الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عواطف وأحزان مكتشف الثقوب السوداء

عواطف وأحزان مكتشف الثقوب السوداء
12 ديسمبر 2014 00:11
إبراهيم الملا (دبي) كثيرة هي الأفلام التي استندت على السيرة الذاتية أو البيوجرافيا المتشعبة والمعمّقة لشخصيات معروفة، تركت لنا أثراً وبصمة وتحولات مشهودة في مجالات فنية وسياسية واجتماعية مختلفة، وكان لها حضور استثنائي في التاريخ البشري القديم والمعاصر، ولكن يبدو أن المخرج الإنجليزي جيمس مارش قد انحاز في فيلمه الجديد «نظرية كل شيء» لأكثر الشخصيات التباساً وتضاداً، والتي تنبع قوتها الداخلية من ضعفها الظاهري، ويصعب تجريدها من الحس المأساوي والألم المتراكم رغم المحطات المبهجة والعابرة والمؤقتة في حياتها الأشبه بقطار مندفع للمجهول، يقوده سائق مغيّب وثمل! ينطبق هذا الوصف وبدقة جارحة على عالم الفيزياء النظرية الشهير ستيفن هوكينج، أحد أكثر العباقرة المعاصرين ابتلاء بالإعاقة الجسدية، وأكثرها تمتعاً بقدرات ذهنية خارقة أيضا، قدم هوكينج نظريات وفتوحات علمية مذهلة تتعلق بالأكوان المتوازية والثقوب السوداء، أدهشت المهتمين بعلم الفلك، وكان عليه أيضا ومن خلال تشكيكه بالروايات اللاهوتية وطرحه لآراء مادية جريئة حول أصل الحياة وخلق الكون، أن يتلقى ردوداً معاكسة وساخطة من الفلاسفة ورجال الدين. فيلم «نظرية كل شيء» عرض مساء أمس الأول في افتتاح الدورة الحادية عشرة من مهرجان دبي السينمائي وهو مرشح بقوة لحصد جوائز مهمة في الدورة القادمة من حفل الأوسكار، اعتمد المخرج في تأسيس الخط الدرامي للفيلم وبكل خطوطه الظاهرة والخفية على المذكرات التي كتبتها زوجة هوكينج الأولى (جين وايلد) بعنوان: «السفر إلى اللانهاية.. حياتي مع ستيفن». مسار متسلسل يأخذنا الفيلم في مسار كرونولوجي ومتسلسل انطلاقاً من لحظة تعرف هوكينج (يقوم بدوره الممثل إيدي ريدمايني) على الطالبة المهتمة بأدب القرون الوسطي: جين وايلد (الممثلة فيليستي جونس) في عام 1963 بإحدى الحفلات النادرة التي تجمع الطلبة المتفوقين في جامعة كمبريدج البريطانية، ويبدو هوكينج في هذه المشاهد التأسيسية شخصاً منطوياً ونائياً بنفسه عن المغامرات العاطفية مقارنة بأصدقائه الآخرين، وقد تكون التماعة العبقرية المتوارية فيه هي التي جذبت وايلد للتودّد إليه، وإصرارها كذلك على الاقتران به رغم ظهور العوارض الأولى والمخيفة لمرض التصلب العصبي الجانبي الذي أصيب به هوكينج وهو في ذروة تفوقه العلمي، وإعلان الأطباء بأن مرضه المميت هذا، سيفقده القدرة على الحركات الإرادية وسيدمر خلاياه الدماغية ولن يكون قادراً بالتالي على العيش أكثر من عامين. هذا الخبر الصادم وهذا الهاجس السوداوي المفجع في حياة هوكينج سينقلب سريعاً إلى ما يشبه المعجزة بعد بقائه على قيد الحياة وإنجابه لثلاثة أطفال من زوجته التي ضحت بحياتها الأسرية العادية لتخترق مع زوجها كل الحواجز والإعاقات غير العادية في حياتهما المشتركة. ستزيد هذه الإعاقة المفاجئة من تعاطف أستاذ هوكينج (الممثل ديفيد ثويليس) معه، وتشجيعه على نشر بحوثه المتعلقة بنظرياته المبتكرة، ما يؤهله في النهاية إلى الحصول على الدكتوراه في علم الكون من جامعة كمبريدج واكتشافه للإشعاع الصادر من الثقوب السوداء، وهو ما عرف لاحقاً بــ(إشعاع هوكينج)، كما حظي بلقب وكرسي الأستاذية التي نالها من قبل السير «sir» اسحق نيوتن فاعتبره الكثيرون مثالا ورمزاً للإرادة وتحدي الإعاقة. أحزان وانفعالات لا يخلو فيلم «نظرية كل شيء» رغم تطرقه لهذه الجوانب الأكاديمية والتخصصية اللصيقة بحياة هوكينج، من مسارات كثيرة ومتشعبة تتعلق بحياته الأسرية وأحزانه المكبوتة وانفعالاته الإنسانية المتماوجة بين الكآبة والمرح، وبين انتكاساته الجسدية وروحه الساخرة وتعليقاته التهكمية، تذوب الصرامة العلمية والبحثية هنا في مشاع العلاقات الاجتماعية في منزل والدية وبصحبة أصدقائه القدامى وبين أطفاله والمعجبين بمؤلفاتها المقدمة لهم بشكل مبسط ومختصر مقارنة بمؤلفاته الأصلية الضخمة والمعقدة رياضياً. وكانت النقطة المحورية التي توسع الفيلم في رصد أبعادها وانعكاساتها على حياة هوكينج هي معاناة زوجته وصراعها العاطفي ضد رغباتها الشخصية المكبوتة، والمحاصرة بالقلق والضغوطات النفسية خصوصاً بعد تعرفها على عازف بيانو شاب في إحدى الكنائس فقد زوجته قبل سنة، وأراد أن يتفرغ لخدمة عائلة هوكينج، والتخفيف من أعباء الزوجة التي رأت نفسها فجأة وسط فراغ ذاتي وارتباط ملزم حرمها من إكمال دراستها والالتحاق بمجال مهني يعزز شغفها بالفنون الأوروبية القديمة. ومع انحدار الحالة الصحية لهوكينج بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد وفقدانه لصوته تماماً تعتني به إحدى المتخصصات في معالجة مشاكل النطق، وتتطور علاقتهما إلى أعجاب متبادل، وتنتهي برغبة هوكينج في الانفصال عن زوجته الأولى والارتباط بالوافدة الجديدة على حياته بعد طول ممانعة وفتور وتشوش في علاقته مع أسرته الأصلية. أفق سردي يمكن نعت فيلم «نظرية كل شيء» بأنه من الأفلام التي تتحرك في أفق سردي تتابعي، يميل أسلوبه الإخراجي إلى التوصيف ونقل الحدث الدرامي بشكل محايد، ومن دون ترك مساحة تأويلية كافية، ومن دون اشتغال على منطقة اللاوعي، أو السبر التحليلي لدوافع وردات فعل الشخصية الرئيسية، حيث إأن عذابات هوكينج ومعاناته العميقة، بجانب ذهنه المتوقد والممزق أيضاً بين خذلان الجسد وعافية الفكرة وحماسها، كانت بحاجة لاشتغال بصري وتخيلي مكثف ينقل للمشاهد النزاعات والصراعات الغائرة في هذا الكيان المعطل ظاهرياً والمتوثب والفائض داخلياً، ومثل هذه المعالجة البصرية المخترقة للحالة الظاهرية وجدناها موظفة بشكل ناجح في فيلم شاهدناه قبل عدة سنوات وهو فيلم: «السيدة الحديدية» للمخرجة البريطانية فليدا لويد والذي أدت فيه الممثلة العتيدة ميريل ستريب دور الليدي تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة وبتماه كبير وتقمص كامل واشتغال مرهق كي تنقل بمصداقية أدائية وحضور مدهش لحظات الانكسار والخيبة ومراحل الصعود والشهرة والثمن الكبير الذي دفعته تاتشر من أجل الحفاظ على حضورها القوي في المشهد السياسي البريطاني. اللافت في فيلم «نظرية كل شيء» هو أداء الممثل ريدمايني المدهش وقدرته على محاكاة ونقل الجانب الفيزيائي والتعبيري معاً في شخصية هوكينج، حيث إن هذا الثقل الأدائي المنهك للشخصيات المقعدة والمعاقة، لا يمكن ترجمته بسهولة كما هو الحال مع الأشخاص الأسوياء، بينما استطاعت الممثلة فيليستي جونس أن تترجم قوة الشخصية الأنثوية وانكسارها أيضاً، وفي الحدود القصوى التي لا يمكن التمييز فيها بين العاطفة والواجب، وبين نكران الذات، وهشاشة المقاومة أمام سحر الرغبة ونداءاتها الغامضة. عموماً فإن فيلم الافتتاح قدم مؤشراً واضحاً على أن المهرجان انحاز كما في دوراته السابقة للأفلام ذات النسق الفني العالي والمحتوى الرصين وبالتحديد في برنامج عروض السينما العالمية والتي يبدو أن معظم الأفلام المخصصة له ستكون على موعد مع استحقاقات وحظوظ وافرة لأكاديمية الأوسكار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©