السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دفاتر الحيطان

دفاتر الحيطان
10 ديسمبر 2014 23:05
إبراهيم الملا 1تكشف الكتابة على الجدران عن قابليات لتأويل الفن انطلاقاً من أرضه غير المأهولة، فيما يشبه الخروج عن النمط، وهو خروج يختزن استلهامات مضمرة من الاحتجاج والتعبير الوحشي والطليق، أو ما يمكن نعته مجازاً بتداعيات الذعر والغضب، تلك التداعيات المصاغة في كنف الرعاية الذاتية الخشنة للخيال، ولمطارحه الخصبة. كل هذه الحمولات الغائرة والبدائية سوف تحيل من خلال الدهشة المارقة لحركة اليد والعين إلى ارتكاب الفن بمعناه العاري والمنفلت من كل توصيف وقياس، فهذه الرسومات رغم ما تعرضه من فن نزق وتهكمي وجارح، إلا أنها تتجاوز مصطلح (التجريب)؛ لأن كل مصطلح هو قيد أيضاً، وكل تعريف هو تأطير وحصر، بينما تعمل رسومات المراهقين هنا على كسر الحاجز الذهني والإجرائي للفن الاستعلائي والنخبوي. فعلى جداريات الصخب والانعتاق، وعلى حوائط النشوة والعنف هذه، سيكون التعبير فاضحاً ومدويّاً ومكشوفاً إلى آخر مدى وآخر صرخة، لن تكون هناك شروط، ولن تكون هناك قاعدة سوى قاعدة الإنصات للقلق، ستكون «الخربشات» اللحظية والرسومات الضالة والكتابات الملاحقة بالخوف هي القاعدة الأولى لتفتيت كل قيمة مطمئنة وخادعة في المكان. ستكشف هذه الخربشات أيضا عن مقاومة روحية مذهلة تجاه القمع الاجتماعي والأسري، وستكمن حرية الانتهاك في ضرب الرمز نفسه وإهانته وتشويهه، هذا الرمز الممثّل بالجدران والأسوار العالية، سيكون عرضة للنبش والاختراق والهدم المعنوي، وسيكون مرتعاً خصباً لترويع الكبت، والانتصار على الخنوع والنفي والإقصاء، كما لو أنها قبضة من رماد! 2يقول مغني «الراب» الموزمبيقي الملقب بـ«شوت ب» والشغوف بفن الغرافيتي: «إن الجدار يعتبر بمثابة كراسة الرسم، والشارع هو الفضاء، وهذا ما يحفزني على نقش الصوت والموسيقا على الحجر». هذا الهاجس الذي يطلقه مغنّي «الراب» يشبه الصراخ الممتد على الجدران، وكأنها «تابلوهات» لحواس ضارية وانفعالات شائكة، ففي هذه الرسومات والكتابات ثمة حياة مكتنزة وذاكرة عصية، لا يمكن أن تعبر مثل وهم أو تتلاشى مثل طيف؛ لأنها حياة مقيمة في خلود مستتر، ومنطبعة مثل برق على قامة الروح، وهي ذاكرة مرصودة مثل أنصاب شخصية، ومثل وشم في البصيرة، كما أن هذه الرسومات الخارجة من الشخصاني والسري، إلى الظاهري والمعلن، تشبه حضوراً يتغذى من غياب مهلك وطاغ، صاغته اندفاعات محاصرة ومضغوطة، حيث تختلط هنا إمكانات التبدد مع إمكانات الالتحام، وتجوس الصورة المتدفقة في الهذيان المصمت، ويتبخر المعنى في حرارة التجربة وفوضاها المرتّبة، ليسلك الزمن في النهاية مسار العودة الأبدية بتوافد ولهفة ونهَم. مثل هذه الرسومات المشرعة على العين لا تغادر طفولتها أبداً، رغم انكسار العمر، ورغم الخسارات المضاعفة، وهي تكسب أهميتها من خلال «قوة الكمون الانفعالي» على حد تعبير الفنان الفرنسي الفطري جان دوبوفي، حيث يترصّد ارتكاب الفن هنا كل خيال متاح، وكل زخم تعبيري يحتشد في النتاج العفوي والمباشر لحركة اليد في تعاملها مع (الباليتة) المجازية والخشنة التي تمثلها الجدران ذاتها، حيث لا يمكن منح شرعية أدبية أو فنية محددة لهذه الخربشات، ولأن (الفن يفسر نفسه بنفسه) كما يقول نيكولا دوستائيل. 3إن الامتيازات المباشرة للمخيلة في عنف حضورها، سوف تمنح هذه الكتابات والرسومات حياتها الخاصة المتوّجة بالرعب والسرّ، بالفكاهة والتذمّر، وبدعايات ماكرة وتعليقات فضائحية، وسيكون لاندفاعات المراهقة والتعبير الحسي اللاذع دور في الذهاب عميقا نحو تعميم (الأنا) وإثباتها كحيلة سيكولوجية بديلة عن التهميش والانزواء والكتمان. إن الشغف المضطرم لجداريات الأحياء الشعبية يتقاطع دون شك مع تلك النقوش البدائية للأجناس المجهولة قبل التاريخ والتي عثر عليها في المغاور والكهوف، فكل هذه الدلالات المشعّة للتعبير الانفعالي تتلاقى وتمتزج مع أصول بائدة لهذا التوليف التشكيلي الفطري في كهوف «تاسيلي»، و«ألتميرا»، و«لاسكو»، التي تعتبر من أشهر المواقع العالمية الدالة على بدايات القفزة الإنسانية الهائلة في نقل (المجرّد) إلى (المشخّص)، كما أن الشواهد المحفورة على سفوح الجبال تحيلنا مباشرة إلى هوس تثبيت الزمن، يتجمّد الزمن بحمولاته ودلالاته من خلال التوثيق الفني حتى لو جاء هذا التوثيق بشكل زاهد وفقير، فالكتابة على الجدران لا ترتبط بمقاييس ولوازم وأوزان، وهي لا تخضع لقانون ونظام؛ لأن وجودها إنما يترجم وبصدق تلك النزوة العابرة وتلك البراءة الممزوجة بشراستها، فوسط الحواري و«السكيك» و«الفرجان» والأسوار الخلفية للمدارس والمقابر والبيوت المهجورة، سيتطاول هذا الهاجس المشتعل على الجدران وسيعلو فوق كل تصنيف متحفي، وفوق كل حيازة واصطناع وقصد، ولاختلاط الرسم مع الكتابة جذور ممتدة إلى زمن سحيق، فهناك حضارات لم تفصل بين الشكل ومدلوله من خلال وسيط ثالث هو الكتابة، كما كان ذلك واضحاً في النقوش الهيروغليفية والنصوص المسمارية، فكان الشكل أو الرسم يترجم كل الدلائل الصوتية أو الإيحائية، فالإنسان القديم في حواراته غير المكتشفة حتى الآن، كان يستعيض بالرسم كبديل عن عجز اللغة، فإذا أراد الإشارة إلى حيوان رآه، كان يرسم هذا الحيوان مباشرة لأنه غير قادر على استحضاره فيزيائياً، وكان التشخيص هو وسيلته المثلى لبعث الصورة المقبورة في الذاكرة. 4كان بعض الفنانين والكتّاب في عصورنا اللاحقة والقريبة يستعيضون وبشكل إرادي عن رغبتهم في الكتابة المستفيضة والمرهقة باختراع آليات حروفية ورمزية بديلة ومختصرة، تعيدهم لفراديس الطفولة وتغنيهم عن تدبيج مقالات وقصص مطولة، ففيكتور هيجو مثلاً كان يرى في حرف (Y) دلالات كثيرة، فهو شجرة وهو قرنا ثور، وهو إنسان متضرّع بالدعاء، وهو مفترق طرق إلخ.. كما كان الشاعر ميشيل ليريس ينظر إلى حرف (X) على أنه حرف مغلق على سر أبدي، كما يرى فيه إيحاءً تعذيبياً، فهو يذكّرنا مباشرة بتذوّق عذاب الدولاب الذي يفسّخ الأعضاء! والشاعر لويس آراغون عندما كان يكتب وهو طفل، كان يدسّ بين الحروف شخوصاً وأسماكاً أو طيارات ورقية ويشدّها إلى أطراف الكلمات بخيط طويل ومتعرّج! كما أن بعض الحروف تحمل في دلالاتها الشكلية ما يجاور الرؤى الصوفية والطاقات السحرية، وبعضها يحمل رمزية ماكرة، وهي فعل بسيط ومأساوي وفادح في آن، حيث يحكى عن الخطاط المعروف (ابن مقلة) في القرن التاسع، إنه ربط في إحدى حدائقه: (حديقة نبات أو خط ربما) خيوطاً من حرير كي تحطّ عليه طيور الموسيقا! والطفل في بداية محاولاته الحروفية، إنما يكتب بالرسم، فالرسم والكتابة عنده يختلطان في أشكال متعددة تعبر عن لغة طازجة وغير مكتشفة، تحاول خلق علائق حارة وانفعالية بين الشكل الذهني المتخيل وبين الشكل الفعلي المنجز. 5تبدو دفاتر الشارع هذه وكأنها منفصلة عن الأنساق الأكاديمية لأنها تنشأ في حقل انجذاب وانغماس في البداهة الحرّة، فالكثير من هذه الخربشات لا يتوفر على بعد تزييني أو اشتغال بصري متكلّف، ولكن إذا ضفرت بعض هذه الرسومات بأنماط متطورة من التعامل مع دقة التفاصيل وتوزيع الكتل والأبعاد اعتماداً على علب البخّ أو على الطباشير الملونة، فهي إنما تستقي هذا الجهد الاحترافي من فئات نادرة وخارج نطاق التعميم عند الحديث عن خربشات طليقة ومنسلخة من واجب الصرامة وفروض التأطير. وعطفاً على ذلك، فإن رسومات المرضى العقليين والسذّج ونزلاء السجون لا تبتعد كثيراً عن رسومات الجدران المفتوحة على أفق الغبار والبصيرة المرتجفة، فكل هذه الفنون العصابية والجامحة إنما تلتقي عند منعطف التلذّذ باللون والحركة وبنشوة الكتابة للذات، وللآخر المجهول، كما أنها تلتقي عند نقطة فارقة، وهي رغبة التنفيس وإطلاق العنان للدواخل الغامضة والمشحونة والمتوترة، حيث يحاول أصحابها الاستنجاد بالتعبير اللوني والتشكيل (الميتافوري) كمنفذ وخلاص للعنف المقيم في اللاوعي، والقريب من الحواف الخطرة للأحلام والكوابيس والهلاوس. وأخيراً، فإن هذه العناية المبتورة بجرح المخيلة وأسقامها، هي أشبه بعناوين فادحة لصور مقذوفة وملتصقة بقوة على حوائط الضواحي الفقيرة والأحياء الهامشية المنزوية، كي تهبنا في النهاية أرشيفاً لعذابات ونشوات ومكابدات، وكي تهدينا غلّة مضاعفة من هذا الفن الفطري والبكر لأشخاص طبعوا أرواحهم على ماء الوقت، ومضوا إلى نسيان لامع، وإلى ذاكرة مطفأة في ضباب الأبد!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©