الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خُلق كفوراً..

خُلق كفوراً..
22 فبراير 2017 21:45
مدارس علم النّفس متعدّدة وتيّارات قراءة النّفس البشريّة متنوّعة، على أنّه يمكن تمييزها إلى ضربين، الضّرب الأوّل يركّز على مسائل اللاوعي، ويعتبر أنّ أغلب أنماط سلوكنا ضاربة بجذورها في اللاّشعور. وتُمثّل هذا الضّربَ مدارسُ التّحليل النّفسيّ المختلفة من الأصل الفرويديّ إلى القراءة اللاكانيّة للفرويديّة، إلى المنهج اليونغيّ وتركيزه على المخيال الجمعيّ وسواها. أمّا الضّرب الثّاني من المدارس النّفسيّة فيشمل كلّ ما يوسم بالسّلوكيّة، وهي مدرسة تعتقد أنّه يمكن تغيير سلوك الإنسان عبر تعويده على مقولات من التّفكير وأنماط من الفعل مخصوصة، وإذا نشدنا لهذا المقال نسبا، فإنّه سينتمي إلى هذا الضّرب الثّاني، ذلك أنّنا نريد أن نعرض حالاً شائعاً لدى كثير من النّاس، ونريد تلمّس سبيل سلوكيّ لتجاوزها. الحال الّذي نعنيه هو حال التّذمّر من تصاريف الحياة، التّذمّر من نقص المال، أو التّذمّر من تصرّفات الحبيب أو الزّوج، أو التّذمّر من ضياع متاع إلخ... إنّ التّذمّر يمكن أن يتجسّم قلقاً أو ألماً أو غضباً أو حزناً. ونريد أن نعرض في هذا المقال سبيلاً بسيطاً لتجاوز هذا القلق أو الألم أو الحزن. هذا السّبيل البسيط يقوم على تذكّر الأشياء الّتي نمتلكها قبل أن نتذكّر الأشياء الّتي نتصوّر أنّها تنقصنا. نفترض أنّ سبب مشكل مّا ضياع نصيب من المال من شخصّ معيّن، فإنّ توجيه الانتباه إلى هذا الضّياع والتّركيز التّامّ عليه يعمّقان الشّعور بالضّياع والفقدان، وفي مقابل ذلك، فإنّ تذكّر ذلك الشّخص لما قد يمتلكه من صحّة وعائلة وأصدقاء يحبّونه.. إلخ، من شأنه أن ينسّب ضياع المال ويخفّف من الألم والتّوتّر. مثال ثان: نفترض أنّ سبب مشكل مّا هو فشل ابنك في النّجاح المدرسيّ، فإنّ التفاعل مع الحياة من بؤرة الفشل هذه، من شأنه أن يحوّل أيّامك إلى جحيم. وفي مقابل ذلك، فإنّه يكفي أن تتذكّر أنّ لك ابناً ممّا هو نعمة من نعم الله تعالى حتّى يخفّف ذلك التّذكّرُ عنك القلقَ واليأسَ. وقد شاع في المخيال الشّعبيّ الإشارة إلى هذه المسألة بمثال نصف الكوب الّذي يوجد فيه ماء، وبوصف من يرى النّصف الفارغ من الكوب بأنّه متشائم، وبوصف من يرى النّصف المليء من الكوب بأنّه متفائل. والحقّ أنّ المسألة أعمق من مجرّد التّشاؤم والتّفاؤل، وإنّما هي تحيل على بعدين أحدهما اجتماعيّ تربويّ، وثانيهما فلسفيّ روحانيّ. فمن المنظور الاجتماعيّ التّربويّ، نلاحظ أنّ الإنسان عموماً تعوّد أن يهتمّ فحسب بما ينقصه، وأَلِف الانشغال فقط بما هو غائب من حياته. ومنطلق ذلك ضرب من ضروب التّربية الّتي نحيط بها أطفالنا من الصّغر. هذه التّربية لا تؤكّد على ما يملكه كلّ طفل بالضّرورة من نقاط إيجابيّة، ولكنّها تربية تقوم على عتابه ولومه دوماً لأنّه لم يفعل أشياء معيّنة ولأنّه لم يسلك سلوكاً مخصوصاً، فأغلب الأمّهات مثلاً لا يَعِين بأنّ لأبنائهنّ خصالاً، ولا يثمّنّ هذه الخصال أمام الطّفل ولا حتّى في غيابه، وفي مقابل ذلك تجدهنّ عموماً بارعات في الشّكوى للآخرين من أخطاء أطفالهنّ، وتجدهنّ ماهرات في تقزيم الطّفل والاكتفاء ببيان عيوبه. وعندما يكبر الطّفل استناداً إلى هذا المخيال التّربويّ، فإنّه يقوم بفعل إسقاط (projection) لهذه التّربيّة السّلبيّة الّتي تلقّاها على الحياة. ومثلما كان أبوه أو أمّه يلومانه على ما يعتبرانه نقصاً فيه دون بيان خصاله الإيجابيّة، فإنّه يتعوّد أن يتذمّر من الحياة ويعاتبها على كلّ ما يتصوّره نقصاً أو حرماناً. وهذا ما يحيلنا إلى البعد الثّاني الفلسفيّ الرّوحانيّ، فقد أسلفنا أنّ معاتبة الحياة على ما نتصوّره ناقصاً، هو المظهر الأساسيّ من مظاهر عدم الوعي بما هو حاصل لدينا. ولكنّ المسألة أعمق، ذلك أنّ معاتبة الحياة على ما «حرمتنا» منه يضمر أنّنا نتصوّر أنّ ما نمتلكه هو حقّ مكتسب، وهنا يتجسّم الوهم الكبير. إنّ الثّقافة الحديثة تحيل كثيراً على مفاهيم الحقوق: «حقّ الحياة»، «حقوق الإنسان»، «حقوق المرأة»، «حقوق الطّفل»... إلخ، في حين أنّ كلّ ما «نمتلكه» إنّما هو عطاء من الله تعالى، وليس حقّاً اكتسبناه بشكل من الأشكال. إنّ وجودنا في هذه الحياة هو نفسه هبة من الله تعالى، وكلّ ما يمرّ بنا من تجارب ممتعة من أبسطها إلى أقصاها ليس حقّاً وإنّما هو هبة. بعبارة أخرى: ليس هناك شيء من تحصيل الحاصل، وإنّما كلّ شيء حدث متجدّد وإعجاز يوميّ. وإذا عدنا إلى مثال الكوب بنصفه المليء ونصفه الفارغ، أمكن الإقرار بأنّه وراء النّصف المليء والفارغ وتقييمهما، يكون وجود الكوب نفسه عطاء ويكون إدراكنا للكوب بنصفيه هبة من الله تعالى. ويمكن أن يستند الإنسان إلى البعد الاجتماعيّ، أو إلى بالبعد الرّوحانيّ حتّى يتعوّد شيئاً فشيئاً على أن يتأمّل أحياناً ما هو موجود لديه بدل أن يقتصر على الانتباه إلى ما هو محروم منه، ولكن مهما يكن تأثير هذين البعدين فإنّ أهمّ ما يمكن أن يهزّ أعماق الإنسان هزّاً حاملاً إيّاه على الوعي بما وُهب له، هو أن تحلّ به بعض تصاريف الحياة تجعله يفقد ما لديه، كأن يصاب بمرض بعد صحّة أو فقر بعد غنى، وعندها فقط ينتبه المرء في زلزال نفسي عميق إلى جحوده لكلّ نعم الحياة الّتي وهبت له، عندها فقط يعي أنّ الإنسان خُلق كفورا...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©