الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختزاليات الفرجة

اختزاليات الفرجة
10 ديسمبر 2014 23:27
«انفض السامر وتَفَرَّقَ العشاق»، من دون موعد قريب للتلاقي مجدداً قبل مثل هذه الأيام في العام المقبل. ربما هذا ما يومض بالنفس، ويترك بعض الأسى، الذي ينغص البهجة، المصاحبة لختام العرس المسرحي في إطار «مهرجان دبي لمسرح الشباب»، الذي انتهت فعاليات دورته الثامنة قبل مدة، باحتفالية باذخة، قاربت احتفاليات مهرجانات السينما الدولية، بأضوائها وفقراتها المنظمة على الإيقاعات التراثية، واللوحات المشهدية البصرية والتعبيرية الفارهة، التي غطت مدخل المكان، وازدحمت في البهو الرحب، وعلى المسرح المكشوف في «ندوة الثقافة والعلوم»، ما أضفى على العرس المسرحي مسرات مختلفة بنكهاتها الماتعة عن الدورات السابقة. محمد وردي إنه جهد ملحوظ يُحسب للجنة المنظمة للمهرجان برئاسة ياسر قرقاوي ومساعدته منال بن عمرو، من ضمن مساعيهما لتطوير عروض الدورة الحالية، التي تميزت جميعها بالفصحى، والسعي إلى تطعيمها بمقاربات تجعلها جماهيرية، من خلال بعض «الأفيهات»، أو المشهديات الكوميدية المتناثرة بالنصوص. هذا فضلاً عن فكرة «المجلس» التي تميزت بحضور قوي ولافت في الدورة الحالية، لجهة ما تناولته الجلسات من نقاشات وحوارات، عرضت شؤون وشجون المسرح الإماراتي، بإدارة علياء المر المهيري مدير قسم اللغة العربية في هيئة «دبي للثقافة»، التي شكل حضورها إضافة غنية ونوعية للمهرجان، سواء على مستوى تحضير موضوعات الجلسات المدروس بعناية، أو على مستوى إدارة الحوار، وتوجيهه إلى غاياته المعرفية بكفاءة، من خلال قيامها بعرض الخلاصات التي يتلاقى عليها المتحاورون بأفكار وتوصيات محددة. وعلاوة على ذلك، حرصها على تقديم العربية بسحرها الجذاب، وخصوصيتها في «السهل الممتنع»، الذي يجعلها قريبة من القلب قبل العقل. ومع ذلك، غاب معظم المسرحيين الشباب عن جلسات «المجلس»، بحيث اقتصر الحضور في الغالب على المخضرمين والرواد من الفنانين والكتاب، إلى جانب الضيوف والإعلاميين من المهتمين والمتابعين للحراك المسرحي في الدولة. ما جعل مسألة غياب الشباب عن «المجلس»، تضاف إلى شروط المشاركة بدورات المهرجان المقبلة، كتوصية أجمع عليها جميع المعنيين بالمسرح. تظاهرة ثقافية لا ريب أن الأيام العشرة من عمر المهرجان مَثَّلَت تظاهرة ثقافية جميلة، وعميقة الدلالات على كل المستويات الفنية والمعرفية في الوقت عينه، بغض النظر عن مستويات العروض، وما يمكن أن يسجل لها أو عليها. باعتبار أن القوة والاختلاف عن بقية الفنون هما من أهم سمات الفن المسرحي؛ ذلك لأن القوة في المسرح تكمن بكونه يحتل المرتبة الأولى في فن «الفرجة» الحسية المباشرة، التي تقوم على صدمة الوعي بالمعنى الإيجابي، سواء على مستوى الإمتاع والمصالحة مع الذات والواقع، وحركة الوجود برمته، أم على مستوى طرح الأسئلة الكبرى، ورصد المآلات الإنسانية في تحولاتها وتقلباتها المصيرية الحاسمة. أما الاختلاف، فيأتي من كونه يتيح إمكانية توظيف الفنون كافة في خدمة العرض جمالياً ودلالياً كي يقوم بدوره التثويري، بدءاً من الشعر والغناء والموسيقى والرقص بأنواعه، مروراً بالفنون الحركية والمفاهيمية والتشكيلية، وصولاً إلى المشهدية التلفزيونية أو السينمائية. ولعل أجمل ما في تظاهرة مسرح الشباب، الحضور الشبابي، الذي رافق العروض ومناقشتها، وبدا متناغماً بهواجس الفن الأصيل وقلق الإبداع النبيل، إلى جوار جيل المؤسسين والمخضرمين من الأجيال التي تلت مرحلة البدايات في الثمانينيات الماضية. أولئك الكبار، الذين أقبلوا على «أبي الفنون» بفطرة الانتماء، وتوق الأرض البكر للماء والنماء، فكان الحصاد تجارب غنية، أدهشت وأمتعت النقاد والذواقة في حينها ـ كما يشهد الجميع ـ ومازالت حتى اللحظة حاضرة بقوة في الذاكرة، مثل أعمال أحمد الجسمي وعمر غباش، واسماعيل عبدالله، ومرعي الحليان وسالم حتاوي، وعبدالله صالح وجمال سالم وناجي الحاي.. بالإضافة إلى آخرين كُثر، من ضمنهم حسن رجب، الذي جرى تكريمه بالدورة الحالية، باعتباره «شخصية العام المسرحية»، وهو تكريم مستحق لصاحب أعمال «على جناح التبريزي»، و«بهلول والوجه الآخر»، و«حرم معالي الوزير» و«نهارات علول»، وغيرها من الأعمال، التي لا يمكن نسيانها أو تجاهلها، وخصوصاً لجهة دورها في تعميم الثقافة المسرحية الراقية بالفصحى. فرصة كبيرة المؤكد أن المهرجان يتيح فرصة كبيرة للشباب الموهوبين في المسرح،والمؤكد أيضاً أن هناك محاولات جادة يقوم بها بعض الشباب على مستوى إغناء الحركة المسرحية في الإمارات، ولكن هل حققت هذه الفرصة غاياتها المرجوة في الارتقاء بالفن المسرحي، والوصول به إلى غايته التثويرية بالمعنى الإبداعي الفاعل؟. وهل تمكن الشباب من تقديم عروض مميزة بخصوصياتها الثقافية، أو هُويتها الإماراتية؟. وهل جرى تقديم عروض تجريبية لافتة؟. وهل نجح المهرجان بتقديم عروض جماهيرية كما وعدت إدارته؟. وإذا كانت هذه التساؤلات مشروعة، فأين تكمن المشكلة؟. هل هي عند الشباب بعينهم، أم هي في أماكن أخرى؟. فيما نظن أن الأسئلة الآنفة الذكر جديرة بالاهتمام، وتستحق التوقف عندها مطولاً، لا بل نرى أنها تحتاج إلى دراسات معمقة ومكثفة، قد تصعب الإحاطة بعناوينها في مقالة صحفية. ومع ذلك، يمكن للقراءة المتأنية تسجيل جملة من الملاحظات، نظنها جوهرية، من أهمها التالي: أن معظم العروض في الدورة الحالية ـ ما عدا مسرحية «على الهاوية»، التي نال مخرجها حسين جواد جائزة أفضل إخراج ـ غلب عليها الطابع الشكلاني، أو ما يمكن أن نسميه «مسرح الصورة»، الذي يقوم على المشهدية البصرية، أوالبهرجة والإبهار في الأزياء والديكور والإضاءة والموسيقى والمؤثرات الصوتية، بالتمازج مع الغناء والفنون الحركية والإيقاعية. كما بدا أن جميع العروض حرصت على دس بعض الرموز التراثية، لتعزيز الصورة فقط، وليس من أجل توظيفها دلالياً. بمعنى أن إسقاط الرموز التراثية على العرض جاء دوغماتياً، حيث اقتصر حضورها على واقع الخشبة، ولم يرتق إلى الواقع المُعاش ومحاكاته معرفياً، من خلال الإشارة إلى رؤى وأفكار جديدة تعالج مشكلات الحاضر، أو تضيء على المستقبل. علماً أن رواد المسرح العالمي منذ الستينيات والسبعينيات الماضية، أخذوا يتخففون من «مسرح الصورة»، لمصلحة «مسرح الكلمة» أو النص. ذلك لأن الصورة السينمائية أو التلفزيونية، هي الأكثر صدقاً وإقناعاً من الصورة المسرحية، مهما كانت «السينوغرافيا» و«الكيروغرافيا» حاذقة وماهرة بالتصوير. لذلك جرى تركيز رواد المسرح العالمي والعربي عموماً على الكلمة، التي يمكن للمسرح من خلالها إثبات اختلافه عن الفنون الأخرى، وفي الوقت عينه تأكيد حضوره وقوته التثويرية على كل المستويات المعرفية والجمالية. لذلك لابد للمسرح أن ينهض في الأساس على الكلمة أو محتوى النص كحامل أساسي للشكل والمضمون، لأن وظيفة المسرح ليست تصوير الواقع، بقدر ما تقدم خطاباً عن الواقع. الخصوصية المفقودةافتقدت معظم العروض خصوصيتها الثقافية أو هُويتها المحلية، رغم أن جميع المخرجين حرصوا على دس بعض الرموز التراثية في المشاهد، وبالأخص مسرحية «النوخذة والطبال»، الحائزة «جائزة العرض المتكامل»، للمخرج حسن يوسف، التي حشدت الكثير من العناصر في الديكور والأزياء والغناء والموسيقى والإيقاع. ولكنها ظلت من دون قيمة، لأنه لم يجر توظيفها بمعانِ معاصرة تعزز دلالاتها وتغنيها، وتعطيها مشروعية الحضور المُلّهِم في اللحظة الراهنة، بصفتها مكتسبات مازالت فاعلة بالوعي الإنساني. وإلا فمكانها الطبيعي هو المتحف وليس خشبة المسرح. هذا فضلاً عن كون جميع العروض بدت غير منتمية لمدارس أو تيارات أو مذاهب فنية بعينها. لا بل بدت العروض وكأنها جمعت «من كل واد عصا» على غير هُدى، كما يقال. ما يؤكد أن معظم المخرجين الشباب لا يدركون الحدود الفاصلة بين المسرح الرمزي أو العبثي، أو بين المسرح الواقعي أو الخيالي مثلاً. نزعات المراوحة أيضاً يغلب على معظم العروض المراوحة وغياب النزعة التجريبية، التي يفترض أن تميز المسرح الشبابي، بحيث يصعب اقتناص ولو مشهد واحد، يكسر التقليدية أو النمطية المألوفة في العرض المسرحي. ونظن أن ذلك يعود لغياب الفهم الواضح للمدارس، أو المذاهب المسرحية الشائعة، أو المعروفة منذ نصف قرن على الأقل. ما يجعلنا نكرر مجدداً ما قلناه في قراءتنا للدورة السابقة، بأننا شاهدنا شباباً على المسرح يؤدون في بعض الأحيان أدوراً باحترافية عالية، ولكننا لم نشاهد مسرحاً شبابياً، سواء على مستوى صناعة المتعة والمسرة المشهدية البصرية، المفارقة للواقع، أو على مستوى الرؤى والأفكار الإشراقية، القادرة على تشكيل صدمة للوعي ـ بالمعنى الإيجابي ـ وخصوصاً لجهة زحزحة «التابوهات» الثقافية، أو تغيير الأنساق الذهنية الحاكمة بالوعي الاجتماعي، واستبدالها بأخرى تتناغم مع قيم الحداثة الإنسانية، وتطلعات البشر الدائمة إلى الأبهى والأجمل والأنبل في الوجود. وهاتان المسألتان هما من أهم وظائف المسرح، حسبما نظن. وهذا ما يجعلنا نتساءل، هل غاية المهرجان تقديم شباب على خشبة المسرح، أم شباب المسرح؟ كذلك بالنسبة إلى الانتقال من الحال النخبوية السائدة في المسرح الإماراتي المعاصر، إلى الحال الجماهيرية، على مستوى الحضور على الأقل. فنظن أن الكوميديا على أهميتها في هذا الخصوص، ليست كافية، بقدر ما يجب التركيز على لغة النصوص النظيفة، القادرة على تقديم المعنى بحلة بسيطة يستطيع أن يفهمها المتلقي العادي بكل محمولاتها الرمزية والدلالية، ويستمتع بها في الوقت عينه، باعتبارها تغني مداركه وتلبي حاجاته الروحية والمعنوية، بالقدر الذي يستمتع بها المتلقي النخبوي المتخصص، أو الأكاديمي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©