الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأنفاس والنسيان

الأنفاس والنسيان
30 نوفمبر 2011 23:22
أحمد راشد ثاني a.thani@live.com لأن تنفسك طبيعي، لا تعرف أنك تتنفس، لا تحس بأنك تتنفس. تستيقظ في الصباح، تفتح عينيك على ما حواليك، تفتح حواسك على العالم، طعم سهرة البارحة ما زال على طرف لسانك، وتسمع من حولك الحياة وهي تصدر أصواتها اللامتناهية. طرقات العالم لك. تأخذ هذا الطريق وتترك ذاك، تصعد هذا المصعد، وتنزل من ذلك السلم، تذهب لكي تفعل كذا، وتعود وقد فعلت، أو لم تفعل، تهدأ، تشرب قهوة وتهدأ. تحكي. تضحك. تحمل الخفيف وتحمل الأثقل. تقطع الممرات، أو تجلس بالساعات تحيك الأوراق. تحيك الوقت. تحيك العبارات. تحيك الصمت. تأكل. تشاهد الأخبار وتحلل. تشاهد المسلسل وتسخر. تنام قليلاً. تقوم. تركض خلف ابنتك التي اختطفت الشوكولا من يدك. تركض خلف زوجتك التي قالت لك تلك الجملة. تعد شاي العصر وتُكلم أحدهم بالتلفون. ثم تقوم إلى طاولتك المعتادة في البيت أو في المحل الذي ترتاد. تشعل الطاولة بالقراءة الغارقة، بالكتابة من اليمين إلى اليسار، بالثرثرة الحمراء. تقوم لرياضات الليل، أو يأخذك التهجد إلى الينابيع الملتهبة، تهجدك الأقرب إلى الرقص، رقصك الأقرب إلى الصلوات، صلواتك المتبتلات في معابد الناسوت، ضحكاتك المتدفقات كدم القرابين، المتلألأت كفقاعات، العميقات كعيون الفشل. تفعل كل هذا، أو بعض هذا، أو لا تفعل. تنام فيأخذك الحلم كالطفل إلى أقبيته المائية، ومغاراته اللزجة. تنام كالطائر المتعب، أو كخيل خسرت الحرب، أو جبل أكل رأسه الظلام. تنام حتى الصباح، حتى تقوم لمهمات الصباح، فليس هنالك من مشكلٍ، فتنفسك طبيعي ولذلك لا تعرف بأنك تتنفس. إن عظمة الأنفاس تكمن في القدرة الفذة على النسيان. 2 ضيق في التنفس، أحس بضيق في التنفس، خاصة قبل النوم، أحس بذلك في أوقات الصحو أحياناً وبشكل متقطع. يتسارع تنفسي حتى أحس بأنني سأختنق، إذا كنت جالساً أقف، وإذا كنت واقفاً أجلس فيختفي ذلك الإحساس. أنساه. أنسى أنني أتنفس فأرتاح. عند النوم، في الليل، تبدو الأمور أسوأ أو تبدو أوضح. هل هي أسوأ لأنها أوضح؟. إذ ما أن أضع رأسي على الوسادة حتى تضيق أنفاسي. أقوم وأصطنع زفيراً وشهيقاً. أعرف بأنني الآن أزفر أنفاساً وأشهقها. يستمر ذلك لدقائق. أهدأ. أحاول النوم من جديد، ومن جديد أتذكر بأنني أتنفس. شيء يذكرني بأنني أتنفس. فأتنفس، أعمل على أن أتنفس. أسرع بالتنفس، يُسرع بي. هكذا إلى أن أسقط مغشياً عليَّ من التنفس وأنام. 3 موعد طائرتك في الثالثة صباحاً، طوال اليوم وأنت تستعد لهذا السفر. تحزم حقائبك، وتحاول أن لا تنسى شيئاً. تغتسل وتلبس، ومن ثم تتجه للمطار. تنتهي من الإجراءات، وتجلس بانتظار الطائرة. تتأخر ساعة أخرى. وفي الرابعة يصعد ذلك الطائر الحديدي إلى مساره في السماء. أي قلق ينتابك وقتها لا معنى له. المشروبات والمأكولات والثرثرة والغطيط في النوم تصدح بهناءة الرحلة. وتحملكم السماء سبع ساعات، ثمان ساعات، ثم تنزلقون على أرض مطار البلاد البعيدة. مطر خفيف يضبضب نافذة سيارة الأجرة. على جانبي الطريق أشجاراً وبيوتاً وبشراً يعبرون. رأيت من قبل أشجاراً وبيوتاً وبشراً يعبرون، ولكنهم يتجددون هنا لأن المكان جديد على عيونك. كل شيء. كل أحد يشبه الهواء الذي يحيط به، وكثرٌ هم البشر هنا، يكدحون كمن يتنزه، ويتنزهون كمن يكدح. توصلك السيارة إلى الفندق الذي استأجرت. الفندق مغرٍ. تصعد إلى غرفة تتعرف عليها لأول مرة. تلقي السلام على الغرفة وتستحم من وعثاء السفر وتحاول النوم إلا أن ثمة طاقة تستبد بروحك، تخرجك من جديد إلى الشوارع المحيطة بالفندق. تتجول. تجلس في ذلك الركن كي تتزود بالراحة ومن ثم تواصل جولتك، حتى تعود من جديد إلى الفندق كي تنغمس في الملذات التي يقدمها الليل لأصحابه في مثل هذه المدينة. وهكذا تظل متقداً ونشطاً حتى الرابعة صباحاً حيث تصعد إلى طائرة النوم وها هي تسير بك الهوينى في سماوات الغياب، إذ ليس هنالك من مشكلٍ، فتنفسك طبيعي ولذلك لا تعرف بأنك تتنفس. 4 في صباح اليوم التالي يزداد ضيق التنفس. وعلى ما يبدو فإنها حالة لا يحلها إلا حلالها: المستشفى. أذهب إلى المستشفى. الكرسي المتحرك يركض بي نحو السرير، أتمدد على السرير ويوضع أنبوبين أكسجين في أنفي. عليك الآن أن تتنفس بهدوء، يمكنك الآن أن تتنفس، يمكنك الآن أن تنسى. بعد ساعات من التمرجح بين اليقظة والغفوة أدخل إلى غرفة العناية المركزة ولكن بدون أنبوبي الأوكسجين، يبدو أنني لم أعد بحاجة إليهما. وما أن يستقر بي الحال على سرير المرض ذاك، حتى تعود معاناتي من جديد، إذ كلما حاولت النوم انتابني ضيق في التنفس، أو إحساس بضيق التنفس وكأني أعود من جديد لأتذكر أنني أتنفس. أكثر من ذلك حين أغفو لساعة أو ساعتين أصحو من كابوس، وحين أصحو، أصحو على ضيق تنفس وكأن أفكاري الداخلية والأحلام تتحرك هي الأخرى على إيقاع الشهيق والزفير. 5 عدت إلى البيت من يوم عمل وحركة طويل. عدت وأكلت جيداً على الغداء، ونمت بعدها لساعة أو ساعتين، ثم أسرعت لإحضار خضراوات وفواكه وسمك، إذ تكاد تخلو منها ثلاجة البيت، وبعد أن تركت الأكياس التي جلبتها على طاولة المطبخ، دلفت إلى حياتي، وجالست طاولتي. القراءة تأخذني إلى حديقة الأمواج، كل موجة حين تعلو تأخذ ما تأخذه من قش تفكيري وتوزعه على مياه المحيط بعدالة الطيور، وكل موجة حين تنكسر، تنكسر على رمل تفكيري كي تملأ ثقباً من ثقوب ساحلي بنصاعة الماء الحر. ساعات وأنا منحنٍ وأعمل على هذا الحيد الروحي، أعمل في فتق الجماد، أعمل في نسج البرق. أعمل كبحار على سفينة الغرق، وكمستكشف لأغوار القطرة، وكراع لكريات النبض الحمراء. أعمل حتى تحين وقت اندلاع ثرثراتي فأقوم إلى خلَّاني أفتح في الكلام كوة الضحك، وفي الانفصال طاقة اللمس. الجدران التي تحررت من طغيان السقف، تركض كالغزلان في حديقة البصيرة. تكاد الألوان تسيل بين أثاث اللحظة. عضلات في الكلام، نزقٌ في احتطاب الليل، اختبارات فذة لكوامن الحواس. يعجن الجسد هشاشته ويخترق بها غشاءات اللذة المرهفة. يحرث السكون ما حررته الحركة من أرضٍ في حوض الرعشات، فأمضي أكثر في هذا الغي الجليل، إذ ليس هنالك من مشكلٍ، فتنفسك طبيعي، ولذلك لا تعرف بأنك تتنفس. 6 في صباح اليوم التالي لدخولي المستشفى حان وقت الفحوصات، وسواء كنت تستطيع المشي أو لا فإن الروتين الخالد يُلزم بجلوسك على الكرسي، ومن ثم تدفعك ممرضة أو ممرض في ممرات المستشفى. زوار. البعض يطالعك بشفقة، والبعض بلا اهتمام. ولكني هذه المرة كنت فعلاً بحاجة إلى كرسي، إذ أحس بإنهاك شديد ويزيد ضيق نفسي حتى ولو قطعت مسافة بسيطة. تُفتح الأبواب والمصاعد للمريض المدفوع على الكرسي، ونحن نتجه الآن إلى فحص يسمى، إذا ما تذكرت، الأشعة تحت الضوئية. يُدخلني الكرسي إلى الغرفة، ومن ثم أحمل نفسي إلى السرير وأستلقي على السرير، بينما أرى الكرسي وهو يغادر الغرفة. كان الدكتور هندياً، ويبدو متمرساً في هذا الفحص كما هو الخياط متمرساً في الخياطة. طلب مني الكشف عن صدري ومن ثم بدأ في دهنه بمادة كريمية، ومن ثم وبأداة في يده بدأ في استكشاف هضاب قلبي الضعيفة. صور القلب تظهر في جهاز يعلو السرير، هو يختار مقطعاً من تلك الصور ويثبته في الكمبيوتر. ومن ثم يعود لالتقاط صور أخرى. كان كل مرة يطلب مني أن أكون في وضعية معينة، ثم يقول: ? تنفس فأتنفس، فيقول: ? امسك فأمسك، فيقول: ? تنسَّم ماذا؟ لم أسمع الكلمة الأخيرة جيداً، ماذا قال؟ سأنتظر حتى الدورة التالية التي تتأخر كثيراً، وانتظرته حتى قالها بوضوح. قال: ? تنسَّم ماذا تعني “تنسم”، أو ماذا يعني ذلك الدكتور الهندي بـ”تنسم”. أظن انه يعني أزفر أو أخرج النفس. وأظنها مفردة فصيحة إلا أنها مستخدمة في اللهجة، أو كانت، وتعني: إخراج النفس، ومنها على ما يبدو لي النسيم، “، و”النسم” المحل المفتوح وتقال حتى للعجلات، فعندما يخرج هواءها يقال: “تنسمت”. أفكر في هذا، بينما يضغط الدكتور على صدري، أحيانا ضغط يوجعني، ويقول: ? تنفس فأتنفي، فيقول: ? إمسك فأمسك، فيقول: ? تنسم لم يستخدم الدكتور هذه الكلمة؟ بإمكانه استخدام تنفس أو إخراج، فلماذا يستخدم هذه الكلمة؟ ومن أين عرفها؟ يبدو إنه قديم في البلد، ومن الأكيد أن صدوراً عديدة مرت تحت يديه، وأجسادا يقلبها ذات اليمين وذات اليسار وهو يلتقط لها تلك الصور الكثيرة. من سيشاهد يا ترى تلك الصور. إنها صور بالعشرات، وقراءة تلك الصور بعمق تحتاج إلى زمن طويل. أي عمق. هنا الناس مهنيون. وربما بتقليب وعين ثاقبة لا تحتاج إلى ثوان، يكتشف الطبيب المعضلة في عضلة قلبك. ولكني تعبت يا دكتور فلقد مر وقت طويل وأنت تطلب مني التقلب وتضغط على قفصي الصدري، وتقول: ? تنفس فأتنفس، وتقول: ? إمسك فأمسك، وتقول: ? تنسم إنها أكثر مرة تنفست فيها في حياتي، وكأنني نسيت التنفس حين أجلست نفسي على الكرسي وصار يدفعني الممرض أو الممرضة تلك الغرفة وبين الممرات. 7 لا، ليست المرة الأولى التي تحرث فيها البحر، فلطالما حملت الأمواج إلى مزارع الظنون، وملأت حفر الأوهام بالمياه الزرقاء الصافية. لطالما دفعت قواربك الورقية ما بين نباتات المستنقع السامة، ومشيت على ركبك في الأحواض الجافة، وذاقت أصابعك جروح الكؤوس المهشمة. لا، ليست المرة الأولى التي تتسلق فيها ذاك الجبل، فلطالما تساقطت نظراتك من ذلك العلو، وتدحرجت أفكار جسدك على الصخور المسننة، وأنزلتك أجنحة أحلام اليقظة على كثبان الرغبة، تُشعل النار التي تقود الضباع إلى زريبة مخاوفك، وتملأ أوان العطش بعرق لهفاتك. لا. ليست المرة الأولى التي تقطع فيها صحراء هذه الغرفة، وتخرج الآبار من أدراجها، والأفاعي من كهوف الصمت. الرمل الكثير الذي تكدس على الطاولة تقود له عاصفة اللغة، وتحملُ السراب في كأسك كما تحملُ النعمة في المعابد. الظل مجدك واقف بانتظار ابتسامة الشمس. والسماء على أهبة الاستعداد كي تركض خلفك، فليس هنالك من مشكلٍ، فتنفسك طبيعي، ولذلك لا تعرف بأنك تتنفس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©