الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دولة الخِلاف أم دولة الخلافة؟

24 نوفمبر 2012
مرت خلال هذه السنة الذكرى الثالثة والعشرون للانقلاب العسكري في السودان في 30 يونيو 1989 من غير ضجيج، وهي تتوارى عن الأنظار خجلاً، وقد يتساءل المرء على الأقل كيف لنظام بدأ بشعارات براقة أن ينتهي إلى مآلات صعبة ومثيرة للجدل؟ وهل حسن النية وسمو المقصد يكفيان لتبرير الأخطاء؟. ومن جهة أخرى هل إن عثرات المشروع الإسلاموي في السودان في المحصلة النهائية تمثل تراجعاً للعقل الاستيهامي غير المنجز إلا في تصوراته داخل اللغة؟ إن مبدأ الرصانة والوقار الزائف والورع المتكلف الذي هو غلاف بعض أوجه النخبة في محاولته لدفع المجتمع لقيم المثال ساق المجتمع بقدرة فائقة إلى قيم الضد تماماً. وهل هذه هي الأخلاق في محاولتها لتنشئ مجتمع الفضيلة؟ أم أن ما حدث في السودان لا يعدو أن يكون أحد مظاهر العقل الجمعي الارتكاسي ذي القدرة الكامنة على تكرار نموذج دولة الدراويش، وأن المجتمع السوداني لا يزال يعتمد مبدأ الخطأ والصواب لاكتساب المعرفة غير آبه للتراث الحقوقي والعلمي الإنساني؟ لقد بدأ النظام حكمه بحشد الآلاف من كوادره لتسيير دولاب الدولة ليس بدعاوى الموالاة فقط ولكن لإيمانه الصادق بنزاهة وتجرد أفراد هيأهم ودربهم روحياً وتنظيمياً لإنجاز مشروعه السياسي ويحلم منذ عقود بأن تؤول إليه السلطة لينفذه وليدحض افتراءات العلمانيين بعدم إمكانية قيام سلطة دينية لأنها حسب العلمانيين قد تفضي إلى العنف والفساد وتحمل بذور فنائها في داخلها (دولة الخلاف، بكسر الخاء، وليست دولة الخلافة). إن الناس في تنوعهم مثل بصمات الأصابع لا يمكن أن تؤطر وتضبط حركة الأفراد ومعالجة اختلالات سلوكهم وتصنيف جدواهم الاجتماعية بالجملة. ولذا فإن أي تغليب لسمات تميز (مفترضة جزماً) عرقية /دينية /جغرافية، تسعى لتفريد المجتمع وخلخلة تماسك بنيات شرائحه الاجتماعية التي عضدتها علاقات العمل والإنتاج والهجرات والتزاوج تؤدي إلى مركزية الفرد وتميزه بالصفات غير الواقعية التي تؤدي إلى هيمنة الشعور بالاستعلاء ونعرة التفوق واحتقار الآخر. ولذلك فالعقيدة الاجتماعية (المدنية) تعتبر من أهم سمات هوية المجتمع المتعدد الأعراق والأديان وهى ليست بديلاً للعقيدة الدينية ولكنها في أبسط معانيها تسعى لمس جذور العصب المؤثر لوحدة وجدانية موضوعية تغذي نمو الخصائص المشتركة وتدفع بصراع الاختلاف إلى ميادين السلم. ولكن دعونا من الحالة السودانية حصراً وتعقيداتها التي قد يطول فيها الحديث. ولنسق هنا ملاحظات عامة عما يمكن تسميته بفلسفة الضمير وطرق الاستجابة للحق والواجب، واحتواء وتمييز الخطأ من الصواب في الأفعال الإنسانية. وهذه الملاحظات العامة ليس الغرض منها التنظير وإنما بسط الكلام حول الخلفيات المبدئية لنظرية الحق والحقوق، بصفة عامة. وهنا محاولة إنزال للمثل السياسية والأخلاقية من أبراجها العاجية إلى أرض الواقع، وفي ضوء مفردات الحياة والممارسة اليومية للكائن البشري المفرد، وللمجتمع الإنساني ككل. إن الإنسان منذ بدايات تخلقه الفكري وتطلعه ليقين ما ورائي ليوازن عجزه وقصوره في مواجهة قوى الطبيعة وتلبية حاجاته الحياتية، اكتشف مبدأ العقاب كرادع للشطط والجنوح الكامن في طبيعته، وقد ساهمت الأديان في وضع الأسس المنظمة للعلاقات الاجتماعية. والرادع (الضميري) هو إما رادع ديني أو رادع ثقافي إنساني تربوي غير ديني وتكاد حدود التماس تكون محدودة بين (الرادعين). والرادع الديني هو رادع غيبي يعزز النزوع الإرادي للفرد لتخير سبل الخير والسلم والنزاهة دائماً لقضاء حوائجه، والرقابة هنا ليست رقابة اجتماعية أي رقابة متشيِّئة أو ماثلة في الوجود (قانون)، والعقاب هنا هو عقاب مؤجل والقصاص يمكن أن تسقطه التوبة (المعنى هنا الحق العام). وإذن لا يمكنك أن تبني مجتمعاً على افتراض الأخلاق المثالية وحدها ولكن بإمكانك أن تبني مجتمعاً أخلاقياً بالمفهوم العام لأن الأخلاق منتوج إنساني، والبشر يخطئون ويصيبون. ويمكنك أن تبني مجتمعاً يراقب أخلاقة وينمي ويطور أسس الحفاظ عليها بتدابير أرضية يمكن تطويرها باستمرار ومراجعة أوجه قصورها. صحيح أن التدين مورد محفز للقيم والاستقامة بينما الفرد في ذاته قيمة متحولة ونزوية ومن منطلق الملكية والنرجسية قد يغدو نهباً لظنون الكمال والتسيد حالما يحل فيه الضمير الإيديولوجي التبريري على رغم أن كل امرئ خطاء بطريقته الخاصة بما في ذلك بعض المتأدلجين بالتدين ممن يدعون أنهم أكثر الناس طهراً وتقوى، ولا يعتمد الأمر على ما يظنه المرء خطأ أو صواباً وإنما على مدى قناعته بما يفعل، وكثير من الناس يقترفون ما يظنون أنه مصيب بينما يرى الآخرون أنهم مغرقون في الأخطاء، هذا على رغم كون الجميع ينهلون من منبع قيمي واحد لأن القيم والمثل والشرائع التي تشكل الضمير السلوكي في حالة هؤلاء تصبح ملكية شخصية يسقط عليها الفرد دوافعه المواربة. فيصل الخليفة كاتب سوداني ينشر بترتيب مع مشروع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©