الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل يُنقذنا الشِّعر من الشاعر؟

هل يُنقذنا الشِّعر من الشاعر؟
10 ديسمبر 2014 23:05
تشعر أنّ حبات المسبحة بدأت تتساقطّ وراء بعضها، هذا العام كان مسرحاً لا بأس به شهدنا على خشبته أفول عدد جيد من النجوم والأعلام، يومان بعد صباح يرحل أيضاً سعيد عقل وقبلهما كان أنسي الحاج، وكأنّ لبنان يغادره زمن كامل لا شكّ أنه كان من أزخر وأغنى عصوره، سمته هؤلاء الذين عزّزوا صفاته وشكّلوا جزءاً آخر منها، بالجمال والإبداع وكثير من الأنانية في حبّها والذود عنها. وئام غداس سعيد عقل الذي وضع ساقيه على أرضية قرنين، مختلفين، متباعدين، ومتنافرين في حالات كثيرة اتسم الأول قبل كل شيء بحروبه فقد ولد سعيد عقل قبل عامين من اندلاع الحرب العالمية الأولى، وعليه فقد شهد كلّ صخب آتٍ بعد ذلك من تشظيات الحروب والتقاتل واشتباك الهويات وكلّ الأحداث الكبرى التي عرفتها الإنسانية، أما القرن الثاني فاتسم بانقساماته وظواهره وثوراته، وأيضاً بكثرة شعرائه وهذا قد يكون سبباً كافياً لتقوقع عقل لفترة طويلة جداً وانكفائه على نفسه ووحدته فقد عرف بمدى صرامته مع سائر الشعراء من معاصريه ولاحقيه وحتى سابقيه، كانت صراحته لاذعة ومواقفه جريئة ويبدو وكأن أحداً غيره لا يعجبه، نقده الذي طال حتى أبو الطيب المتنبّي، هو الذي رأى أن أدونيس ويوسف الخال ومجلّة «شعر» خرّبوا الجمال، وان نزار قباني عهّر المرأة وعرف بكرهه لماركس وفرويد وبيكاسو زاعماً أن هؤلاء هم من خرّبوا الحضارة وانطوت شخصيّته على كثير من النرجسية والشوفينية. هوس الهويةسعيد عقل (1912 ـ 2014)، كان مصاباً بهوس الهويّة اللبنانية، هوس حاكى الجنون.. هو الذي سعى إلى «لبننة» العالم ذهب به هذا إلى حد الدعوة إلى إلغاء اللغة العربية واستبدالها بما سماه اللغة اللبنانية عبر أحرف لاتينية وأصدر بالفعل ديواناً بهذه اللغة، لكن أحداً لم يكترث بدعوته تلك. تشبث الشاعر بالهوية اللبنانية كانت عن نزعة نابعة من ذاته في التشبث بالأصول وهو ما يتخلص فيه شعره الذي لم يشأ الخروج من قوالب الكلاسيكية المطلقة، و»الرجعيّة « الشعريّة لو صحّ القول، هو الذي درس اللاهوت ودرس الفقه ولطالما كان ذلك مدعاة لفخره وتكريساً لنظريّة تفوّقه عن سواه وكلّ هذا حسبه، صاحب الهيكل الضخم والشعر الأشعث الكثيف كان صورة عن المعلّم القادم من الغيب، المترفّع عن كلّ البشريّ «الوضيع» والضعيف، حتى كانت معشوقاته محض خيال بحت، هو الذي قال: (هِم بالنظر/ أبقي الأثر ما لم يزل موصداً)، فيكاشفنا خوفه من المرأة وجسد المرأة حدّ الاحتقار ومن مفارقاته أنّه كان يُقدّس أمّه خير دليل أجمل ما كتب وغنّت فيروز عن الأمّ : «أمّي يا ملاكي.. ياحبّي الباقي إلى الأبدِ»، الجمال عنده مطلق وبعيد، فوقيّ ،لا سبيل لتحققه أو تجسده على أرض الواقع. من هنا قال عنه صلاح لبكي إنه ينحت اللغة بلا إحساس ويتغزّل بالمرأة بدون شعور. عالم طوباويعالمه الطوباوي المبالغ في مثاليته وتجريده لم يكن السبب الرئيس في كونه شخصية إشكالية في حياته وفي مماته ولكن لأنه شاعر مهموم بقوميته، خياراته كانت صادمة، لبنان ومن بعده الطوفان. اختار الاكتواء بنار السياسة وعاش طويلا تحت سقفها مع أنه خيار صعب للغاية لأي مبدع في أي مجال ذلك أن الناس عادة لا تنأى عن الجوانب الإنسانية الأخرى لدى الشعراء وغيرهم بل كثيراً ما تختلط رؤاهم وأحكامهم بمدى رضاهم أو اعتراضهم على الجانب الآخر مهما تكن خصوصيته. ننسى في الغالب أنّ الشاعر كائن لا يرقى فوق صفة البشريّة ولا تخلو حياته وشخصيته من هنات وهفوات علينا التعامل معها بمنطق البشريّ المبني بالأساس على الخطأ والتجربة، النجاح والفشل. أما الحكم عليه ككائن مطلق النزاهة وصوابية الرؤى فهذا للأسف ما جعل صوراً كثيراً لهؤلاء تهتزّ في دواخلنا ذلك أنهم كانوا أقلّ من توقعاتنا ذات المسحة الملائكية عنهم، من أجل ذلك نجد أن أغلبهم اختار الحيادية التامة ولو أتى ذلك على حساب رغباتهم في أن يكونوا أنفسهم وأن يكونوا حقيقيين أمام الآخر وبالتالي التعبير عن مواقفهم، وقد لا يكون هذا في مقدور الجميع أي وصاية الجمهور المستبدّة. في ذات الإطار لا شكّ أنكم تذكرون جيداً حجم السخط منذ فترة قصيرة حيال الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش عندما أعلنت «ريتا» بطلة أغلب قصائد حُبّه عن نفسها مستظهرة بالرسائل والذكريات والتفاصيل لعلاقة دامت أعواماً مع الشاعر كانت مثالا لقصة الحبّ العنيفة ومحرّضاً لأجمل ما كتب في الحبّ. الذين ذرفوا الدموع أمام قصيدة «شتاء ريتا الطويل»، هم أنفسهم الذين هاجموا درويش وادّعوا أنّه خذلهم، نعم خذلهم، خذل رسمهم له طيلة عقود بجناحي الملاك، فقد يزلّ أي فلسطيني عاديّ ويقع في حبّ يهودية أما درويش فلا.. وبالفعل أعرض الكثيرون بعد ذلك عن قصائده ولليوم بات الحبّ ممسوساً بأثر الصدمة، فريتا تكون تمار بن عامي الراقصة اليهودية ذات الأصول البولندية. اكتشاف مثلية لوركا والفرنسي أرثور رامبو وغيرهما، شذوذ فرجينيا ولف وأناييس نين وغيرهما. إيميل حبيبي الذي خسره الأدب بسبب السياسة وأخيراً تصريحات سعدي يوسف الأخيرة والتي بسببها كادت تُحرق كلّ كتبه في بغداد، كلّها أثّرت في صورهم ونغّصت على جمهورهم أخذهم بحرية المحبّة التي لا تحدّها تقاطعات للمبادئ أو الأخلاق. هكذا إذن هم الكتاب لا ينفصل شطرهم الإبداعيّ عن الشطر الإنسانيّ في ذهن المتلقّي، وهكذا كان سعيد عقل الذي اختار المجاهرة بمواقفه عبر خوضه الحياة السياسية، كان موضع إشكال واختلاف على الدوام، هل ينبغي معاملته كنصّ أو كشخص؟ أخطاء السياسةأخطاء سعيد عقل في السياسة كانت مروّعة وفادحة تمثلت بالأساس في عدائه العنصريّ للفلسطينيين ووقوفه مع إسرائيل في قتلهم وإبادتهم، ففي مقابلة تلفزيونية عام 1982 وإبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان كانت الأبغض على قلوب الفلسطينيين بل وغيرهم من العرب المتعاطفين مع القضية، دعا عقل البطل ـ على حدِّ تعبيره ـ «مناحيم بيغن» والذي كان آنذاك رئيساً للحكومة الإسرائيلية أن يُنظّف لبنان من الفلسطينيين، حاثّاً اللبنانيين إلى القتال مع صفوف الجيش الإسرائيلي حيث أسماه «جيش الخلاص». ومهما يكن سياق كلامه هذا، ذلك أن البعض اعتبر أنه قد جاء في فورة غضب ويأس بسبب حرب أهلية ضارية كانت دائرة آنذاك بين اللبنانيين أنفسهم إلى حدّ أنهم استقبلوا الجيش الإسرائيلي بالفرحة والزغاريد والورود، مهما يكن السياق يظلّ موقف عقل قمّة في العداء غير المبرّر ونصرة الظالم على المظلوم، هذا ما لم ينسه الفلسطينيون وهو ما استفاق عند موته في مشاعر متضاربة بين حزن وعدم اكتراث، حزنهم على شاعر عظيم وعدم اكتراثهم بشخص دعا إلى تصفيتهم وتعامل معهم بمنتهى القسوة والفاشية والعنصرية في أحلكِ الحقب التاريخية التي مرت بهم. رحل سعيد عقل الزحلاوي تاركاً إرثاً هائلاً من التحف الشعريّة والسقطات الإنسانيّة وعندما احتفلت الكنيسة المارونية قبل عامين بمئويته تساءل إلياس خوري: هل ينقذنا الشّعر من الشاعر؟ سؤال يحتاج إلى الكثير من التعامل المرن والفهم العميق للذات الشاعرة ،المأساوية والمتناقضة بطبعها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©