الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفكر الاتصالي من التأسيس إلى الألفية الثالثة

الفكر الاتصالي من التأسيس إلى الألفية الثالثة
2 فبراير 2012
بترجمة دقيقة من المترجم المغربي أحمد القصوار، صدرت مؤخراً، ضمن سلسلة “معالم” التي تصدرها دار توبقال للنشر في الدار البيضاء، الترجمة العربية لكتاب المفكر الفرنسي بيرنار مييج، الموسوم بـ “الفكر الاتصالي”. وهو كتاب قيم، يجمع بعض المميزات التي شجعت على الاهتمام به وترجمته إلى اللغة العربية، حيث إن الوضع الاعتباري للبحث في مجالات الإعلام والاتصال يعرف نقاشاً واسعاً حول الاعتراف به كمبحث علمي مستقل له مشروعية الوجود بين التقسيمات الجامعية المرعية. غير أن ذلك، حسب المترجم، لم يمنعه من استعارة نظريات ونماذج ومفاهيم من مباحث علمية مختلفة، كما أن هناك إجماعاً على اعتباره مجالاً تتقاطع فيه اهتمامات مختلف العلوم؛ لا سيما العلوم الإنسانية التي تقارب موضوعاته في سياق إشكالياتها الخاصة ومن زاوية نظرها المتخصصة: علم النفس، علم الاجتماع، لسانيات.. ومن خلال استقراء بعض الدراسات التي اشتغلت على تقديم مداخل لهذا المجال أو التأريخ له، يقسمه المترجم إلى وجود تيارين اثنين: الأول: يعتبر الاتصال مبحثاً علمياً متداخل التخصصات، حتى وإن كان يندرج ضمن دائرة العلوم الإنسانية والاجتماعية. الثاني، يدفع بفكرة استقلالية هذا المجال في إطار ما يسمى بعلوم الإعلام والاتصال، ويدعو إلى العمل على تشييد الخصوصية الإبستيمولوجية والمفهومية والمنهجية؛ شأنه في ذلك شأن بقية المباحث العلمية الأخرى. ويرى القصوار أن الدافع لترجمة هذا الكتاب القيم للباحث الفرنسي بيرنار مييج الذي صدر تحت عنوان الفكر الاتصالي، هو خلو المكتبات المغربية والعربية من مراجع دقيقة تقارب وتعالج الفكر الاتصالي. فمنذ البداية، يطرح بيرنار مييج سؤاله حول مشروعية البحث التاريخي في الفكر الاتصالي بقوله: “هل من الضروري أن يكتسب حقل علمي معين اعترافاً أكاديمياً طويل الأمد أو دعماً واسعاً من طرف الهيئة السياسية – العلمية حتى نبحث في تطوراته وندقق في تكونه بناءً على أساس متين؟”. يجيب ضمنياً عن هذا السؤال بالنفي ويعلن تصديه للأهم في رأيه، وهو البحث عن العناصر المكونة للفكر الاتصالي عبر مختلف المراحل التي قطعها. مكونات متعددة ينطلق بيرنار مييج في كتابه من الإقرار بتعدد مكونات الفكر الاتصالي الذي يزاوج بين العالمي والأيديولوجي والمهني – العلمي. وهذا ما يعبر عنه صراحة في قوله: “هناك يتم اختيار التصور المدافع عنه طيلة هذا الكتاب، ومفاده أن نظريات الاتصال، وبالتالي الفكر الاتصالي ذاته، تشكل في آن تشييدات فكرية وأساطير أو خطابات متعلقة بالأيدولوجيا وإجابات عن أسئلة “عملية” يطرحها الناس على أنفسهم في ظروف اجتماعية معينة. إن إعطاء الأولوية لأحد هذه المكونات (أو على الأقل القول إنها سابقة على المكونات الأخرى) هو موقف من الصعوبة بمكان الدفاع عنه. وقد يفضي إلى الفصل بين تاريخ الأفكار وتاريخ الممارسات، في حين أنهما مرتبطان بشكل غير قابل للفصل”. والملاحظ “أن موقف مييج من الاتصال قد عرف تحولا مهما بين طبعتي الكتاب الأولى والثانية. وذلك أنه اعتبر مفهوم الحقل كما حدد معناه بيير بورديو هو ما يعرف الاتصال ويحدده نظراً لأنه “قادر على توضيح الطابع المزدوج (بله المتناقض) للفكر الاتصالي ذاته. لكن بعد عشر سنوات، يضيف مييج إلى الفقرة السالفة ما يلي: “وعند التوري، يبدو لي أنه يجب رفض هذا الموقف بسبب العلاقات المتعددة التي يقيمها الاتصال مع الـ “اجتماعي” ولطابعه العرضاني. ومن جزاء ذلك، فإن الفكر الاتصالي يمتلك / يعيد إنتاج سمات مميزة خاصة لا تنحصر في حقل معين”. غير أنه لم يفصل القول في هذا التحول. وإذا كانت فئة كبيرة من الباحثين الفرنسيين قد أعلنت استقلالية البحث في الإعلام والاتصال داخل إطار ما يسمى بعلوم الإعلام والاتصال، فإن مييج يبدي حذراً علمياً - سوسيولوجيا من هذا الإعلان. ذلك أنه يذهب إلى أن الشروط التي يطلب فيها “من علوم الإعلام والاتصال أن تتأسس مجتمعة أو بشكل منفصل تبقى تابعة بشكل قوي للسياقات الوطنية، وان كانت الصراعات العلمية التي جرت في جميع الحالات؛ من أجل أن يفرض “حقل” جديد نفسه، وأن يتم القبول بشرعيته، (كانت) تعبيرا عن الصراعات من أجل السلطة داخل المؤسسات الجامعية”. كما يؤكد الباحث وجود تحول ملحوظ في “الشروط التي يطلب فيها من علوم الإعلام والاتصال أن تحقق استقلالها الذاتي عن الدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية و( بشكل نادر) عن العلوم الفيزيائية”. ويعزو مييج ذلك إلى أن الرهانات النظرية والعلمية قد تغيرت مواقعها، كما أن شرعيتها إن لم يتم اكتسابها بعد فهي في الطريق للحصول عليها. لكنه يحذر قائلاً إنه “بالقدر الذي ستتقدم فيه علوم الإعلام والاتصال في تطبيق منهجيات علمية (يمكن خلف تنوع الإشكاليات التي تؤسسها) بقدر ما ستتم مساءلتها ومناقشتها بل والاعتراض عليها”. وهذا ما يدل في رأي الباحث على أنها وصلت لمستوى معين من النضج، ويؤشر على أن موضوعات البحث التي نذرت نفسها لدراسات بدأ يتم أخذها بعين الاعتبار. أما مؤلف الكتاب، فيكتب في مقدمة الطبعة العربية لكتابه يصف الاتصال بأنه “اخترق معظم مجالات الحياة الاجتماعية والمهنية مستفيداً دائماً من قوة جذب هائلة بفضل الأفعال التي تتم باسمه والتقنيات العديدة التي يقترحها والدلالة الرمزية التي ينشرها، بقدر ما يزال يظهر حتى الآن – لا سيما في بعض الأوساط المهنية – أنه من المفارقة وغير المجدي إنتاج معارف تتشبث بتفسير نظام اشتغاله. ولسبب وجيه وقوي جداً، ما زالت هناك مقاومة لاعتبار الاتصال كموضوع للبحث العلمي. صحيح أنه سيكون من المفاجئ من النظرة الأولى ادعاء عرض المراحل التي بدأت تتشكل فيها علوم الإعلام والاتصال بوصفها حقلاً مستقلاً متعدد التخصصات. في الواقع، يتعلق الأمر بتأمل فكري يبرز مسلكه بسهولة، خصوصاً إن كانت الأسس الإبستيمولوجية لمبحث علمي أو لحقل معين محددة ومعترف بها. والحالة أن علوم الإعلام والاتصال تقدم عن نفسها صورة إن لم تكن متعددة المكونات، فهي على الأقل مركبة ومتنوعة. ذلك أن المنظومات الطامحة إلى تمثيل ورسم جميع أبعادها تغطيها بانتظام. كما أن التعارضات النظرية المصرح بها بشكل واضح تخفي الإسهامات الحقيقية والمقترحات الخصبة. مع ذلك، هل من الضروري أن يكتسب حقل علمي معين اعترافا أكاديميا طويل الأمد أو دعماً واسعاً من طرف الهيئات السياسية – العلمية حتى نبحث في تطوراته وندقق في تكونه بناء على أساس متين؟ قليلون أولئك الذين سيتجرؤون على الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. في الواقع، هناك مباحث – يبدو أنها مبنية بشكل قوي – يجد ممثلوها أنفسهم أمام اختلافات عميقة، ليس فقط حول كيفية النظر في تاريخ قرن (وأبعد من ذلك)، بل حول الموضوع الذي من المفروض عليهم أن يعرضوا له. وهذه هي حالة “الاقتصاد السياسي” (كمثال من بين أمثلة أخرى) الذي صار يسمى بالـ “علم الاقتصادي”، ومؤخراً، أصبح يطلق عليه “العلوم الاقتصادية”، بشكل حذر. كذلك هي حالة الجغرافيا، حيث التردد الدائم بين من ينوون تحديد المبحث حول توجهات منهجية قوية، وأولئك الذين يرون فيها علما للفضاءات، أو على الأقل علماً لتسجيل الأنشطة البشرية في الفضاءات المادية والاجتماعية. فضلاً عن ذلك، تشتغل بعض المباحث التي ظهرت منذ مدة قصيرة جداً – حيث يحتفل مسؤولوها السياسيون – العلميون بالإيجابيات المفترضة فيها بشكل مبالغ فيه، بل وينظرون إلى المستقبل بيقين كبير – من دون أن ينجح أصحابها الأكثر شرعية في الاتفاق على أسس مفهومية مشتركة. ولعل العلوم المعرفية واحدة من هذه المباحث. ولا شك في أن السبب في ذلك لا يرجع فقط إلى كونها مباحث حديثة النشأة. وفي ما يخص المعلومات، تلح الحصيلات التي وضعها ممثلوها الأكثر بروزا على الدفعة التكنولوجية والخدمات المقدمة للمستعملين والمآثر المنهجية والمجالات المغطاة (التي تتعدد أكثر فأكثر). باختصار، احتل البعد العلمي مكان الموضوع ذاته، هذا إذا لم يحل محله. من ثمة، يضيف المؤلف متسائلاً: “هل سيتم من الآن فصاعداً اختزال ظهور حقول معرفية جديدة في مجرد تطبيق المنهجيات دقيقة تستجيب لطلبات اجتماعية صادرة بالتحديد عن الهيئات الاقتصادية والسلطات العمومية؟ وهل سيكون هذا الظهور مؤمناً بشكل أفضل حينما سيفرض الدفاع عن المواقع الاجتماعية نفسه بقوة تحت غطاء مواقف عملية؟ ويدافع بعض الإبستيمولوجيين عن وجهة النظر هاته معززين بحجج قوية. وبشكل مفارق، تفلت علوم الإعلام والاتصال جزئياً من هذا الاتجاه، ليس لكونها محمية من خطر تحويلها إلى مجرد أدوات تستعملها بعض الجهات. تداخلات انطلاقاً من ذلك، فإن السؤال الخاص بمعرفة ما إذا كانت علوم الإعلام والاتصال تشكل مبحثاً “واحداً” أم ينبغي اعتبارها مبحثاً متداخل التخصصات، وبشكل أكثر دقة حقلاً، ينبغي تأجيله إلى نهاية حديثنا عن التيارات المساهمة في تكوين الفكر الاتصالي. من ثمة، تطبَّع الفكر الاتصالي بطبع التفكير التأملي والإنتاج العلمي في آن. إنه غالباً ما يتجاوز التمييزات الموجودة بين المباحث أو يصدر عن متخصصين يوجدون في هامش مباحثهم الأصلية. هكذا، يمفصل الفكر الاتصالي تأملات هؤلاء المتخصصين الجدد وتلك الصادرة عن بعض المهنيين (مهندسو الشبكات، إشهاريون، صحافيون، مكلفون بالاتصال، متخصصون في الاستراتيجيات، مصممو خدمات الاتصال عن بعد...). إنه فكر مصغ ومتنبه للتغييرات المتداخلة في سياسات الدول والاستراتيجيات المهنية والتقنيات المستغلة وممارسات الفاعلين الاجتماعيين. إنه يتطور بشكل عميق في الزمان، وبشكل متغاير حسب الدول (إنه مرتبط أكثر بالانشغالات المطبقة مباشرة في الولايات المتحدة، وهو على العموم فكر نقدي أكثر في أوروبا الغربية على الأقل منذ نشأته). ويقول المؤلف: “منذ بداية الثمانينيات، انتشر الفكر الاتصالي على نطاق واسع متجاوزاً حدود المتخصصين لدرجة أنه تحول جزئياً إلى أيديولوجيا، كما أن الوضع الاعتباري للفكر الاتصالي لا يزال غير واضح بشكل عميق، فهو في الآن نفسه منظم لممارسات عملية أو فكرية أو مهنية، وهو استجابة للطلبات الصادرة عن الدول والمنظمات الكبرى ومدرك للتغيرات الحاصلة داخل هذه المنظمات نفسها. وفي الأخير، فإنه يوجد في أصل التغييرات أو يصاحبها على مستوى الممارسات الثقافية أو صيغ نشر أو اكتساب المعارف. إن عدم القدرة على الحسم التي يعتبرها عدد من المهنيين أو الإشهاريين أو المستشارين بمثابة عامل إيجابي، تمتد أحيانا لتجاوز حدود الآفاق التي حددنا معالمها هنا بسرعة. وبوصفه أي الفكر الاتصالي فكراً للحداثة وضع من أجل تسهيل عملية تحديث البنيات الاجتماعية، فإنه غالباً ما يتم اعتباره كحقيقة في حد ذاتها (حتى أن مجرد ذكر الاتصال يكفي أحياناً ليجعل منه نوعا من النبوءة المتحققة ذاتها)، لكن، يتم أحيانا وبشكل متواز انتقاده باسم الدفاع عن الفن أو بسبب نزوعه إلى إنتاج التوافق، أو كذلك بسبب الإقصاءات التي يخفيها. الكتاب: الفكر الاتصالي: من التأسيس إلى منعطف الألفية الثالثة المؤلف: بيرنار مييج المترجم: أحمد القصوار الناشر: دار توبقال، المغرب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©