الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألغام السلام

ألغام السلام
22 نوفمبر 2012
في كتابه “البندقية وغصن الزيتون/ جذور العنف في الشرق الأوسط” يستعيد ديفيد هيرست، الكاتب الأميركي الخبير بقضايا المنطقة، تلك المداخلات التي سبقت ورافقت ولحقت الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 1982. ويشير هنا، إلى الأجواء التي أحاطت بالانسحاب الإسرائيلي من سيناء، بناء على اتفاقية السلام مع مصر، وتشدد رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت ميناحيم بيغن، بعدم تقديم تنازلات جغرافية أخرى، ولجوء الكنيست بناء على إلحاحه، إلى إصدار قانون يمنع إخلاء أي مستوطنة في الضفة الغربية أو غزة، ما جعل الأمر يبدو ضماً كاملاً باستثناء الاسم. ويقول المؤلف: إن تعزيز المكاسب القائمة لم يكن كافياً. فالصهيونية حركة حيوية وكان بيغن من ممارسيها الفاعلين بشكل خاص. ولم تكن الدولة اليهودية لتهدأ بالاً قبل أن تنال القبول من المنطقة التي كانت قد زرعت نفسها فيها، وإن لم يكن الحصول على هذا القبول طوعاً، فالواجب كان يقتضي انتزاعه كرهاً. وقد مثّل اجتياح إسرائيل للبنان ـ أي الحرب الشاملة الخامسة خلال ثلاثين سنة من عمر إسرائيل ـ ذروة جديدة من القوة العسكرية والحاجة التي لا تقاوَم وشبه البيولوجية لدى القادة الإسرائيليين لاستخدامها تحت قناع الدفاع عن النفس ولتحقيق فتح جديد إضافي إلى الهدف الصهيوني المتنامي. استعداد ويكشف هيرست إن خطط الاجتياح كانت على النار منذ وقت طويل، بوصفه عملاً سياسياً متعمداً، تفرّع عن اتفاقية السلام الإسرائيلية ـ المصرية. ففي أيار 1979، أي بعد فترة وجيزة من التوقيع على الاتفاقية، أطلق بيغن أول سلسلة من “عروض السلام” المسرحية على لبنان. وقد جاءت العروض بشكل غير مفاجئ بعد غارة انتقامية دموية. فالمقاتلات الإسرائيلية كانت قد قصفت ما اعتقدته أهدافاً عسكرية فلسطينية وسورية، لكنها بدلاً من ذلك قتلت مدنيين لبنانيين، كانت بينهم العروس وأربعة من المدعوين في أحد الأعراس. وقد تعهّد بيغن بأن إسرائيل ستمضي في قصف أولئك “المجرمين الفلسطينيين” براً وبحراً وجواً حتى “تدمرهم كلياً”. وبعد التهديد صدر العرض: “أدعو الرئيس سركيس إلى الاجتماع بي هنا في القدس”. بل إنه كان هو نفسه “مستعداً للذهاب في طائرة إلى بيروت أو أي مكان محايد للقاء الرئيس سركيس... وسيكون الموضوع الوحيد الذي سنناقشه توقيع اتفاقية سلام بين إسرائيل ولبنان”. وبالنسبة إلى السوريين قال إن “جيشهم المحتل يجب أن يغادر فوراً”. فهو كان “يدمر القرى اللبنانية ويطلق النار على المسيحيين الأبرياء”. أما بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين، فيجب توطينهم في السعودية وسورية والعراق وليبيا، “تلك الدول الشاسعة جداً والغنية بالموارد والنفط والمؤلفة من ملايين الكيلومترات المربعة”. وبما أن لبنان وإسرائيل لم تكن لكل منهما مطالب جغرافية إزاء بعضهما البعض، يمكن التوصل لاتفاقية سلام بينهما “خلال ما يقارب اليومين من المحادثات”. وتوقع أن يسارع الأردن “بعد ذلك إلى توقيع اتفاقية معنا”. وقد رحب بالعرض السلمي الزعماء المسيحيون اليمينيون في لبنان، بل بالأحرى “المتطرفون” بقيادة بشير الجميل، قائد ميليشيا الكتائب. أما الرئيس سركيس فرفضه بازدراء، فيما قال رئيس الوزراء سليم الحص إن إسرائيل، عبر “الابتزاز والإرهاب والقوة الوحشية”، تخطط لسلخ لبنان عن محيطه العربي. وقالت صحيفة “السفير” البيروتية إن هدف العرض “تفجير لبنان من الداخل”. تنفيذ ويقول المؤلف: لطالما استحوذت على الحالمين الإمبرياليين في إسرائيل فكرة أن لبنان عرضة بشكل خاص للتدخل الأجنبي بسبب ضعفه العسكري وتوتراته الطائفية وتقاليده القائمة على عدم تدخل الدولة في الشؤون العامة. ففي العام 1954 المبكر نسبياً ألح بن غوريون على أن أحد “الواجبات المركزية” للسياسة الخارجية الإسرائيلية كان يقتضي دفع المسيحيين الموارنة إلى “المطالبة بدولة مسيحية”. وقد نال في ذلك تأييداً متحمساً من تلميذه موشيه دايان، رئيس الأركان في ذلك الوقت، الذي قال “إن الأمر الوحيد اللازم يتمثّل في العثور على ضابط، وإن لم يكن يحمل رتبة أعلى من رتبة الرائد. وعلينا إما أن نكسب قلبه أو نشتريه بالمال لنجعله يقبل بإعلان نفسه منقذاً للموارنة. ثم يدخل الجيش الإسرائيلي لبنان ويحتل ما يلزم من الأراضي ويقيم نظاماً مسيحياً يتحالف مع إسرائيل”. وفي نهاية المطاف، تم التخلي عن هذه “المغامرة المجنونة” ضد جار مسالم تماماً، بحسب تعبير موشيه شاريت، أول وزير للخارجية في إسرائيل، لمصلحة مخطط مجنون آخر ـ غزو مصر في العام 1956 ـ لكن حينما أحيا بيغن بعد ربع قرن مخطط دايان للخمسينيات، كان لبنان، الممزق بسبب الحرب الأهلية والاحتلال الخارجي، قد أصبح أنضج ما يكون لوضع المخطط موضع التنفيذ. ومع حلول العام 1979، كان سلوك الفلسطينيين والإسرائيليين قد تأثّر بعمق باختلال توازن القوى في الشرق الأوسط الذي نجم بشكل رئيسي عن خروج مصر على الصفوف العربية. ويشرح ديفيد هيرست أنه خلال معظم العقد، كان الفلسطينيون في موقع الهجوم، بينما لم يعمد الإسرائيليون إلا إلى الرد. صحيح أن غارات المقاتلين عبر الحدود، باستثناء العمليات “الانتحارية” الباهرة العرضية، كانت ضيقة النطاق وعشوائية، وأن الرد الإسرائيلي كان ضخماً، وأن الألوف ـ من المدنيين قبل العسكريين ومن اللبنانيين قبل الفلسطينيين ـ قُتِلوا، وأم ألوفاً لا تُحصى من الناس غادروا بلداتهم وقراهم المدمرة. لكن ياسر عرفات و”فتح”، المنظمة الرئيسية بمقاتلين، قد تخليا عن العمليات عبر الحدود؛ فقد ذكر عرفات أن عمليتين فقط من هذا النوع جرتا في العامين السابقين. وصحيح أن عمليات من أنواع أخرى حصلت ـ انطلاقاً من دول عربية أخرى أو من داخل إسرائيل أو من الأراضي المحتلة ـ وأن هذه العمليات استمرت، لكن عرفات تعمد أن يتجنّب العمليات التي تنطلق بوضوح من “فتح لاند”، القاعدة السياسية ـ العسكرية المستقلة الأخيرة لـ “م. ت. ف.”. فقد عرف مقدار هشاشة وضعه. أما بيغن، الواعي لمقدار قوة إسرائيل، فوضع نفسه من ناحيته في موقع الهجوم المستمر. وحذر من أن إسرائيل لم تعد مستعدة لانتظار الفلسطينيين “أن يأتوا ويقتلوا نساءنا وأولادنا”. فهي كانت ستضربهم “في أي زمان ومكان”. وبالنسبة إلى رئيس أركانه، الجنرال رفائيل إيتان، “كانت الحرب على الإرهابيين” حرباً “لا تعرف حدوداً وقواعد وقوانين”. نتيجة ورافق الاحتلال وعززه تحالف كانت إسرائيل قد أقامته داخل لبنان نفسه. فقد صعّدت حكومة “ليكود” الدعم الإسرائيلي للكتائبيين، التعبير الأبرز عن الروح القتالية المسيحية المارونية، وهو دعم كانت حكومة العمل السابقة قد قدّمته للمرة الأولى في السنوات المبكرة للحرب الأهلية. لكن التدخل بشكله الأوقح اتخذ الشكل نفسه الذي كان دايان قد اقترحه. ففي آذار 1978 وبعد أكثر العمليات “الانتحارية” التي نفذها المقاتلون، اجتاحت إسرائيل لبنان حتى نهر الليطاني. ونفّذت بعد ذلك انسحاباً جزئياً وقصرت منطقة عمل “قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”) المشكّلة حديثاً للفصل بين المتحاربين على جزء يسير من المنطقة المحتلة، فيما وضعت الجزء الأساسي من المنطقة، التي بلغ عرضها ما بين خمسة وعشرة كيلومترات وطولها ستين كيلومتراً، تحت سيطرة سعد حداد، الرائد المنتمي لطائفة الروم الكاثوليك، وميليشياه المتداعية. وتمتع الإسرائيليون كذلك بمشاركة سرية من قبل بعض السكان المسلمين. فهؤلاء كانوا يحمّلون عرفات ورجاله جزءاً من المسؤولية عما حاق لبنان. ففي لبنان، كما في الأردن قبل عقد، جعل المقاتلون محيطهم العربي يشعر بالغربة عنهم لأسباب تتجاوز مجرد وجودهم والنيران الإسرائيلية التي حفزها هذا الوجود؛ لقد مارسوا مخالفات كانت القيادة تعزوها غالباً إلى عناصر “غير منضبطة” لكن الناس كانوا يتهمون القيادة بعدم محاولة منعها في أغلب الأحيان، وقد شملت هذه المخالفات السرقة، والزعامات الصغيرة، وخوات الحماية، و”الضرائب” على المنتجات المحلية؛ أي الاستغلال الثقيل الوطأة للسيطرة السياسية المحلية، واللامبالاة الصلفة بالمعاناة التي كان يشعر بها الجنوبيون، باسم فلسطين. ختاماً يقول المؤلف لقد كانت حرب لبنان السبب في خروج بيغن المزري من التاريخ، فلم يعد يملك شيئاً يقوله للشعب، وخطة يورثها لحكومته أو حزبه، اختار الانسلال بهدوء الى الظلال آملاً أن يسامحه التاريخ ويتذكره لأمور أخرى. الكتاب: البندقية وغصن الزيتون/ جذور العنف في الشرق الأوسط المؤلف: دايفيد هيرست ترجمة: عبد الرحمن آياس الناشر: شركة رياض الريس للكتب والنشر
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©