الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أصوات «مصندقة»!

أصوات «مصندقة»!
10 ديسمبر 2014 23:05
في أحدث ما ظهر بالعربية لتيري إيجلتون، وهو كتابه «أساطير السلطة»، يدرس الناقد الإنجليزي الماركسي الشهير والكبير، روايات الأخوات برونتي. ولعل النظر العجول والمعقد من ماضي النقد الأدبي الماركسي في اشتغاله على (المضمون) أن يعجل إلى رمي كتاب «أساطير السلطة» في سلة ذلك الماضي. غير أن أناةً أكبر، ونظراً أعمق، سيدركان حذق إيجلتون في سبر أغوار روايات الأخوات برونتي بحثاً عن المعنى وعن تشكيله فيها. ولعلي لذلك تلمست أُنْساً في «أساطير السلطة» وأنا أُقبل على التصوير الروائي العربي لمسألة غائبة حاضرة، قديمة جديدة، ولعلها من أبرز مسائل المستقبل العربي، أعني (الانتخابات). لن يكون مفاجأة -لا سارّة ولا مقبضة- أن تسخر أو تحذر قراءة مما قد يتراءى لها في درس الانتخابات روائياً من تغليب الاجتماعي أو السياسي على الفني، أو مما تتوهمه مثل هذه القراءة من ترجيع ألحان نقدية شائهة ودائلة. وليس يخفى ما في ذلك من ترجيع ألحان القطيعة بين الإبداع والاجتماع، بما في ذلك ما في الاجتماع من السياسة والفكرية. غير أن ما زلزل الفضاء العربي والتاريخ العربي خلال السنوات الأربع الماضية، وما يزلزل العالم كله كل حين، وبخاصة في هذا الحين، يقدم القراءة الروائية الباحثة عن المعنى، وعن تشكيل المعنى، كما فعل إيجلتون في درسه لروايات الأخوات برونتي، وفي سائر كتبه النقدية. المرشح الوحيد أما مسألة الانتخابات التي تحاول السنوات الأربع الماضية دفعها إلى الصدارة، كما تحاول انتزاعها من غيابة التزوير والنسيان، فمن حضورها السردي المبكر، أذكر قصة «الرياض السندسية» للكاتب الراحل حسيب كيالي (1921 ـ 1993). والقصة مما ضمّت مجموعة «أخبار البلد» الصادرة عام 1955، وهي تصور بالسخرية التي أبدع فيها الكاتب دوماً، الاستفتاء الذي جرى زمن الانقلاب العسكري الأول في سورية، والذي عاش أقل من أربعة أشهر؛ بين نيسان/ أبريل وتموز/ يوليو 1949. بهذا الانقلاب افتتح عهد الانقلابات العسكرية السورية والعربية. وبانتخاباته افتتح عهد التزييف الانتخابي واستفتاءات المئة ونيف بالمئة. ففي قصة «الرياض السندسية» أن الناس قد تزاحموا على أبواب اللجنة الانتخابية «حتى أن الموتى والمهاجرين والمشلولين والخرس والطرش يشتركون في الاستفتاء. ومن ألطف ما حدث أن بعض الدوائر وجدت بعد فرز الأصوات أن عدد المقترعين يزيد مئات كثيرة عن عدد المسجلين في اللوائح. وقد علل ذلك أحد رجال الدين الوقورين، بأن هذه العجيبة الصمدانية قد دعمت هذا المخلص بروح من عندها، وأسهمت هي أيضاً بإعلاء شأنه رحمةً ببلادنا المسكينة». تلك هي كلمات حسيب كيالي في الاستفتاء على رئيس الجمهورية قائد الانقلاب حسني الزعيم. وسوف يعود فواز حداد إلى هذا الاستفتاء في روايته «تياترو 1949» والصادرة عام 1994، وفيها وصف للحملة الانتخابية ولزحام الشعارات: (الزعيم بطل الإصلاح والتقدم ـ لا فساد بعد اليوم ـ أموال الشعب ستصرف على المشاريع لا على المحاسيب والأزلام..). وعبر العلاقة بين الصحفي صبحي ونوال سيلي القول الساخر من سيل برقيات التأييد المنهالة على السرايا وعلى الإذاعة. وكذلك هي رسائل المبايعة المطيرة من المحافظات ومن المهجر. وكذلك هو تباري الجمعيات والوجهاء في إقامة تماثيل نصفية وكاملة للزعيم ـ المرشح الوحيد، وفي إقامة نصب تذكارية للانقلاب. وستخبر نوال الصحفي صبحي بما يتندرون به في الشوارع عن انتخاب الشعب للزعيم بأغلبية تفوق التصور، إذ بلغت نتيجة التصويت 116%. وبالسخرية عينها تصف الرواية هرج الاحتفالات و(عجقة) الزينات والمواكب الشعبية. بعد خمس سنوات من تواتر الانقلابات العسكرية، ستبدأ مرحلة جديدة في سورية، تفتتحها انتخابات البرلمان أواسط خمسينيات القرن الماضي. وفيما تصور من ذلك رواية إبراهيم خليل «حراس الماعز» والصادرة عام 2003، نرى كيف (يخترع) مواطن (خبيث) مواطنين جدداً. فطارق أبو ربيع من أسرة ثرية، لكنها قليلة العدد أمام تحالفات العشائر التقليدية التي لا تسمح لأمثاله باختراقها، لذلك أطلق حكمته: «من خانه العدد لا يخونه العقل». ولئن كان بعض شيوخ العشائر يشتري صوت الناخب بخمسين ليرة، فالعبقري أبو ربيع يستطيع أن يشتري الصوت بعشر ليرات، والصوت صوت، سواء أكان لرئيس الجمهورية أم لعتال. بالتواطؤ مع رجال السلطة استطاع العبقري أن يسجل في سجلات السكان الرسمية من ليسوا فيها، من غجر البلدة وقرباطها، فصاروا مواطنين وناخبين، واستلموا الهويات، ومع كل هوية جديدة (تذبح الديك) عشر ليرات، ثم انصرفوا بعد الإدلاء بأصواتهم في تجمع أدهش الناس، وأصاب المرشحين المنافسين بالفزع. وبعد شهرين من فوز العبقري أبو ربيع بكرسي النيابة، بدأت دعوات حَمَلة الهويات الجديدة إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، أو دفع البدل النقدي عن ذلك، فجن جنون هؤلاء الذين كانوا يرفلون بالنعيم خارج السجلات الرسمية. استراتيجية اللاتعيينتوسّل الفن الروائي السخرية، في قصة حسيب كيالي وروايتي فواز حداد وإبراهيم خليل. وسوف يظل الفن الروائي يتوسل السخرية في الروايات التالية التي صورت الانتخابات والاستفتاءات. إلا أن الروايات التالية ستختار استراتيجة اللاتعيين، فلا تحدد لها فضاءً بعينه، بل تنحت من الفضاءات العربية ومثيلاتها فضاءً روائياً يخاطب ماضينا وحاضرنا، والخوف الخوف أن يخاطب مستقبلنا. تلك هي رواية الكاتب المغربي سالم حميش «فتنة الرؤوس والنسوان» ترسل الإشارات الكافية إلى أن فضاءها هو المغرب، لكن اللاتعيين يعوّم الزمان والشخصيات، وفي مقدمها الرئيس المهيمن الوهاب معمر علي أوفقيه الذي شخصت العرافة أن دمه أزرق، أي رئاسي، وهو يسعى إلى تفويض شعبي من صناديق الاقتراع المباشر، حالماً بخلق كوكتيل يوفق بين الجمهورية والسلطانية، واسمه (الجمطانية)، فيأمر بتنظيم انتخابات عصرية، بصناديقها الزجاجية الشفافة، وبالتيسير أمام المرشحين منافسين من مستوى لائق، ويقول: أنا أبغيها مشروعية ناصعة ما عليها غبرة، ومن دونها رئاستي تكون في حال امرأة عوراء. ويقول: «من غير المعقول أن أتقدم وحدي وأقول للناس: انتخبوني وحدي.. هذا يجري في بلدان الديكتاتورية والحزب الوحيد.. أما عندي فشيء آخر». ولذلك يريد هذا العبقري الفوز في الانتخابات أو الاقتراع أوالاستفتاء بنسبة 70 ـ 75% لأن (دولتنا) تقدمت على دول الـ 99%، دول المشاركة الساحقة والفوز الساحق، ونقرأ: «نحن والحمد لله في بلاد المكاسب والحريات المسؤولة. نحن على درب الترانزيت الديمقراطية». إن كل ما تقدم يبلغ أوجه في رواية الكاتب التونسي أبو بكر العيادي «آخر الرعية» والصادرة عام 2001. فقد نحت الكاتب دولة (عربانيا) من عشرين ولاية، يحكمها الديكتاتور (الكبير)، الذي يسأل كاتبه عبده عن الاقتراع عند الغرب، فيهوّن الجواب من شأن الصناديق التي لا يجني منها الغرب إلا الأرقام المبهمة التي ترسم تأييداً لا وجه له ولا روح، عكس الأفواج المتلاطمة التي هرعت إلى (الكبير) وأسلمت له مصائرها، وتعهد له كبراؤها بالولاء. لكن (الكبير) يسأل أيضاً عما يمكن أن تكون عليه النتيجة لو أجريت استشارة شعبية، فيؤكد الجواب: بالإجماع، لكن الباشكاتب يتساءل مشككاً عن الحاجة إلى الاستشارة، مادامت البلاد تلهج بالشكر للكبير في كل رجأ من أرجائها، عدا عن أن الاقتراع جدير بالشعوب الغاضبة على حكامها ذوي الأوضاع الهشة والقبضة الرخوة. من ينافس من؟يصر (الكبير) على الاقتراع، عملاً بنصيحة زوجته ورئيس وزرائه وابنه (الكبير الثاني). ويعجب الباشكاتب عبده من التقاء هذا الثالوث الذي يكنّ كل واحد منه الكراهية للآخرين، وقد عللوا نصيحتهم بما تلقوه من تقارير سرية، فحواها أن الغرب ينوي قطع علاقاته التجارية مع عربانيا، ما لم يثبت (الكبير) شرعية نظامه. ولأن الناس لا يعرفون للاقتراع أو التصويت أو الانتخاب معنى، قامت حملة التوعية الانتخابية، ففي كل زقاق خطيب، وفي كل ربوة منبر، وفي كل مضرب بدوي داعية. ولما قيل إنه يفترض في الانتخاب الفرز والاختيار، أجابت الحملة بالسؤال: هل منكم من ينافس الكبير؟ فخنسوا. ولما قال قائل: هب أن الأصوات جاءت دون النصاب، أجيب: مولانا هو من يحكمنا بصوتك أو بدونه، واختفى القائل. ولما سأل سائل عما هي الديمقراطية، أجيب: أن يكون لكل بالغ بطاقة هي بمثابة الهوية، لا يحق له شيء إذا لم يمتلكها، والتي يتسلق بسخريتها انتخابات الجمعية التي ستضع الدستور، كما في رواية غازي القصيبي (العصفورية) تتألق اللغة الروائية في آخر الرعية وهي تصف الحملة الانتخابية بلغة سردية ناصعة، تضارع روائع السرد التراثي. ومن ذلك أن الحملة جاءت كالعيد، إذ شمل البلاد مَوْرٌ دافق من أفراح، واعتلت صور الكبير الصروح، وتنافست الخلايا الحزبية والمنظمات في انتقاء الشعارات التي اكتسحت المدن والقرى، منها ما هو منتخب من توجيهات الكبير، ومنها ما هو تذكير بإنجازاته، ومنها ما حث الرعايا على التصويت بوصفه حقاً من الحقوق المقدسة.. وفي يوم إطلاق حملة الكبير، خطب وأعيد بث الخطاب مراراً، وتوقف المحللون والمعلقون وكتبة الافتتاحيات عند كل لفظة، ليعطوها حقها من السبر والتمحيص، ويستقصوا أبعادها العميقة. وانتظمت في الساحات سهرات فنية، ووزعت الأكسية والأغذية التكايا، وارتفعت في الليالي الأوراد والدعاء للكبير بالتوفيق في الانتخابات، وتسابق شعراء ولايات عربانيا في المديح. في الفرز اكتشفت أوراق محفورة، بقلم حقود، وأخرى ملتاثة بالبصاق أو المخاط، وسواها عليه كلام ناب أو رسوم كاريكاتيرية، حتى قال الوزير عبده «ترّبوا سيرتنا تتريباً». ويعظم الخلاف بين الحاشية على نسبة النتيجة بين من يريد نشرها كما هي، ليعرف الكبير حجم الأعداء، وبين من يرى في ذلك ما يثير طمع الأعداء، ويوهمهم أن للمعارضة ثقلاً. وقد انتهى ذلك برفع النسبة قليلاً، حتى يظهر للأجانب أن العملية سارت وفق الديمقراطية «التي أوجعوا بها رؤوسنا»، فأهمل واحد من 10000، لكن الكبير الذي طاف في الشوارع بسيارة مكشوفة محيياً الأذرع التي تروم لمسه، عنّف وزيره: هل تعرف ما معنى واحد من 10000؟ الجواب مئة من مليون «أي ألوف من رعيتي تتحداني». وبينما دوت أغاني المجد صباح الاحتفال بالنصر المبين، كما دوت رشقات الرصاص والطبول والمزامير والزغاريد.. أجمعت الصحف الأجنبية على غبونٍ فاحشة، ووصفت العملية بالمهزلة، فرد الكبير في خطاب الفوز على الأعداء الذين ودوا لو انجاب الاقتراع عن فرقة الأمة، لكنها أمة واحدة، والمؤامرة لم تمر. من بناء الشخصية، إلى بناء المشهد، نهضت العمارة الروائية فيما رأينا من الروايات وهي تمد اللسان الكاوي إلى لعب الديكتاتورية الانتخابي، بالفن الأصعب: فن السخرية، وفن التعدد اللغوي، ليصحّ القول أخيراً: شر البلية ما يضحك
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©