الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تقاطع وافتراق بين مخرجين أسترالي وصيني

تقاطع وافتراق بين مخرجين أسترالي وصيني
12 ديسمبر 2014 23:49
إبراهيم الملا (دبي) ضمن عروض السينما العالمية المشتملة على تيارات واتجاهات فنية مستقلة ومشبعة بمضامينها الإنسانية المناوئة للحروب والتشوهات الاجتماعية، شاهد جمهور مهرجان دبي السينمائي مساء أمس الأول فيلمين من أستراليا والصين، حمل الأول عنوان «عرّاف المياه» للممثل الشهير راسل كرو في مهمته الإخراجية الأولى. الفيلم الثاني جاء بتوقيع المخرج الصيني بيتر هو ــ سن شان، وحمل عنوان «الأعزّ». تقاطع الفيلمان على مستوى الفكرة التأسيسية التي انبعثت منها كل المشاهد المتلاحقة واللاهثة في الفيلمين، والتي لم تخل أيضا من وقفات واستعادات مشتركة لامست الوجع الدفين لشخصيات واقعية محيطة ولكنها تتحايل على هذا الوجع وتدفعه في مسارب الخوف والكتمان، تقاطع الفكرة في شريط راسل كرو وبيتر هو شان، ارتكز على ثيمة: «البحث عن الأبناء المفقودين» والارتدادات العاطفية المدمرة لهذا الفقدان على الآباء والأمهات. خصوصية المكان أما الافتراق على مستوى الأسلوب الإخراجي والتنويع السردي والأداء التمثيلي والكثافة الحسية للصورة، فكان افتراقا ملحوظا في بنية الحكاية ذاتها، وفي خصوصية الثقافة والمكان، والأهم من ذلك فإن الاختلاف الأبرز تجسد في توظيف الزمن. اختار راسل كرو في فيلمه الأول «عراّف المياه» اللجوء لحقبة تاريخية حساسة في ذاكرة الأستراليين وخصوصا أولئك الذين قدموا أبناءهم كقرابين في حرب بعيدة لم تكن تعنيهم في الأساس، إلا من منظور ملتبس وقائم على شروط التبعية لبريطانيا العظمى في معركتها الشرسة ضد ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى. يبدأ الفيلم بمشهد غامض نرى فيه الكاوبوي الريفي (كونر) ـ راسل كرو ـ وهو يبحث عن المياه في شمال غرب فيكتوريا بأستراليا وهي مقاطعة شبه صحراوية يندر فيها سقوط الأمطار، حيث يلجأ كونر لحدسه ولطقوس خاصة يمارسها من أجل اكتشاف المياه السحيقة تحت الأرض، وتحويلها إلى آبار يصلح العيش والاستيطان قربها. يعود كونر إلى منزله حيث زوجته المثقلة بحزن عميق، والتي تلّح عليه بضرورة قراءة القصص على أبنائه الثلاثة. تنتقل الكاميرا بزاوية خادعة من وجه كونر الذي يقرأ قصة بساط الريح، بينما نفاجأ في الجهة المقابلة من المشهد أن الأسرّة الثلاثة للأبناء فارغة، ونكتشف أنهم باتوا مفقودين في تلك الحرب البعيدة في تركيا، وبعد انتحار زوجته إثر هذا الفقدان القاسي والجاثم على ذاكرتها، يقرر كونر السفر والإبحار إلى أرض العثمانيين. يصل كونر في فترة الهدنة بين الطرفين بعد أربع سنوات من الحرب، ويتعرف في مدينة اسطنبول على عائلة تملك فندقا تديره أرملة تركية (عائشة) ـ الممثلة أولجا كولينكو ـ والتي فقدت هي الأخرى زوجها في ذات الحرب، ولكنها مثل كونر ترفض تصديق خبر موته حفاظا على الأمل المتبقي لدى طفلها الوحيد، ووسط إيقاع ملحمي، ينجح كرو بحدسه الشخصي في العثور على موقع يضم جثامين أبنائه، ما عدا الابن الثالث الذي يبدو أنه أصيب ونقل إلى منطقة أخرى. وتبدأ المغامرة الثانية والمرهقة في الفيلم من أجل العثور على هذا الابن، وسط مؤثرات سمعية وبصرية تأخذنا إلى الرقصات الصوفية وصوت المآذن في اسطنبول. يتتبع كونر حلمه التنبؤي ويعثر على ابنه في قرية تركية نائية ويهرب معه وسط مطاردة الجنود اليونانيين في صراعهم الإثني والدموي مع الأتراك. يعود كونر وابنه إلى اسطنبول ويختتم الفيلم بمشهد مكثف ولماّح يجمع بين عائشة وكونر، تؤكد المقولة العامة للفيلم وهي أن الجراحات الغائرة يمكن أن تلتئم بالغفران، وأن أعداء الأمس يمكن أن يتحولوا إلى أصدقاء جدد إذا تخلوا عن خطاب الكراهية والثأر والحقد التاريخي المتراكم. المتاهة الوجودية أما الفيلم الصيني «الأعزّ» Dearest فيعالج مشكلة الأطفال المخطوفين أو المفقودين من خلال توليف إخراجي متميز ومفعم بالمشاعر الإنسانية المتوارية التي تجري مثل نهر صاخب وعنيف تحت قشرة رقيقة من الصمت والصبر والهدوء الحذر، ينطلق الفيلم بإيقاع متوتر منذ البداية عندما يتم اختطاف الطفل (نيان بينغ) في مدينة (شنزن) بجنوب الصين، ويتبادل الوالدان المنفصلان تهمة الإهمال والتسبب في اختفاء طفلهما الوحيد. ورغم تدخل الشرطة المحلية في البحث عن ابنهما المخطوف، إلا أن الإجراءات البيروقراطية للأجهزة الأمنية تحوّل القضية إلى ما يشبه اللغز. وفي اتجاه مضاد لهذه القضية التي بدت محورية في البداية، نرى المخرج وهو يدير كاميرته نحو الأب والأم في رحلة بصرية وتحليلية مرهفة تغوص وتنسلّ وتتشابك مع المتاهة الوجودية والحيرة الضارية والهواجس السوداوية عند هؤلاء الآباء والأمهات الذين نراهم في هذا الشريط الاستثنائي للمخرج بيتر شان وكأنهم هم الضحايا الأصليون لمجتمع مختطف بالكامل. وعندما يلجأ والدا الطفل المخطوف إلى جمعية (دعم الأطفال المفقودين) تتفتح أمام المشاهد جراحات وقصص كثيرة لشخوص عاشوا تجربة هذا الفقدان وحاولوا تجاوزها بحيل نفسية وعاطفية واجتماعية بديلة، ورغم ذلك فإن أثر هذا الجرح يظل حاضرا دائما في مساحة الأمل الضئيلة والمقاومة الهشة للانجراف النهائي نحو اليأس المطلق أو الجنون أو الانتحار. وحتى بعد عثور الأبوين على ابنهم المختطف في إحدى المناطق الريفية النائية، فإن المسار السردي للفيلم يأخذنا إلى متاهة جديدة بطلها هذه المرة الأم البديلة التي اعتنت بالطفل (بينغ) وبطفلة أخرى مجهولة الأبوين، تتحول هذه الأم البديلة إلى ضحية ثالثة وبحمولات نفسية معذبة وضاغطة حيث لم يتبق لها في حياتها بعد رحيل زوجها المدان بجريمة الخطف، سوى هذين الطفلين، فتكافح من أجل استرداد الطفلة على الأقل، رغم كل العوائق القانونية والنظم البيروقراطية والتفسيرات الاجتماعية المغلوطة. في المشهد الأخير من الفيلم يجمع المخرج وفي لقطة واحدة مزدحمة بلغتها التعبيرية المدهشة، كل المصائر المعذبة لشخوص الفيلم، وكأنه يضعها بكل ثقلها وتأثيرها النقدي الصارخ أمام الرأي العام في بلده المبتلى ولعقود طويلة بقوانين توتاليتارية عمياء، تدعمها نظرة شمولية ترى الإنسان مجرد رقم إحصائي لا أكثر، رغم أنه ينطوي على أحاسيس ورغبات لا يمكن أبدا اختصارها وحصرها في تصنيف اجتماعي قاهر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©