الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«شعر البزاز» بانوراما للقرن 19 في الموصل

«شعر البزاز» بانوراما للقرن 19 في الموصل
24 فبراير 2010 21:55
لدى أي شاعر ثقل استثنائي يضعه في مركز واضح فكرياً ووجدانياً واعتقادياً تنبت من خلاله التجربة الشعرية كلها ثم تنبني عليه وتنمو ويكون الراوي هو صوت الشاعر حاملاً خطاب الحديث عن ذلك المركز مرة ثم توجيه الخطاب إلى المركز ذاته مرة أخرى. ذلك هو المفهوم النظري الذي اعتمد عليه الدكتور فاتح عبدالسلام في تقديمه لديوان “البزاز.. الملا حسن افندي البزاز الموصلي الخزرجي” الذي عاش في الفترة 1261 ـ 1305هـ أي 1845 ـ 1887م. البزاز الحفيد الدكتور فاتح عبدالسلام، جمع ورتب كل ما خلَّفه جده الشاعر فالتقى الباحث والناقد من جهة والشاعر الذي طرق كل فنون الشعر وأنواعه من جهة أخرى، حتى نكاد نقول إن هذا اللقاء حقق التوازن في الاختيار والدقة في الفحص للموروث الشعري. الشاعر هو حسن بن حسين بن علي الذي عرف بالملا حسن افندي بن الملا حسين بن الملا علي البزاز.. والملا لفظة تطلق على معلّم القرآن الكريم أو المتفقه به والمنتسب إلى دوحة بيت النبوة. ورد أن الشاعر ينتسب إلى أسرة عربية خزرجية أزدية أصيلة ترجع بنسبها إلى الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه. والأسرة موصلية وخزرجية عراقية سكنت فيها منذ عهد قديم والبزاز نسبة إلى البزازة وهي حرفة تجارية انتسب إليها بعض من زاولها، ولهذا فإن الأسر المعروفة بآل البزاز في الموصل أو في بغداد وغيرها قد لا ترتبط بنسب دموي مع بعضها البعض وإنما يجمعها الاسم الذي هو دلالة على حرفة بائع القماش. طرق التصوف كان الملا حسن عالماً فقهياً ونابغاً في الكلام واللغة، ولد في مدينة الموصل شمال العراق وتوفي فيها. وكانت الموصل المدينة العربية مركزاً حيوياً من مراكز نشاط المدارس الدينية العراقية والمهتمة بعلوم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والعلوم الفقهية، في وقت كان فيه للزهد والتصوف وعلوم الكلام والأدب واللغة والفقه ميادين ومجالات ومدارس خاصة ارتبطت بعلماء الموصل ومشايخها كما في مدن أخرى من العراق. كانت في الموصل طريقتان في التصوف وهي الطريقة الرفاعية التي ينتسب أصحابها إلى الشيخ أحمد الرفاعي المتوفي 578هـ -1182م وهو عالم جليل صاحب كرامات وخوارق مشهورة وهي الطريقة التي أخذ بها البزاز الشاعر من الشيخ حاجي سلطان خليفة أحد منتسبيها الكبار في تلك الفترة. أما الطريقة الثانية فهي “الطريقة القادرية” التي ينتسب مريدوها إلى الشيخ عبدالقادر الكيلاني (الجيلي) وأخذ البزاز الشاعر الطريقة القادرية عن الشيخ محمد نوري القادري الموصلي أحد الزاهدين المتصوفين. كان المناخ الفكري والعلمي والديني قد ساهم في تشكيل ملامح الشاعر البزاز والذي وصف بالفقيه والعالم والشاعر الصوفي. فنظم الشعر وهو في سن 16 عاماً حيث وصف سقوط الثلج في الموصل: تجلى علينا عارض غير ماطر ولكنه بالثلج عم النواحيا فأصبحت الخضراء بيضاء قد زهت وعادت رباها والبطاح كواسيا وكم بسطت منه يد البرد والشتا بساطاً على وجه البسيطة باهيا وكما هو واضح من مجموع القصائد التي ضمها الديوان والتي بذل الدكتور فاتح عبدالسلام جهداً بيناً في جمعها أن الشاعر الجد البزاز قد استغرق التصوف شعره والوصف أيضاً والمديح الخالص للممدوح. اقتفاء الأثر يذكر فاتح عبدالسلام أن ديوان الشاعر سبق أن طبع بمطبعة حجرية بمصر سنة 1305هـ ولكنه لا يمثل إلا النزر القليل مما قال شعراً في حياته، فما بالنا لو عرفنا أنه قد أطلق عليه بـ”الفوري” وذلك لسرعة استجابته للغرض الذي يريد القول فيه شعراً. وطبع ديوان البزاز في 1988 ببغداد وشاب تلك الطبعة أخطاء كثيرة، وكان الشاعر زاهداً في طباعة ديوانه إبان حياته لأنه يعتقد أن ما يقوله كان ليس شعراً وإنما هو وصال مع الذات الإلهية. مدح الرسول كانت الأغراض متعددة في شعر البزاز ولكن أبرزها هو مديح الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) فكانت استلهاماته أنه تتبع أثر القصائد الكبيرة الأولى التي جاء فيها الأعشى الكبير: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم المسهدا وقيل “وبت كما بات السليم المسهدا” وقصيدة كعب بن زهير في بردته: بانت سعاد وقلبي اليوم متبول متيم اثرها لم يُغد مكبول وقيل (فقلبي اليوم متبول) كما توخى خطي البوصيري في همزيته ولامية العرب فضلاً عن قصائد ابن الفارض الفلسفية الصوفية الجميلة. وفي هذا السياق أخرج الباحثون قصيدة الأعشى “ميمون بن قيس” حيث لم يكن مخلصاً فيها وبخاصة أنه ارتد ورجع عن لقاء الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) التي كان من المفترض أن يقولها بين يديه. قال البزاز مستوحياً من روح البردة هذه القصيدة: هذا العقيق وهذا البان والعلمُ فاخلع نعالك فيه أنه حرمُ وقف على الجزع نقض حق أربعة فإنها أربع عندي لها ذمم ونلاحظ اقتفاء الشعراء الأولين وطرائقهم وأجوائهم في القصيدة. فقد كان بدوياً في الوصف، يتبع صفاء الوصف الذي يشابه صفاء الصحراء حين يستدعيها من خلال أسماء الأماكن التي يتخيلها: واذا جزت بوادي (ضارج) فاحملي مني عراراً وخزامى يا رعى الله مغاني (حاجر) وسقتها المزن جوداً فرهاما أما المديح الصوفي فكان يمتدح رجالات المدارس الصوفية في العراق ويعدد كراماتهم ويتقرب من أفعالهم، ناهيك عن تعرضه ووصفه لطبيعة الحياة خلال القرن التاسع عشر الفترة التي عاش فيها. حكاية يروى عن علماء الموصل متواترين أن البزاز كتب قصيدته: هذا العتيق وهذا البان والعلم فاخلع نعالك فيه إنه حرم وأهداها إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ولم يكن قد اطلع عليها أحدا، إلا أن المفاجأة حدثت عندما رأى العالم عبدالله افندي العمري رئيس علماء الموصل آنذاك وهو شيخ الشاعر البزاز وأستاذه حلماً في منامه، كان فيه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يقول له: قل لتلميذك حسن إنني قد قبلت هديته فقال عبدالله أفندي في حلمه وما هي هذه الهدية يا رسول الله، فرد عليه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) هي قصيدته التي أهداني إياها سراً وخذها عني واكتبها. فلما استيقظ من منامه وجد نفسه قد كتبها فعلاً إملاء عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعندما حضر الشاعر البزاز مجلس عبدالله للدرس رحب به وسماه “الملا حسن” وكانت هذه المرة الأولى التي يطلق على الشاعر البزاز تسمية “الملا”. تركيب الديوان حفل ديوان الشاعر البزاز على عدد لا يستهان به من قصائد مثلت مختلف أنواع الشعر أولاً وأنتجت في جميع مراحل عمره، غير أنها لم تحظ بتسمية وعناوين لم تجترع لها ولهذا فإن القصيدة تبقى مبهمة بدون عنوان لها وهذا ما يخلط بعضها ببعض إذ تبقى القصيدة وكأنها بلا ذاكرة حيث يقول في قصيدة له توجعاً: أواه من عِظْم ذنبي أصبحت منه بكرب فمن ألوم عليه وإنما هو كسبي لقد تعاظم دائي فضاع إذ ذاك طبي وفي قصيدة له أخرى يقول متوسلاً: ربّ إني قد مسّني الضرُّ حتى ضقت ذرعاً وأنت أدرى بحالي وتستمر عملية تحقيق الأشعار على هذا المنوال وكان الأجدى بالباحث الدكتور فاتح عبدالسلام بما عرف عنه من نباهة في التحقيق أن يطلق على هذه القصائد عناوين وأسماء من داخل البنية اللفظية للقصيدة نفسها كي تكون دليلاً عليها وهذا ما حصل في تحقيق دواوين الشعر العربي أغلبها. كتب الشاعر البزاز مخمسات وأحبها كما يبدو لبراعته فيها حيث قال مخمساً أبيات الشافعي (رضي الله عنه): ملك الملوك إلى جنابك أفزعُ إذ ليس لي إلا بجودك مطمعُ يا حي ما في الحي غيرك مرجعُ يا من يرى فيّ الضمير ويسمعُ أنت المعد لكل ما يتوقعُ ويستمر الشاعر في منهجه هذا ويبدع في شعره الذي ولج أغراضاً كثيرة استحق أن يجمع ديوانه في كتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©