السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشخصية الخليجية.. منفتحة مثل بحر

الشخصية الخليجية.. منفتحة مثل بحر
22 فبراير 2017 21:32
تحتفظ الشخصيّة الخليجيّة بمخزون ثقافي مهم كوّنته البيئة التي عاشها ابن الخليج، فأصبحت جزءاً من ذاته، لدرجة أنّ العلاقة باتت حميمةً ومُتداولة تتخلل أسلوب الحياة والتراث الهائل الذي يستند إليه أبناء المنطقة، وهي شخصيّة أخذت من مفردة البحر والصحراء والجبل الكثير من المعاني والميّزات التي تستحقّ أن تُدرس لنقف على أوجه الفرادة والتميّز في هذه الشخصيّة التي تشاركت مع محيطها الإنسانيّ وشكّلت أنموذجاً عالياً في هذا المجال، بالاتكاء على التجارة ورحلات الحياة. ولقد كانت مفردة «اللؤلؤ» مسوّغاً موضوعيّاً ومهمّاً للتواصل الإنساني من خلال رحلات دائمة ومنتظمة مع الجوار الخليجي وتحديداً الهند، وهي، بما لها من قيمة اقتصاديّة، أنموذج قوي على العنصر البحري في حفز الشخصيّة الخليجيّة، وتأكيد وجودها، ومدّها بالخصيصة الجمالية الأهمّ - عدا الجانب الاقتصادي- وهي خصيصة «الذوق» وأريحيّة النفس والسموّ الوجداني، نظراً لما للؤلؤ من الصفات الإيجابيّة التي جعلت ابن الخليج مغرماً جداً بها، يستثمرها في حياته اليوميّة لتكون معياراً جماليّاً، أو وزناً ذوقيّاً في التراث المحكي، في الأهازيج والأغاني والأمثال والقصائد والحكايا والقصص ومغامرات البحر. ويمكن تتبّع التراث الإنساني في شقّه الفصيح الذي استولد بسببٍ من طبيعة الحياة تراثاً شعبيّاً ظلّ يحافظ على قيمة اللؤلؤ ويقدّره، تماماً كما كانت عليه الحال في تغنّي شعراء الفصيح باللؤلؤ واتخاذهم قيمته الجماليّة مقياساً لعلوّ المكانة وارتفاع سمت الذوق في عدد مهم من جوانب التراث غير الماديّ، كما في أغنيات الصيادين وقصصهم وحكايا البحر ولهفة المحبين، وهي اشتغالات أدبيّة اعتادها ابن المنطقة الخليجيّة الملازم للبحر الذي فرض عليه إيقاعه الاجتماعيّ، وانسيابيّته المستمدّة مما يجلبه الموج ومما يكتنز به ذلك المكان القصيّ في الأعماق من «لؤلؤ» بات حلماً يدخل في تفاصيل الحياة، وفي «دندنات» عذبة جعلت هذا العنصر المهمّ يتخلل أهمّ أغاني الناس و»شيلاتهم» في استثمار «الدانا» واللعب على موسيقاها التي استجابت لها نفس الخليجيّ من خلال اعتيادها ذلك الجرس الموسيقي الآسر المنتظم في توافقه وهدوئه وانسجامه، وتعاطيه الليّن الرومانسي مع أكثر المسائل تعقيداً، بارتياح بعيداً عن الصخب والعشواء، وهو ما يميّز شخصيّة الخليجي في تعلّقه بالبحر وما يشتمل عليه من كنوز أهمّها على الإطلاق «اللؤلؤ»، ولذلك انبرى عددٌ لا بأس به ممن يقدّرون قيمة هذا العنصر ويزنونه بميزان الذوق والجمال، فكنّا أمام كتبٍ ومخطوطات تؤلّف بنفسٍ دؤوبة هادئة تقرأ اللؤلؤ وتقف على خصائصه، مثلما وقف الشعراء والأدباء والمغرمون بالجمال من قبل على لطائفه الجماليّة واعتمدوه لازمة موسيقيّة في «الدندنات» الشعبيّة التي سار على هديها أولئك المبدعون. ولا شك في أن وجود مؤلّفات ترصد الخصائص الفيزيائيّة- الماديّة- للؤلؤ إلى جانب تراث متراكم، يجعل من اللؤلؤ بطلاً في مسرح التأثير الاجتماعي، ويجعل أبناء المنطقة الخليجيّة رواداً في تحقيق العلاقات الإيجابية مع الآخر، وفقاً لعلاقتهم الحميمة مع الخليج وارتيادهم منافذه وتعرّفهم على عالمه الإنساني من الشعوب الأخرى بما تهيّأ لهم من تجارة وبما فتحه لهم البحر وموارده الغنيّة من اتصالات طبيعيّة مع «الآخر».. إنّ وجود هذه المؤلفات يُعدّ وسيطاً حقيقيّاً بين الخليج وجواره الإنسانيّ، ولنقرأ عناوين بعضٍ من هذه المؤلفات لنقف على العناية الفائقة باللؤل، ولنقرأ الظلال الإنسانيّة لهذه المؤلفات، ومعظمها كما وصل إلينا طُبع في مدينة بومبي بالهند، وما يحمله ذلك من علائق الإيمان بالآخر وتقديره واحترامه والتشارك الإنسانيّ معه. إنّ الشخصيّة الخليجيّة وفقاً لهذه التجارة الطبيعيّة وهذه الآفاق الممتدة ذات سمات إنسانيّة و»حواريّة» مع المحيط البشريّ منذ زمنٍ بعيد، وإذا كان مراس البحر ومعانقة أمواجه وركوبها أوجد تأثيراً متبادلاً بين منطقة الخليج وجوارها، فإنّها بالتأكيد ليست شخصيّةً منغلقةً في تفكيرها وآفاقها وارتيادها ذلك المجهول في علم الغيب، ليقف اليوم إنساننا الخليجي واثقاً مبادراً يقدّم علاقات الأخوّة الإنسانيّة ويعترف بها، ولا شكّ أنّ تجارة اللؤلؤ ومخالطة الشعوب الأخرى في تسويقه لا تقف عند الناحية الماديّة فقط، بل تتعداها إلى التشارك في قضايا هذه الشعوب واستيراد نضالها الاجتماعي وتصميمهم على الحياة، وربّما التفاعل مع قضاياهم والسعي لحلّها، بل وربّما التأثر بها من منظور ثقافي اجتماعي، فالتاجر الخليجي رحّالة اجتماعي، وهو سفير ثقافي أيضاً، يحمل مجموعة الأبعاد الفكريّة والحضاريّة والإنسانيّة متّكئاً على تجارة اللؤلؤ، ليعود بما يعادل اللؤلؤ من أوجه تقدّم البشريّة ورقيّها وسعادتها. وتكفي نظرة على المؤلفات الخاصة باللؤلؤ لندرك شغف الخليجي به وتخصصه في معرفة أوزانه ومقاييسه وجماله وحساب قيمته، ونقف على الريادة التي تؤكّد تفاعل الشخصيّة الخليجية بهذا العنصر المميز وإلمامها به والبحث عن آفاقه، وإذا كان من إشارة فإنّ كتباً مهمّة تناولت اللآلئ الثمينة في التراث العربيّ، تحت مسمّيات «الدرر اليتيمة»، وهو ما يحمل ندرةً وفرادةً لهذه التي هي يتيمة عصرها بمقياس الجمال، والحديث يمتد لنلفت ونشير إلى «الدّانة» مفردة الـ «دانات»، و»الحصباة» مفردة «الحصابي»، ولنا أن نتخيّل ما راكمته الشخصيّة التراثيّة الخليجيّة في النظر إلى الدانة والتغني بها والخضوع لقيمتها الجماليّة التي هي مرآة حقيقيّة لنفس خليجيّة صافية ما تزال تحتفل، في المهرجانات والتظاهرات الفنيّة والثقافيّة، بهذه العناصر التي عاشوا معها وعرفوا قيمتها، وها هم اليوم من خلال الجهد المؤسسي الناجح يؤكّدون شخصيّة اليوم بشخصيّة الأمس وشخصيّة الأمس بشخصيّة اليوم وفق حسابات اجتماعيّة وثقافيّة تزيد من فرص النجاح والتآلف والإصرار والبناء، لتشتغل هذه الاحتفاليات والمهرجانات على تمثّل الأمس بانتظام ومواعيد تزدهر فيها تلك الطقوس التي هي أكبر من مجرد طقوس تنتهي بمجرد أن ينفضّ الاحتفال، بل هي أصالة وصبغة تراثيّة وهُويّة تعيدنا إلى ذلك الزمن الذي نتمثّله اليوم في إبداعنا وتصميمنا على النجاح وفي تنويع مصادر دخلنا وفي التبادل مع الآخر على أكثر من صعيد. ولقد كانت حياةً أكّدها من مضى من سكّان هذه المنطقة، وهي الحياة اليوم في البناء والعمران والتواصل الإنسانيّ بمقاييس التشاركيّة التي لا تنال من الهويّة بحال، وهي الشخصيّة الخليجية الأصيلة المتّصفة دائماً بالهدوء والعمل والاستقرار وحب الخير للآخر والتشارك معه في البناء والنجاح وإعمار الكون، بعيداً عن الإقصاء والتطرّف والتهميش والتقوقع أو الانغلاق. لآلئ الكتب مما يدل على التأثير العظيم للؤلؤ في حياة الخليج وجود عدد كبير من الكتب التي تعنى به، وهي كتب قديمة تدلّ عليها تواريخ كتابتها، ومنها كتاب «حساب أوزان اللؤلؤ» لسلطان بن محمد بن علي المناعي من أهل البحرين، المطبوع عام 1886م، وكتاب «تحفة الأصحاب لتسهيل الحساب» لعلوي بن السيد طالب البنادرة الموسوي البحراني عام 1325 هـ، وكتاب «معرفة حساب أوزان اللؤلؤ» لعبد اللطيف بن عبدالرزاق، المطبوع عام 1329 هـ، وكتاب «الخالص من كل عيب لوضع الجيب» للربان الكويتي عيسى القطامي وقد طبع عام 1343 هـ، وكتاب «اللآلئ» لمحمد عطاء الله القاضي المطبوع على نفقة الشيخ سعيد بن محمد سعيد المدفع وهو أحد تجار الشارقة عام 1928م، وكتاب «العقد المتلالي في حساب اللآلي» لسليمان بن صالح الدخيل النجدي، وكتاب «الجوهر العالي في وزن اللآلي» للسيد هاشم الهاشمي، وكتاب «كفاح المحتاج» لجمعة بن راشد الحاج، وكتاب «أوزان اللآلئ» لخالد بن علي الصايغ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©