الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أيديولوجيات التبرير

أيديولوجيات التبرير
2 ديسمبر 2015 21:31
ما زالت اعتداءات يوم الجمعة الأسود (13 نوفمبر) في باريس، الشغل الشاغل لأهل الفكر والرأي في الوسط الثقافي والأكاديمي الفرنسي. كثيرون أشهروا عدتهم المنهجية لقراءة الحدث، بأبعاده التاريخية والدينية والنفسية والاجتماعية والدينية.. والبعض اكتفوا بإصدار تعليقات تتوقف عند الجانب السياسي المباشر فحسب، وبين هؤلاء وأولئك، تبدت الحقائق أو ضاعت التفاصيل، حضر الموقف المنصف أو تغولت مشاعر الضغينة والحقد. هنا اختيارات مما حملته الصحافة والدوريات الباريسية عن الحدث المرعب، حاول أصحابها التموضع ضمن حدود الموضوعية.. إدغار موران: أقلية شيطانية * *علينا أن نكف عن التبرير ونتابع فضح وحشيتهم هنا وهناك ولكن يجب ألا نتعامى عن متوحشينا إدغار موران، فيلسوف وسوسيولوجي فرنسي بارز، ولد في 1921 في باريس، وانضم إلى المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية، حائز دبلوم في التاريخ، الاقتصاد والقانون. بدأ عمله في المركز الوطني للأبحاث العلمية، وتابع أبحاثه السوسيولوجية والأنثروبولوجية والسياسية، حاملا هم الحوار بين الأقسام المتعددة. كتب هذا المقال بعد هجمات باريس، ومنه هذه المقتطفات: «تلك ليست اعتداءات. مع حركة دموية كبرى جرت متزامنة في ستة أماكن، دخلت بالتالي إستراتيجية الحرب إلى باريس، هناك أنصار لداعش هنا وهناك، الآن داعش عندنا، لا يتعلق الأمر بحرب أديان، وإنما بحرب تقوم بها طائفة متشددة تنتمي إلى الإسلام ضد كل المجتمع، ومن ضمنه المجتمع الإسلامي، متخذة شكل التوتاليتارية الدينية». «نذكر أن قوى داعش تنتمي إلى الإسلام، مكونة أقلية شيطانية تؤمن بالصراع ضد الشيطان، أي الغرب، وعلى وجه الخصوص الشيطان الأمريكي، «مطلق الجن» الذي حرر القوى العمياء التي أصبحت في الوقت الحالي هائجة». «نضيف أنه إذا كان لدينا الحق، علينا أن نكف عن التبرير. ونتابع فضح وحشيتهم هنا وهناك، ولكن لا يجب أن نتعامى عن متوحشينا، هناك. لأننا نستغل أيضا، حسب نمطنا الغربي، مجازرنا ورعبنا: من يمارسون العنف ليسوا أساسا عسكريين، وإنما مدنيون». «لا نستطيع القيام بحرب لتدمير داعش في فرنسا لئلا تتحول إلى دولة بوليسية مدججة بالسلاح، وبالتالي ما الواجب عمله إزاء داعش؟ الإجابة بسيطة: صنع السلام في الشرق الأوسط». «الدور المنتج لفرنسا يتمثل ليس في مرافقة الضربات الأمريكية التي لا يمكن أن تحقق النصر في الحرب، وليس في مرافقة تحالف ضعيف لا يضم إلا بعض أعداء داعش، وإنما تأسيس تحالف عالمي يضم جميع الدول (ومن بينها روسيا، إيران ونحن أيضا) ضد الهمجية». «ليس من الصواب الموافقة على الادعاء الأحمق بإعادة بناء العراق، حيث تفككت الدولة والأمة بسبب حرب بوش، ولا الحلم ببناء سوريا، وإنما تبيين أهداف السلام المتمثل في إنشاء كونفيدرالية في الشرق الأوسط تحترم جميع الأديان، العقائد والثقافات المتعددة للإقليم، وهو الرد الوحيد الممكن على خلفية الرعب». «أخيراً، لنقل إن الحرب ضد داعش سوف تنجح، ليس فقط بفعل النجاح في سوريا، وإنما أيضا بسبب السلام في الضواحي (الفرنسية). لا شيء تحقق بصورة مستمرة وبعمق من أجل الاندماج الحقيقي في الأمة من قبل مدرسة تقوم بتعليم الطبيعة التاريخية لفرنسا، وهي طبيعة متعددة الثقافات، وكذلك في المجتمع من خلال الصراع ضد كل صور التمييز. لنضيف أن السلام في سوريا سوف يخمد استيهام التطهير وخلاص البشر من خلال التضحية بالذات التي - وهي تربط ما بين الرومانسية والتعصب - تدفع ولم تزل تدفع الشباب إلى الطريق البغيض للقتال». (*)Edgar Morin, Pour que cesse la lutte armée en France, il faut gagner la paix au Moyen-Orient, Le monde, 16. 11. 2015. كمال داوود: 11 سبتمبر الدائم* قتلة داعش يلعبون على القطيعة.. المنحدر المعتم للغرب واغتصاباته للشعوب كمال داوود، صحفي وروائي جزائري شهير يكتب بالفرنسية، محرر بالجريدة «لو كوتيديان دوران». حازت روايته «ميرسو، تحقيق مضاد» على جائزة غونكور للرواية الأولى في العام 2015، هنا مقال كتبه بعد اعتداءات باريس: غط الليل مبكرا على نيويورك. وعلى جسر مانهاتن، في سيارة أجرة، حاول مدون الأخبار أن يجد الكلمات المناسبة بعد علمه أن باريس تحترق. من الصعب أن يجدها المرء في بقايا الدهشة. بنايات مانهاتن، التي تعكسها المياه، لامعة غير أن الروح معتمة خلف زجاج السيارة التي تسير في العالم الليلي. فكرة أولى، لامعة، بالنسبة للموتى، أهلهم، هؤلاء الذين أعرفهم، إنها الحواري التي يرتادها الأصدقاء، وعلى حين غرة، يصبح الخوف قسوة. مثل تلك التي اختبرناها في الجزائر خلال السنوات السوداء: عشنا الحداد منذ البداية، ثم عاد الموت في غالب الأحايين مستدعيا قسوة القلب. وجاء الخوف الآخر، الأناني وإنما الإنساني: ما هي جنسية القتلة؟ لا، ليس لأنهم يتحصلون على جنسية واحدة، ولكن لأن السكين تقتل الضحية، وأيضا البلد الذي صنعه: قتلة وسط اللاجئين التي استقبلتهم أوروبا خلال الفترات الأخيرة، يعني عشرات الموتى في فرنسا وأبواب موصدة في أوروبا. وهذا يدل على نهاية الاستقبال، انكفاء العالم وبالتالي نهاية العالم لهؤلاء الذين هربوا من الحرب، هذه الكارثة كارثة التضامن وانتصار المتطرفين. غرب أسود، منغلق، غاضب يرفض التقاسم والتنوير. الغرب مذنب إنسانيا وارتكبت ضده جريمة ضد الإنسانية: أنه ذات وموضوع، رغبة ورفض. يريدون قتله ونحن نموت في نفس الوقت. نريد أن نحيا فيه ولكننا لا نقره. ثم يتأتى التعب: ما الواجب عمله إزاء 11 سبتمبر الدائم؟ من يبني في صبر الحرب المستقبلية، يقطع الرابطة ويدفع الجماهير في عجلة نحو الهذيان أو الجرف؟ هناك شيء رهيب يرتسم في الأفق: قتلة داعش يلعبون على القطيعة، المنحدر المعتم للغرب واغتصاباته للشعوب، كبت جغرافيتنا وحل الحقد الذي يعد بالراحة والسكينة، يربحون. فضلا عن ذلك إذا كانوا اعتدوا على فرنسا، فهذا لا يعني أنها تمثل الغرب الكافر، ولكن لأنه استقبل مختلف المسلمين: أرض صالحة لاستدعاء القطيعة، العنصرية، الإقصاء والعنف التي سوف تزيد من أعداد داعش والأصوليين. فرنسا مستهدفة بسبب التعدديات التي تسكنها وليس بسبب أصلها. استدعى الهدف رد فعل داخليا، خلاصة واضحة لصديق صحفي في «نيويورك تايمز»، تمثل الهدف في قتل ناس والعيش وسطهم، وهكذا تختلط الأمور وتدوم، تقتل الإنسان وتحقق كثيرا من الآراء. لقد فهم الأصوليون أن عليهم صناعة الحرب التي ستقتل الكثيرين أكثر مما تفعله سكاكينهم. (*) Kamel Daoud, Le 11 septembre permanent et ses effets calculus, L›Obs, 16 /‏ 11 /‏ 2015. فيلسوفة أميركية شاهدة على اعتداءات باريس حرية هاجمها العدو وضيقتها الدولة أنا في باريس ومشيت في جادة بومارشيه، قرب مجزرة يوم الجمعة الفائت. تناولت العشاء خلال عشر دقائق في الناحية المقابلة. كل من أعرفهم أصحاء وسالمين، ولكن كثيراً من الذين لا أعرفهم ماتوا، أو مصدومين، أو في حالة حداد. شيء صادم ورهيب. اليوم، هناك أناس في الشوارع ما بعد الظهيرة، ولكن لا أحد في المساء. وهذا الصباح، هدوء. بعد النقاشات التي جرت في القنوات العامة مباشرة بعد الأحداث، يتبدى واضحاً أن «حالة الطوارئ»، الوقتية بالطبع، تبشر بدولة بوليسية معززة. في التلفزة، تبادلوا النقاشات حول «عسكرة» الشرطة (كيف يمكن «إنهاء» سيرورة الأحداث)، في فضاء الحرية والطريقة التي تتم بواسطتها مقارعة «الإسلام»، وهي طريقة ذات حدود غامضة. أجتهد أولاند لكي يظهر قويا وقتما أعلن أن «فرنسا» في حالة حرب، ولكن بالرجوع إلى الخاصية التقليدية لأدائه لم يأخذ أحد خطابه على محمل الجد. ومع ذلك، قبل الجميع به، أنه رئيس الجيش اليوم. التمييز دولة/‏ جيش يتحلل تحت تأثير حالة الطوارئ. يريد الناس رؤية الشرطة، ويريدون شرطة مزودة بأسلحة الجيش لحمايتهم. أمنية خطيرة، حتى وان كانت مبررة. المظاهر الجذابة للقوات الخاصة المرتبطة بقوة الدولة تتصدر عنوان حالة الطوارئ مثلها مثل إمكانية الجميع بالانتقال مجاناً إلى البيوت في سيارة أجرة أو فتح المستشفيات لجميع المصابين - لن تكون مجانية. ليس هناك حظر تجول، ولكن الخدمات العامة تضاءلت كثيرا، ومنع القيام بالمظاهرات. حتى التجمهر في ميدان الجمهورية. لم تكف الشرطة عن دعوة الناس الى التشتت، ولكن القليلين فقط من امتثلوا لهذه الدعوات. مما مثل لي لحظة أمل قصيرة. يتم انتقاد المعلقين الذين يجتهدون في البحث عن التفرقة بين مختلف الجاليات الإسلامية وتعددية الآراء السياسية التي تتجادل حول «الفوارق الدقيقة». ظاهريا، من اللازم أن يكون العدو «كاملا» ووحيدا لكي يهزم، والاختلاف بين المسلم والجهادي و«تنظيم الدولة في العراق والشام» مشوش في الخطاب العام. كان الخبراء متأكدين من هوية العدو قبل أن يعلن التنظيم عن مسئوليته عن الاعتداءات. وجدت أنه من المثير للاهتمام إعلان أولاند الحداد الوطني لثلاثة أيام وتعزيزه للأمن، وهي طريقة أخرى لقراءة عمل غيليان روز «الحداد يصبح قانونا». هل نحن في حالة بكاء على الموتى أم نحن خاضعين لقوة الدولة التي تضفي تدريجيا النزعة العسكرية على طبيعتها ونقبل «تعليق» الديمقراطية؟ كيف يمكن أن تعمل الأخيرة بسهولة طالما أنها بيعت للأولى؟ تم إقرار أيام الحداد الوطني رسميا، ولكن حالة الطوارئ سوف تستمر لاثني عشر يوماً قبل أن يكون تصويت الجمعية الوطنية عليها ضرورياً، فضلاً عن ذلك، تشرح الدولة أنه من الضروري اليوم تضييق الحريات دفاعا عن الحرية، وتلك مفارقة تحير الخبراء الكاتوديين. نعم، الاعتداءات تستهدف بكل وضوح الأماكن الرمزية للحرية اليومية في فرنسا: المقهى، قاعة موسيقى الروك، ستاد كرة القدم. في قاعة الموسيقى، هاجم أحد المقتحمين المسؤولين عن 89 عملية قتل همجي فرنسا هجوما لاذعا، متهماً إياها بأنها لم تتدخل في سوريا (ضد نظام الأسد)، وانتقد الغرب بتدخله في العراق (ضد النظام البعثي). وبالتالي، لا يتعلق الأمر بموقف، إذا جاز القول، ضد التدخل الغربي على وجه الإطلاق. أيضاً هناك سياسة الأسماء: الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش. ترفض فرنسا ذكر «الدولة الإسلامية»، لأنه يستدعي الاعتراف بوجودها كدولة. يفضل على وجه التحديد ذكر «داعش» لكي تبقى كلمة «ذات مصدر عربي» لا تدخل اللغة الفرنسية. في الانتظار، أضطلع هذا التنظيم بمسؤوليته عن المذبحة، مؤكدا أنه ثأر من كافة عمليات القصف الجوي التي قتلت المسلمين على أرض الخلافة. السبب وراء اختيار قاعة موسيقى كهدف، وهو مكان مثالي لتحقيق مجزرة تم تبيينه: هذا المكان يستقبل «المشركين» و«حفل فجور». أتساءل كيف عرفوا لفظة «فجور» (بالفرنسية Perversité). يقال أنهم يتحصلون على قراءات أجنبية في مجال تخصصهم. يردد مرشحا الرئاسة: يقترح ساركوزي فتح معسكرات احتجاز، ويشرح ضرورة توقيف كل مشتبه بعلاقته مع الأصوليين. وتنادي (ماري) لوبن بالإبعاد، بعد أن نعت المهاجرين الجدد بـ«البكتريا». اليوم، يتردد أن أحد القتلة من أصل سوري، قدم إلى البلاد عبر اليونان، ولهذا ربما يتوافر لفرنسا سبب لتدعيم حربها ضد المهاجرين. أراهن على أن من المهم متابعة خطاب الحرية في الأيام والأسابيع القادمة، وأن تكون هناك انتقادات للدولة البوليسية والصور التضييقية للديمقراطية التي سوف تتبدى جلية لنا. صورة الحرية التي هاجمها العدو، وصورة أخرى للحرية التي ضيقتها الدولة. تدافع الدولة عن صورة الحرية المهاجمة كجوهر فرنسا ذاته، ومع ذلك تعلق حرية التجمع («حق التظاهر») في مرحلة حدادها، والسؤال: ما هي صورة اليمين التي ستظهر من الخرائب في الانتخابات القادمة؟ ومن سيصبح يمينا مقبولا بما أن لوبن في «وسطه»؟ هو ذا ما ينذر بأوقات مخيفة وحزينة، بيد أننا نأمل بقدرتنا على التفكير، الكلام والعمل وسط كل ذلك. يتبدى الحداد محددا في الإطار القومي. بالكاد تم ذكر القتلى الخمسين تقريبا في بيروت الذين ماتوا قبلها بليلة، والمرور بصمت أمام 111 قتيلاً في فلسطين على مدار الأسابيع الأخيرة أو ضحايا أنقرة. يقول معظم معارفي أننا «في طريق مسدود»، عاجزون عن تحديد أي موقف. نستطيع التفكير فيما جرى بإدراج مفهوم الحزن «المستعرض»، لدراسة كيفية عمل «معيار» الحزن: لماذا يمزق أختيار مقهى كهدف قلبي أكثر من أهداف أخرى؟ من الممكن أن يفضي الخوف والغضب إلى الارتماء في أحضان دولة بوليسية. أفترض أنه السبب الذي يجعلني أفضل هؤلاء الذين يشعرون بوجودهم في طريق مسدود. من الصعب التفكير حينما نكون مسحوقين. يلزم بعض الوقت وأناس جاهزون للوقوف معكم، وتلك فرصة لتحقيق «تجمع» غير مسموح. (*) جوديث بتلر، فيلسوفة وأكاديمية بجامعة بركليف (كاليفورنيا). (*) Judith Butler، Une liberté attaquée par l’ennemi et restreinte par l’Etat، Libération، 19 novembre 2015. جيل كيبيل: تاريخ كولونيالي * * الاعتداءات العمياء تستهدف تفجير حروب «الأراضي المحصورة» كونها «البطن اللدنة» للغرب يشغل جيل كيبيل منصب أستاذ ورئيس برنامج الدراسات الشرق أوسطية والمتوسطية في معهد الدراسات السياسية بفرنسا، حيث يشرف على البرامج الأكاديمية حول العالمين العربي والإسلامي في مستويات الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس. وهو أيضاً مؤسس شبكة أوروجولف عام 2003، ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس إدارتها. وكان أستاذاً زائراً لدى جامعة نيويورك وجامعة كولومبيا في الفترة 1995-1996. حائز على شهادات علمية في اللغتين العربية والإنجليزية، والفلسفة، ويحمل بكالوريوس العلوم من معهد الدراسات السياسية، ودرجة الدكتوراه في علم الاجتماع والعلوم السياسية. في هذا الحوار، الذي أجراه معه نيقولا ترونغ، يتعرض كيبل لظاهرة الجيل الثالث للحركات الإسلاموية في فرنسا وعلاقته باعتداءات باريس الأخيرة. عن سؤال هل أصابته هذه المذابح الرهيبة بالدهشة؟ يجيب: للأسف، لا. منذ أكثر من عام، دعت الدولة الإسلامية (داعش) إلى استهداف الفرنسيين. في 22 سبتمبر 2014، دعا محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم الجماعة، إلى ضرب الغربيين وعلى وجه الخصوص «الفرنسيين القذرين والأشرار» في كل مكان. ونفس التهديد ذكره أيضا الفرنسيون الذاهبون إلى سوريا.. في «تويتة» ترجع إلى يناير الفائت نشرت في صحيفة «لوموند»، ذكر مكسيم أوشار، الشاب النورماندي الذي ذبح طياريين سوريين أن داعش يستعد للقيام بعمليات في فرنسا. بعد اعتداء «شارلي»، نادى سليم بن غالم القيادي الفرنسي في داعش، والتي لم تنجح الضربات الفرنسية الأخيرة في تصفيته، بقتل أي من مواطنينا، الذين هم من مواطنيه أيضا. وعن أهداف داعش من هذه الدفعات الإرهابية، يقول: تسعى داعش إلى إطلاق الحرب الأهلية. وهي إستراتيجيا بدأت منذ العام 2005، من خلال أبومصعب السوري في بيانه الشهير «الدعوة إلى مقاومة إسلامية عالمية»: تعدد الاعتداءات العمياء سوف تنظم الإعدام العسفي للمسلمين، ضرب المساجد، التحرش بالمحجبات وبالتالي تنبجس حروب «الأراضي المحصورة»، التي ستسيل الدم وتفجر أوروبا، التي ينظر إليها على كونها «البطن اللدنة» للغرب. وفي هذه الستراتيجيا الكونية تسجل اعتداءات الجمعة الأخيرة. ولكن هؤلاء يستهدفون بدون تمييز الشباب الذي يوجد بينهم جزء من إخوتهم في الدين الذين يريدون ضمهم إلى صفوفهم. هنا يكمن الصدع الإستراتيجي، إذ إن مشكلة الإرهاب تتمثل في «هز» الجماهير لمساندة فعلهم. وفي حال عدم النجاح، يفشلون سياسيا، كما في الجزائر في العام 1997، أو بعد اعتداءات القاعدة، التي استنزفت نموذجها الحركي وبالتالي لم يجدوا منفذا سياسيا. اليوم، تبحث الاعتداءات العمياء عن استدعاء الذبح، ولكنها تستهدف أيضا من يريدون التحرك. ومع ذلك على عكس ما قاله امانويل تود وكل من تهكموا على مظاهرات 11 يناير، أعتقد أن الوحدة الوطنية، على الرغم من كل صور اللبس التي تبدت، هي الرد السريع المناسب، على وجه العموم لأن الإرهابيين يبحثون عن رجرجة الجمهورية. وعن إمكانية تدمير داعش يقول جيل كيبيل: إنه التفاعل بين «هنا» و«هناك» الذي يبين «وسم» صناعته. هنا، نجح الإرهابيون في عمليتهم الانتحارية، التي تتمثل في قتل «الكافرين» من دون القبض عليهم أو القتل على يدي الشرطة. ممارسة هؤلاء الإرهابيين راقية لأن القاعدة السورية تقاوم القوى الغربية. وعن رمزية الأماكن التي تعرضت للاعتداءات يقول: لنتذكر أن الشرطي أحمد المرابط قتل على بعد مئات الأمتار من (قاعة) باتاكلان، في شارع ريشار - لونوار، على أيدي الأخوين كواشي. الجمعة 13 نوفمبر، ربما يكون رمزا واضحا بين الثقافة الغورية والسلفية المتعذر نقضها لهؤلاء الشباب. اعتداءات استاد باريس تستدعي اعتداءات ماراثون بوسطن، بما أنها تسعى إلى إثارة الرعب في قلوب الجماهير. ولكن علينا أن نعرف أن الرئيس أولاند كان مستهدفا بصورة من الصور في هذه العملية. وردا على سؤال: لماذا كانت فرنسا «هدف» الانتحاريين؟ يجيب: بسبب تاريخ «كولونيالي رجعي» لم ينته بعد، كما ذكرت في كتابي «تكوين الجهاد الفرنسي» (يصدر في عام 2016 عن مطبوعات غاليمار): لنتذكر أن محمد مراح قتل تلاميذ «أوزار هاتوراه» في تولوز يوم 19 مارس 2012، أي بعد خمسين عاما من وقف القتال في الجزائر. هذا القاتل ابن الضواحي، نشأ في وسط سلفي بمنطقة الميدي - بيرينه يكره فرنسا، عومل بصورة فظة من قبل مكاتب الاستخبارات الفرنسية التي لم تفهم حركة نزعة الجيل الثالث الجهادية للقاعدة. اليوم، ندفع ثمن عماء نخبنا السياسية. (*) Nicolas Truong, Entretien avec Gilles Kepel, Le Monde, 14/‏11/‏2015. فرهاد خوسروخافار: بورتريه انتحاري * نشأ مرتكبو العمليات الانتحارية على وجه العموم في أحضان عائلات مفككة السوسيولوجي الفرنسي فرهاد خوسروخافار، المتخصص في ظواهر الجذرنة الدينية، يرسم بورتريها لمرتكبي اعتداءات باريس من الانتحاريين. يشغل فرهاد منصب مدير مدرسة الدراسات العليا المتخصصة في العلوم الاجتماعية (EHESS)، مؤلف العديد من الكتب، من ضمنها «جذرنة» (2014). هذا الحوار أجراه معه مارك سيمو. يقول خوسروخافار: «حتى اليوم، كانت الاعتداءات الأصولية المرتكبة على الأرض الفرنسية محددة، موجهة مثلا إلى «شارلي»، ثم إلى الجالية اليهودية، في يناير 2015، أو إلى عسكريين مسلمين، مثلما فعل مراح قبل اعتدائه على مدرسة يهودية في تولوز. الآن، نقف إزاء إرهاب أعمى، على وجه العموم لأن عددا من الأهداف الحساسة محمية، وبالتالي من الصعب الوصول إليها. مذابح 13 نوفمبر تستدعي تلك التي جرت من قبل في محطة «آتوشا» في مدريد في العام 2004، أو في محطة مترو لندن في 2005، التي تعتبر من العمليات الانتحارية. بيد أنني أعتقد أن من اللازم توضيح مفهوم «الانتحاري». هناك من يطلق عليه «انتحاري مباشر»، الذي يتمنطق حزاما ناسفا لارتكاب جريمته، و«الانتحاري الحائد»، الذي يسعى الى القتال حتى انتهاء مخزونه من السلاح، نفسانيا، ليس هناك اختلاف ملحوظ بينهما، بما أن النهاية الدموية مؤكدة. أما كيف يصبح المرء انتحاريا، فيجمل رأيه بالتالي: في التنظيمات الأصولية العاملة اليوم في سوريا أو العراق، المتطوعون الجاهزون للتضحية بأرواحهم يكشفون عن حيرة الاختيار بين من يقومون بالعمليات الانتحارية. مسار تكوين «الانتحاري» المستقبلي معلوم، حتى أن من رحلوا من الغرب للقتال هناك ليسوا جميعا مستعدين طواعية للموت ويصل بهم الأمر إلى الانسحاب من المغامرة، السؤال يطرح بطريقة أخرى بالنسبة للغرب الذي يتوفر على زمر قليلة العدد منهم. إنهم «أشقاء» مثل آل كواشي، أو زمر صغيرة منغلقة على نفسها وملتحمة تضم بعض الأصدقاء. حينما تبدأ مجموعة في الكبر والتبشير، تعلم الشرطة بها وتفككها، اختيار من يقوم بالعملية يتم بطريقة حرفية، ولكن هناك دوما حل يتمثل باختصار في انتقاء أحد أعمدة الزمرة. لا تتم جذرنة الفرد في ركنه خلف شاشته. مر مراح بالأقاليم القبلية الباكستانية، نموش، مرتكب الاعتداء على المتحف اليهودي في بروكسل، مر بسوريا، الأخ الأصغر كواشي، مرتكب جريمة «شارلي»، مر باليمن. عوضا عن ذلك، المرور إلى الفعل جرى بصورة فردية، حتى وإن كانت الخلفية الأيديولوجية واللوجستية أنضويتا في الواقع التنظيمي الرحب. ويقول: نشأ مرتكبو العمليات الانتحارية على وجه العموم في أحضان عائلات مفككة. هناك دوما المرور إلى حالة السجن، الذي يعتبر مرحلة مهمة في مسعى الجذرنة وتطورها. عنصر ثالث مهم: يتعلق بالاكتشاف الثاني، لدى المسلمين الذين أعادوا اكتشاف الإسلام في صورته الأكثر راديكالية أو المهتدين الذين وجدوا فيه معنى لحياتهم. وتلك حالة خالد كلكال، عام 1995، الذي انضم في الجزائر خلال الحرب الأهلية إلى الجماعات الإسلامية، هذا المرور الضروري يسمح للانتحاري المستقبلي من أن يصبح غريبا في مجتمعه الأصلي ويكتسب قسوة ضرورية لمروره إلى الفعل من دون ندم ولا تبكيت ضمير، وهنا يتحقق يصبح المرء قاسيا باسم العقيدة. يصبح مستعدا للقتل، وجاهزا للموت، وهذا صحيح بالنسبة للمقاتلين المتعصبين المنضمين إلى الشيوعية كما إلى النازية، وأيضا بالنسبة لهؤلاء المنتمين إلى الجماعات الإرهابية الحمراء أو السوداء خلال السبعينات (من القرن الفائت). وعما يقصده بالنموذج الأوروبي في الجذرنة، الذي ذكره في أبحاثه يقول: في أوروبا جيوب فقر تتأدلج، فيما سبق، تبدت الظاهرة في الولايات المتحدة، في الغيتوهات السوداء حيث كان «ربع» الرجال في السجن أو مضوا زمنا في السجن، ولكن ليس هذا بحال دول ما وراء الأطلسي منذ وقت طويل.. في المقابل، في أوروبا، في جيوب الفقر تلك، هذه الجذرنة المناهضة للمجتمع جرت باسم الإسلاموية. هناك شعور بالاضطهاد والانضمام إلى قضية جمعية تسمح بتجاوز سمة التهميش. بدا عنصر جديد بصورة ملحة: جذرنة الشباب القادمين من الطبقات الوسطى، من عائلات مسلمة أو لا، من بين المتطوعين المسافرين في الآونة الأخيرة إلى سوريا أو العراق، نجد أن من 25% إلى 30% منهم، ينتمون إلى هذه الطبقات، ونسبة الفتيات والشابات مرتفعة – أكثر من 3%. هذه الظاهرة من الممكن أن ترجع في جانب منها إلى أفول السياسة والبحث عن يوتوبيا، وأيضا إلى الخوف من الإقصاء الاجتماعي وتضبيب المستقبل، بالتالي يرتبطون باليوتوبيا الأولى، حتى اليوم، لم نر وجها لمرتكبي العمليات في فرنسا، ولكن ربما لأنهم غير معروفين على المستوى العملياتي بعد. (*) Marc Semo, Entretien avec Farhad Khosrokhavar, Libération, 14 novembre 2015. التشبه بالنازيين من خلال الرؤوس المقطوعة، يؤكدون أنهم يستطيعون إنقاذ العالم من قوى الشر، وبذلك يتمكنون من إقامة العدل الحقيقي، التضامن الحقيقي. يقولون للواحد منهم: أنت جزء من عالم الأنقياء مثلنا. بعد هذا الهروب من العالم الواقعي وهذا الاختيار، يمضون تدريجياً إلى اقتراح المواجهة النهائية الشاملة الوحيدة القادرة على تجديد العالم. كل هذا الاعداد غير مرئي. وهكذا يرى الشاب تدريجياً جميع من حوله أعداء: كل من هو غير مستعد لتجديد العالم ينظر إليه على أعتبار أنه متواطئ مع القوى الكبرى. يطور الشاب الحقد الكلي تجاه كل من لا يشبهونه، أي غير المسلمين الحقيقيين. الهدف النهائي لهذا التجنيد شبيه بالنازية: من لا يمتلك حقيقة الإسلام الحقيقي لا يشبهني، وليس كائنا إنسانياً مثلي. حتى أنه لا يمكنني مبادلته بأي شعور طالما أنه ليس بكائن إنساني. وهكذا تحقق نزع الطابع الإنساني عن الآخر. لا تقوم «داعش» فقط بقتل ضحاياها، وإنما تقطعهم إلى أجزاء لكي تمحي شكلهم الإنساني. كما حول النازيون اليهود إلى غبار. أنهم لا يشبهونني، ولا أبادلهم أي شعور. هنا، لا يتعلق الأمر بجنس نقي، وإنما بفهم معين للإسلام الحقيقي. بكل تأكيد، يقتلون المسلمين أولاً. مسؤولية الفشل لا تتجاسر عائلات كثيرة في الأوساط الشعبية على الاتصال بي. تخشى من الإيقاع بابنها، وأن يسجن ولا يجد عملاً أبداً. من يتصل بي لديه ثقة في مؤسسات الدولة، وهو يمثل الجزء الظاهر من الجبل الجليدي. من ناحية أخرى، كل مرة يحدث فيها خلط بين المتشددين والمسلمين، يتحقق ما يسعى المتشددون إليه، بما أنهم يستعملون نظرية المؤامرة ضد الإسلام. أعتقد أننا لم نعرف، مثلاً، أن بعض المبادرات كانت ضارة. أفكر في الأمهات اللاتي يرتدين الحجاب واللاتي منعن من اصطحاب أطفالهن إلى المدرسة. من يدافع عن هذا الرأي، لا يتخيل كم أفاد هذا الفعل نظريات المؤامرة ضد الإسلام. طفل لا يستطيع رؤية أمه إلى جانب المعلمة؛ لأنها ترتدي الحجاب، شيء عنيف في الواقع. من اللازم الانتباه إلى أن الإسلاميين لا ينتظرون إلا هذا، يبحثون عن تغذية هذه الفكرة المتمثلة في كون العالم بأسره يريد محو الإسلام؛ لأن الإسلام هو القوة الوحيدة القادرة على محاربة الشر. دنيا بوزار
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©