيرة عن تونسيين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي وقدّموا خدمات كبيرة للمحتلين، ثمّ عندما استقلت البلاد تحوّلوا فجأة وبقدرة قادر الى مناضلين ونجحوا بدهائهم وخبثهم وانتهازيتهم في محو ماضيهم الأسود مع المستعمر، ولبسوا ثياباً جديدة تماشياً مع مرحلة الاستقلال ومنهم من أصبح وزيراً ومنهم من أصبح مسؤولاً كبيراً. وأورد المؤلف قصّة أحدهم، لمح إليه تلميحاً دون ذكر اسمه، وصل به الأمر إلى حدّ دفع زوجته الحسناء إلى ربط علاقة مشبوهة مع من رأى أنه بإمكانه من الفرنسيين مساعدته على تسلق الرتب للوصول إلى أعلى المناصب، وقد رفضت زوجته هذا الطلب الحقير وانفصلت عنه. ويكشف المؤلف أن بعض من أصبحوا وزراء ومسؤولين كبار في الدولة في الفترة الأولى من استقلالها هم من كبار المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي، وأنهم كانوا “مخبرين” لسلطات الاحتلال وموالين لفرنسا قلباً وقالباً، ونجح كل منهم بأسلوبه بعد الاستقلال في خلع ثوب “المتعاون” مع الاستعمار ليصبح “المناضل” الشريف والوطني الغيور. والحقيقة أن ما ورد في هذه المذكرات هي حقائق ولكن يبدو أن المؤلف بحرصه على سردها وتوثيقها كأنه يصفي حسابات قديمة مع مثل هذه الشخصيات الانتهازيّة التي يصفها بـ”النعاج”، فقد راوح في وصفها بين النقد والسخريّة وفضح وجهها القبيح، ورغم أنه لم يذكرها بالاسم، لكنه يعطي من المعلومات ما يجعل من اليسير للمطلع والمتابع معرفتها. ملوك تونس وأشاد المؤلف في مذكراته ببعض بايات (ملوك) تونس والذين حكموا البلاد في العهد الحسيني، ومنهم الوطني الملك منصف باي الذي عزلته السلطات الاستعمار عن عرشه ونفته عقابا له على مواقفه المؤيدة للحركة الوطنية ومات في المنفى، علماً بأن بورقيبة أنهى الحكم الملكي في تونس في 25 يونيو 1957 وأقام النظام الجمهوري، وكان دائم النقد لهم وأمم أملاكهم وأهان البعض منهم حتى أن آخر ملوك تونس مات في شقة متواضعة بعد أن تم طرده من القصر، والملفت أنّ الهادي المبروك يدافع في كتابه هذا عن ملوك تونس أو بعضهم على الأقلّ ليؤكد أنهم أدّوا دوراً وطنيّاً، وهو يدعو المؤرخين إلى إنصافهم. دهاء بورقيبة والهادي المبروك أشاد إشادة كبيرة في كامل فصول مذكراته بالرئيس الحبيب بورقيبة معدّداً خصاله الإنسانيّة والسياسية مبرزاً إنجازاته العديدة ووصل إلى حدّ وصفها بـ”الملحمة”، ووصف بورقيبة بـ”الأسطورة” و”العبقريّ”، كما امتدح ثقافته الواسعة وحبّه للشعر العربي والفرنسي وحمّل بعض أخطائه لحاشيته وبعض المحيطين به. وأثناء تعداد خصاله وإبراز دهائه السياسي أورد حادثة طريفة حصلت أثناء لقاء عاصف جمع بين بورقيبة والزعيم النقابي الشهيد فرحات حشّاد في فندق في باريس قبل استقلال تونس، فأثناء النقاش بينهما واختلاف وجهات النظر بلغ الغضب ببورقيبة حدّ تمزيق قميصه مبديّاً حماسه، وأمام فورة الغضب غادر الزعيم النقابي الفندق بعد أن أبدى تأثره لوصول بورقيبة لحدّ تمزيق قميصه. ومباشرة بعد خروجه ضحك بورقيبة وعاد إلى هدوئه وقال لمن حوله: “لقد اقتنع فرحات بوجهة نظري ولم يكلفني ذلك إلاّ قميصي”، فبورقيبة قد افتعل الغضب وأدى دورا بإحكام للتأثير على حشاد ونجح في ذلك. كما أورد المؤلف أمثلة عديدة للاستدلال على تواضع الحبيب بورقيبة ولطفه مع مساعديه ووطنيته الصادقة، مقدما عنه صورة رجل الدولة الذي جمع بين الحزم والليونة. والكتاب مملوء بالقصص والنوادر التي حصلت بين بورقيبة وبعض من حوله، وقد أورد الهادي المبروك بعضها ليستنتج أنه رجل حاضر البديهة ومثقّف وطيّب القلب، وكشف عن مواقف عاشها تؤكد أن بورقيبة كان يسخر من بعض الوزراء الذين يبالغون في إظهار الولاء له ومدحه تزلفاً ونفاقاً، فهو يتظاهر بقبول تملقهم له ولكنّه كان بعد خروجهم من اللقاء معه يتهكم من انبطاحهم ومبالغتهم في إطرائه. ودون أن يسميه فقد قدّم المؤلف وصفاً ساخراً لاذعاً لوزير خارجيّة تونس سابقاً محمد المصمودي، وليس أمراً عسيراً أن يستنتج القارئ أن صاحب المذكرات يصفي حسابات قديمة مع الرجل لأنه يقدم عنه وصفاً يصل حد الكاريكاتور. كما قدم الوزير رأيه الناقد لبعض الإعلاميين الذين بالغوا هم أيضا في مدح بورقيبة والنفخ في شخصيته تملّقا مؤكدّاً أنّ ضرر ذلك كان أكثر من نفعه، شارحاً أن المتملّقين المتزلفين من الصحافيين كان هدفهم الحفاظ على مصالحهم الماديّة والامتيازات التي كانوا يتمتّعون بها. تحرشات القذافي واستعرض السفير الهادي المبروك العلاقات الشخصيّة القويّة التي نجح في ربطها مع الشخصيّات الفرنسية النافذة عندما كان سفيراً بباريس، وضرب على ذلك أمثلة كثيرة من بينها الحادثة التالية: كانت العلاقات بين تونس وليبيا مضطربة في عهد معمر القذافي، ووصلت في مرات كثيرة إلى حد التشنج والأزمات الحادة التي كادت تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وحصل أن اختطفت ليبيا رجلي أمن من الحدود التونسيّة الليبيّة، ولأنّ تونس لم تكن ترغب في الدخول في نزاع مسلّح مع ليبيا ولا تريد أيضا أن تفقد ماء الوجه أمام الرأي العام فقد أعلمت فرنسا بما حدث وطلبت مساعدتها، وفعلاً حالما علم جاك شيراك رئيس الحكومة آنذاك في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان بالأمر حتى سارع بالاتصال هاتفيّا بعبد السلام جلود ـ وكان الرجل الثاني في ليبيا وقتها ـ ليقول له: “إذا كنا نعتبر الليبيين أصدقاء، فإننّا نعتبر التونسيين إخوة وإننّا سنكون إلى جانبهم بهذه الصفة إذا اندلع بينهم وبينكم أيّ نزاع”. وفي اليوم نفسه، وبعد هذه المحادثة بساعات أطلقت ليبيا سراح رجلي الأمن التونسيين. وكشف الهادي المبروك عن أسرار أخرى كثيرة بوصفه شاهد عيان، فقد هجمت مجموعة مسلحة من التونسيين المتدرّبين في ليبيا على مدينة “قفصة” بالجنوب التونسي وكانت غايتهم الاستيلاء على ثكنة للجيش تمهيدا لانقلاب على حكم بورقيبة. وما أن أحاطت الحكومة التونسية فرنسا بما حصل حتى هبت بسرعة لحماية تونس من أي خطر يهدد أمنها واستقرارها. وجاء في مذكرات السفير أنّ السلطات الفرنسيّة كانت تتنصّت على مكالماته التلفونيّة أيام هذه الأزمة، وكانت على علم بكل ما دار بين السفير ودولته، وقد طلبت الحكومة التونسيّة في عهد رئيس الحكومة سابقا الهادي نويرة النجدة من فرنسا في مواجهة الخطر الداهم من ليبيا التي دربت وجندت عناصر تونسية وأرسلتهم لإحداث الفوضى والقيام بأعمال تخريبية، تمهيداً لقلب نظام بورقيبة، واستجابت فرنسا على الفور وقرّرت إرسال تعزيزات عسكرية إلى تونس لحمايتها ولردع ليبيا، ومن بين تلك التعزيزات طائرات عسكرية عملاقة إلاّ أنّ تونس طلبت من الهادي المبروك السعي لدى وزير الدفاع الفرنسي لمحو العلم الفرنسي المرسوم على الطائرات للتمويه ولاعتبارات سياسية، ولأنّ السفير التونسي كان لبقاً وديبلوماسياً فقد نقل للوزير الفرنسي طلب الحكومة التونسية، معللاً الطلب بحجّة مفادها أن المقصود بذلك هو رفع الحرج عن فرنسا من مواقف دول مغاربيّة أخرى ـ ولعلّه يقصد الجزائر دون أن يسميها ـ ولكن الوزير الفرنسي لم يقبل طبعا نزع علم بلاده، ولكن رفضه جاء في قالب ديبلوماسي وفيه الكثير من الدهاء السياسي، إذ قال لمحاوره الهادي المبروك: “ولكن سعادة السفير: إذا محونا علم فرنسا من على الطائرات فسيذهب في ظنّ الكلّ أنها طائرات أميركيّة وهو ما قد يزيد الطين بلّة لدى جيرانكم والرأي العام لديكم”. وهذا مثال من أمثلة كثيرة قدّمها المؤلف في كتابه تكشف دهاء السياسيين وقوّة كلّ طرف في الاستدلال على وجهة نظره وكلّ ذلك بأسلوب في ظاهره ناعم وهادئ ودبلوماسي ولكن في جوهره مواقف مصالح وأهداف. ويعرّج الهادي المبروك في مذكراته على اتفاق الوحدة بين تونس وليبيا والذي وقعه العقيد المعمر القذافي والرئيس الحبيب بورقيبة عام 1974، وهو اتفاق وقع تحريره على ورقة عادية من أوراق فنادق “أوليس” بجزيرة “جربة” التونسيّة، ولم يتردّد صاحب المذكرات في اتهام محمّد المصمودي الذي كان وقتها وزير خارجية تونس ـ دون تسميته ـ صانع هذه الاتفاقية بـ”الخيانة”. قواسم مشتركة ويستعرض المؤلف في مذكراته الكثير من المواقف والمحادثات غير الرسميّة التي كانت بينه وبين بورقيبة أثناء زيارات هذا الأخير الكثيرة إلى باريس للتداوي أو الاستجمام، وكان بورقيبة مغرما بالتجوال في شوارع باريس ليسترجع ذكريات شبابه عندما عاش طالباً في العاصمة الفرنسيّة. ويستخلص القارئ من خلال ما ورد في هذه المحادثات الجانبيّة غير الرسمية ذكاء بورقيبة وحذقه اللغة الفرنسيّة وميله إلى السخريّة والمزاح أحياناً، كما أنّ المؤلف يظهر في هذه المذكرات كرجل مثقف وحاضر البديهة وديبلوماسي محترف وصاحب نكتة عند اللزوم، فهو من خلال استعراض بعض ما دار بينه وبين الرئيس يرضي أيضا نرجسيته بإبراز خصاله الفكريّة والسياسية وذكاءه في التخلّص من بعض المواقف المحرجة التي يضعه فيها بورقيبة أحياناً، ورغم أنه يستعمل دائما في الحديث عن بورقيبة كلّ عبارات التقدير إلاّ أنه يضع نفسه أحياناً ندّاً للندّ معه، فهما يشتركان في الدهاء السياسي ولهما قواسم مشتركة كالتشبّع بالثقافة الفرنسيّة والحنكة السياسية والبراغماتية. المسكوت عنه والهادي المبروك لا يخف كفاءته في أداء مهمته كسفير مبرزا قوّة العلاقات التي نسجها مع أصحاب القرار في باريس حتّى أنّه ـ كما جاء في المذكرات ـ علم من صديق فرنسي له مقرب من الرئيس الراحل فرانسوا ميتران أن هذا الأخير يعتزم استبدال رئيس الحكومة وقد علم السفير التونسي بالخبر السري الهام قبل إعلانه رسميا، وهو ما يعني أن السفير كانت له شبكة قوية من العلاقات. والملاحظ أنّ المؤلف، كما يظهر نفسه، هو دائماً الرجل القادر على حلّ أي مشكل سياسي أو ديبلوماسي مهماً كان متشعباً وعويصاً، ولم يذكر أبداً مثالاً واحداً لفشله في مهمة أو عدم توفقه في مسألة، ممّا يعطي انطباعاً بأنّ السفير والوزير الهادي المبروك لا يخلو من نرجسيّة في سرده لمسيرته السياسية، فهو قد نجح في كلّ مهمة كلّف بها، وهو دائما محلّ رضا بورقيبة وإعجابه، ومن خلال ما جاء في مذكراته يعطي المؤلف عن نفسه صورة تكاد تكون مثاليّة، ولم نجد لدى صاحب المذكرات أي نقد ذاتي أو اعتراف بخطأ أو سوء تقدير علما وان كتابات ووثائق أشارت إلى أن الهادي المبروك كان يحمل الجنسية الفرنسية إلى جانب الجنسية التونسية؛ ولذلك تفسيرات شتى، وهناك تسريبات نشرت أيضاً تقول إن الهادي المبروك كان مرسما ضمن سلك المحافظين الفرنسيين وهي خطة تابعة لوزارة الداخلية الفرنسية، وهو لم يتعرض إطلاقاً إلى مثل هذه المسائل لدحضها أو لتفسير خلفياتها وإنما تجاهلها تماما في مذكراته رغم أهميتها وحساسيتها. كواليس السلطة ونقل المؤلف في مذكراته تقييم بورقيبة لمختلف رؤساء الحكومات الذين اختارهم وعينهم، ومن بينهم الباهي الأدغم والهادي نويرة ومحمد مزالي، وأورد في هذا السياق الحادثة التالية: فقد جاء محمد مزالي إلى بورقيبة ليستأذنه للسفر إلى اليونان لحضور اجتماع اللجنة العالميّة الأولمبيّة بصفته عضوا فيها، ولأن محمد مزالي وقتها رئيسا للحكومة فبورقيبة أبدى رأيه بأنه من الأفضل أن لا يسافر ليبقى متفرغا أكثر إلى عمله، ولكنّ مزالي أصّر على القيام بهذه الرحلة، وبعد أن غادر القصر إثر انتهاء اللقاء علّق بورقيبة قائلاً: “إنّ محمد مزالي لم يعد يعطي أهميّة لرأيي ولذلك اعتقد أنه حان الوقت لاستبداله!”. ويبدو أن السفير قد دوّن الكثير ممّا سمعه من بورقيبة عند كلّ لقاء يجمعه به وهي لقاءات كثيرة.. ويكشف السفير في مذكراته أنه اشترط على الهادي نويرة وكان رئيساً للحكومة عند اختياره سفيراً بباريس أن لا يضيع وقته في استقبال الوزراء والوفود التونسيّة التي تأتي لباريس أو تخصّص سيارات السفارة لهم وأنّه لن ينتقل في كلّ مرّة للمطار لاستقبالهم. ويسخر المؤلف من بعض الوزراء التونسيين أو كبار الشخصيّات الذين يزورون باريس ويرغبون في أن تكون السفارة في خدمتهم وان توفر لوازم “الأبهة” للتفاخر أمام أصهارهم الفرنسيين. والهادي المبروك بقي سفيرا لتونس في باريس لمدّة 14 عاماً إلى أن تم تعيينه عام 1986 وزيراً للشؤون الخارجيّة، وهو يؤكد أنه حال عودته إلى تونس فإنّ المحيطين ببورقيبة سعوا إلى عرقلته ووضعوا حواجز بينهما وهمّشوا دوره خشية منه ـ على حدّ قوله ـ لأنه كان سينقل إلى الرئيس حقيقة ما يجري في البلاد في حين إن الآخرين اغتنموا شيخوخة بورقيبة ليعزلوه في القصر بغية تنفيذ مخططاتهم وضمان مصالحهم، حتّى أنهم كانوا يصوّرون لبورقيبة أن سفرات وزير الخارجية الهادي المبروك الكثيرة إلى دول مختلفة في العالم كانت مجرد سفرات سياحيّة!. ويؤكدّ الوزير السابق أنهم حاربوه لاعتقادهم أنه قد يكون خليفة محتمل لبورقيبة وقد سعوا إلى عزله عن مراكز القرار. وفي آخر فصل في المذكرات والذي اختار له المؤلف عنوان: “الغروب”، فإنّه حاول أن يشرح الأسباب التي أدّت إلى عزل بورقيبة جازماً أنه أخطأ عندما انفصل عن زوجته الأولى ماتيلد، وهي فرنسية أسلمت وأصبح اسمها مفيدة، ثمّ عندما طلّق زوجته الثانية وسيلة بن عمّار التي وجه لها السفير الوزير نقدا خفيفا ـ وهو معروف بأنه كان مقربا منها ـ بالقول إنها لم تنجح دائماً في استغلال نفوذها وتأثيرها على الرئيس وأنها أحياناً، وفق أهوائها، كانت تصل إلى حدّ تقوية المعارضين لبورقيبة! وإنها كانت تربط علاقات سياسية مع رؤساء دول دون علم الرئيس، وهم أحياناً قادة لا يكنون حبّا كبيرا لزوجها الرئيس. وفسّر المؤلف الأسباب التي دفعت بورقيبة إلى تطليقها. كما انتقد قراره إبعاد ابنه الوحيد (الحبيب بورقيبة الابن) عن ديوانه، وقد كال المبروك لبورقيبة الابن الكثير من المديح قائلاً إنه استحق عن جدارة كلّ المناصب التي تولاها وليس لأنه الابن الوحيد للرئيس، مؤكداً أنه أفضل وزير للخارجيّة التونسيّة على الإطلاق... وهو المنصب الذي تولاه في سنوات سابقة. الكتاب: أوراق الخريف Feuilles d’Automne المؤلف: الهادي مبروك Hédi Mabrouk الناشر Sud Editions
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©