الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صريع ورد..

صريع ورد..
22 نوفمبر 2012
الشاعر الذي سنتناول قصيدته اليوم هو ديك الجن الحمصي. وديك الجن هو اللقب الذي اشتهر به ولكن الاسم الحقيقي له هو عبدالسلام بن رغبان بن عبدالسلام بن حبيب بن عبالله بن رغبان بن يزيد بن تميم. وجدّه تميم هو الأول في الإسلام من سلالته. عاش ديك الجن في العصر العباسي الأول الممتد من سنة (132 هجرية - 749 ميلادية) إلى سنة (232 هجرية - 847 ميلادية) أي من بدء خلافة أبي العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين حتى خلافة المتوكل بن المعتصم. عاش آل ديك الجن في مؤتة وهي قرية من بلاد الشام. ولد في حمص سنة 161 هجرية - 778 ميلادية وإليها نسب. كانت أسرته ميسورة الحال وعاش الشاعر في هذه الأسرة عيشة الترف والرفاهية. في ذلك العصر العباسي الذي اشتهر بالمجون والشذوذ، لم يسلم الشاعر من تلك الآفات الاجتماعية والتي كان يقف على قمتها شاعر معاصر له هو الشاعر الماجن المشهور أبو نواس. لم يكن ديك الجن الحمصي بحاجة إلى مدح أحد طمعاً في جائزة أو مكافأة.. فهو غني معتز بنفسه. وفوق ذلك كان كما يقول أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني: كان ديك الجن الحمصي شديد التشعب والعصبية على العرب. ولكن بعض الدارسين الآخرين ينفي تهمة الشعوبية عنه ويستشهد بقصيدته التي يقول فيها: كلبٌ قبيلي وكلبٌ خيرٌ مَنْ وَلَدَتْ حوّاء من عَرَبٍ غرٍّ ومن عَجَمِ ولكن من خلال ما تبين من شعره وأخباره، فإن ديك الجن الحمصي كان شيعياً، وأطول قصائده التي قالها في آل البيت مادحاً وراثياً وقد ركّز فيها على مكانتهم في الإسلام، وحقهم في الخلافة. عاش ديك الجن الحمصي حياة اللهو والعبث، وعشق النساء والغلمان يحتسي الخمر ويجعلها مصدر وحيه وإلهامه، مقتفياً آثار أبي نواس الذي يروي ابن خلكان قصته مع ديك الجن فيقول: لما اجتاز أبو نواس حمص قاصداً مصر، سمع ديك الجن بوصوله فاستخفى منه خوفاً أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إيه فقصده أبو نواس في داره.. وقرع بابه فردت الجارية: ? من بالباب؟ ـ أنا أبو نواس.. أين هو ديك الجن؟ ? ليس هنا.. ـ بل إنه موجود.. قولي له.. اخرج.. فقد فتنت أهل العراق بقولك: مُورّدةٌ من كفِّ ظَبْيٍ كأنّما تناوَلَها مِنْ خَدِّهِ فأَدارَها فلمّا سمع ديك الجن ما قاله أبو نواس خرج إليه واجتمع به وأضافه. قصة ديك الجن مع الحب هي التي جعلت منه شاعراً حقيقياً ومختلفاً كل الاختلاف عن غيره من الشعراء سواء قبل عصره أو بعده. وقع ديك الجن بحب فتاة من حمص اسمها ورد.. كانت جميلة جداً.. صوّر ديك الجن ذلك الجمال في كثير من قصائده.. كانت ورد نصرانية، ولما طلب منها ديك الجن أن تُسلم ليتمكن من زواجها، وإنهاء قصة الحب بينهما نهاية سعيدة، أجابته إلى طلبه وقالت: - إنني أضحى بكل شيء من أجلك.. يكفي أن أفوز بقربك وأن أكون معك إلى آخر الدهر. تزوج ديك الجن من ورد.. عاش معها قصة الحب الحقيقي.. لا تمر ليلة.. دون أن يشرب فتسقيه بيدها.. فيطرب ويقول: انظُر إلى شمسِ القُصورِ وَبَدْرها وإلى خُزاماها وبَهْجةِ زَهْرِها لَمْ تبلُ عينكَ أبيضاً في أسْودٍ جَمَعَ الجمال كَوَجْهها في شَعْرِها تسقيكَ كأسَ مدامَةٍ مِنْ كَفِّها ورديّةً، ومُدامةً مِنْ ثَغْرِها ولكن قصص الحب لا تنتهي دائماً تلك النهاية السعيدة، فقد كان هناك الحسّاد والعذال، ومنهم ابن عم ديك الجن المُكنّى بأبي الطيب، والذي طالما نهاه عن تلك الحياة التي يعيشها وحذّره من المرأة التي تركت دينها لا إيماناً بالإسلام ولكن لتسيطر على الشاعر وتسيِّرهُ كما تشاء.. إلى أن ينفَذ مالَه ويقِل عطاؤه فتتركه إلى غيره. صحا ديك الجن بعد فترة ليست قصيرة، ليجد نفسه قد أعسر.. وما عاد لديه ما يمكنه من حياة الرفاهية والرغد.. فرحل إلى بلدة قريبة في أطراف حمص تسمى سلمية قاصداً أحمد بن علي الهاشمي.. هنا تدخل أبو الطيب ليلقي بسهامه المسمومة ويشيع أن زوجة ديك الجن ورد على علاقة بغلام له يُدعى بكر. دارت الأرض بالشاعر.. وغلا الدم في عروقه. - أتخونني ورد وأنا الذي منحتها كل ما أملك؟ ومع من؟ مع خادمي الذي أحسنت إليه وأكرمته؟ لم يصبر ديك الجن ولم يحاول أن يتحقق من صحة الإشاعة أو كذب صاحبها. استأذن من مضيفه أحمد بن علي الهاشمي بقصيدة طويلة شرح فيها ما جرى وما سمع وسمح له المضيف بالمغادرة. وعلى باب حمص التقى ديك الجن ابن عمه أبي الطيب وألهبه بوشاية كاذبة. ـ نحن لا نقبل يا عبدالسلام أن تتمسك بهذه الغانية الخائنة.. يجب أن تطلقها، فقد قامت بغيابك بخيانتك مع غلامك بكر.. مثل هذه المرأة لا تليق بك.. طلقها.. طلقها. دخل ديك الجن إلى بيته يرتجف من الغضب. إنه يحب ورد. يحبها حتى الموت. ولكنها بفعل الوشاية التي أطلقها ابن عمه أصبحت خائنة وتستحق الموت. أكمل أبو الطيب المؤامرة.. وأرسل رجلاً من طرفه ليدق باب ورد وكأنه لا يعلم بوجود زوجها.. ويدعي بأنه حبيبها الذي جاء طالباً وصالها.. وعندها سل الشاعر سيفه وقتل حبيبته البريئة ورد.. وعندما طلب الرجل لم يجد إلا بكراً.. وبفعل الثورة والهياج أكمل عليه وقتله أيضاً. وهكذا قتل ديك الجن الحمصي زوجته المخلصة.. كما قتل أوفى العاملين لديه ألا وهو خادمه بكر.. قتلهما بفعل الوشاية الكاذبة.. وما كاد يكتشف الحقيقة حتى سقط باكياً.. نادماً على ما فعل.. ومكث في حالة الحزن والبكاء زهاء شهر كامل لا يأكل ولا يشرب بل يندب ويبكي دماً على حبيبته وعلى خادمه الأمين. وكأن قصة ديك الجن الحمصي هي التي أوحت لشكسبير مسرحيته الخالدة عطيل الذي قتل حبيبته ديدمونة بعد اتهامها بالخيانة مع صديقه الذي قتله أيضاً.. ولكن الشاعر ديك الجن الحمصي لم يقتل نفسه كما فعل عطيل بل ظل يعيش في عذاب الندم وجحيم الأسف يرثي حبيبته ويبكي عليها بشعر يذوب أسى ويتوهج بالحنين إلى تلك الأيام الجميلة التي لن تعود. ومما قاله فيها: يا طلعةً طَلَعَ الحِمامُ علَيْها وجَنَى لها ثَمرُ الرَّدى بيَدَيْها رويت من دَمها الثرى ولطالما روّى الهوى شفتيّ من شفتيها قد باتَ سيفي في مجالِ وِشاحِها ومدامِعي تَجري على خدَّيْها فوحق نِعليها وما وطئ الحَصى شيء أعزّ عليّ من نَعليها ما كان قتْليها لأني لم أكُنْ أبكي إذا سقط الغبار عليها لكن ظننتُ على العيون بحُسنها وأنفتُ مِن نظرِ الحَسودِ إليها وإذا كانت خاتمة الحب هي هذه المأساة.. وذلك الندم الذي لازم الشاعر طوال حياته بعد قتله حبيبته ورد.. فلن ننسى أن البداية كانت مناقضة لذلك.. تروي الحكايات التي قرأناها في مراجع كثيرة أن اللقاء الأول بين ديك الجن وورد كان كما يلي: ? من أنت؟ ـ ديك الجن الحمصي. ? معقول؟ الشاعر المعروف. ـ نعم أنا هو. ? أثبت. ـ كيف؟ ? قل لي شعراً بي ولكن على قافية الميم.. تبسَّم ديك الجن أمام هذه الغانية المثيرة وقال: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت المنام كي أستريح وتنطفي نارٌ تأجج في العظام دنِفٌ تقلبُهُ الأكفُّ على فراشٍ من سُقام أما أنا فكما علمتِ فهل لوصلِكِ من دوام طربت ورد وصاحت: قلها مرة أخرى على قافية النون. وبلا تردد أو تفكير قال: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الوَسَنْ كي أستريح وتنطفي نارٌ تأجج في البَدَنْ دنِفٌ تقلبُهُ الأكفُّ على فراشٍ من شَجَنْ أما أنا فكما علمتِ فهل لوصلِكِ من ثَمَنْ ذُهلت ورد وتمادت في دلها طالبة الأبيات على قافية العين.. قال ديك الجن: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الهُجوع كي أستريح وتنطفي نارٌ تأجج في الضلوع دنِفٌ تقلبُهُ الأكفُّ على فراشٍ من دموع أما أنا فكما علمتِ فهل لوصلِكِ من رجوع بلغت الإثارة لدى ورد مداها فهمست بغنج واضح: قافية الدال.. قال ديك الجن: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الرُّقاد كي أستريح وتنطفي نارٌ تأجج في الفؤاد دنِفٌ تقلبُهُ الأكفُّ على فراشٍ من سُهاد أما أنا فكما علمتِ فهل لوصلِكِ من معاد عندها لم تبق أمام ورد مقاومة.. وأدركت أنها أمام شاعر لا يضاهى ويستحق منها كل الحب.. أحبت ورد ديك الجن.. وأحبها ديك الجن.. ومن الحب ما قتل.. قتلك ديك الجن ورداً فقضت مظلومة.. وعاش حياته من بعدها نادماً أسفاً.. المصادر والمراجع 1 - ديوان ديك الجن الحمصي/ تحقيق وشرح أنطوان محسن القوال
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©