الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

انهيار على حافة الضحك

انهيار على حافة الضحك
4 ديسمبر 2013 19:21
لا شك في أنك ستبتسم كثيراً. من المؤكد أيضاً أنك قد تضحك مرة ومرات، لكن ضحكتك، وفي كل مرة، سرعان ما تخفت وتتلاشى وأنت تتابع سلسلة من الأحداث المأساوية “الميلودرامية” لإنسانة مرتبكة للغاية، وتبدو في ارتباكاتها وكأنها في حالة انهيار عصبي، تحتاج إلى علاج، وتحاول أن تخفيها فلا تفلح وتكاد تقف عند حافة الجنون. ربما تشعر بتعاطف معها أو برغبة في مساعدتها، لكنك لن تستطيع أن تفعل شيئاً لأنك في النهاية تجلس إلى مقعد داخل قاعة عرض، في وسط لندن، تتابع “الياسمين الأزرق” Blue Jasmine، أحدث أفلام المخرج والكاتب السينمائي وودي آلن. في الأصل «جانيت» من بين النقاد من يرى أن “جاسمين بلو”، أو الياسمين الأزرق، هو أفضل أعمال وودي آلن خلال مسيرته الفنية التي كتب وأخرج خلالها ما يقرب من 50 فيلماً، إضافة إلى العديد من الأعمال التلفزيونية والمسرحية. فيلم وودي آلن، الجديد، مثل معظم أفلامه، لا يعتمد على قصة لها بداية ووسط ونهاية أو حبكة درامية، بل يسعى لأن يقدم لنا رؤية لحياة نعيشها بالفعل، أو نعرف من يعيشها عن قرب، وهذا هو حالنا حيال “جاسمين”، وقد لعبت دورها وباقتدار بالغ، الممثلة الأسترالية الأصل كيت بلانشت. “جاسمين” كان اسمها “جانيت” قبل أن تتزوج من “هال” رجل الأعمال الثري الذي أدى دوره الممثل إليك بلدوين ، وعاشت حياة الرفاهية الناعمة في أرقى أحياء مدينة نيويورك، “بارك أفنيو”، لكنها، وفي لحظة درامية عاصفة، تكاد هي أن تكون الفاعل الأساسي لها، تجد نفسها وقد فقدت كل شيء وأصبحت بلا مال أو بيت يأويها، ولم تعد تملك من ثراء الماضي سوى بعض ملابس من إنتاج بيوت أزياء عالمية، وضعتها في بعض حقائب بـ”علامات تجارية” عالمية أيضاً، وحجزت لنفسها مقعدا، بالدرجة الأولى، على الرغم من فقرها، تاركة نيويورك، ومتجهة إلى سان فرانسسيسكو لكي تعيش مع أختها بالتبني، “جنجر” التي أدت دورها، وأيضاً ببراعة متناهية، الممثلة الأميركية سالي هوكينز. مع “جانيت” و”جنجر” نحن أمام أختين غير شقيقتين تبنتهما أسرة واحدة، عاملتهما بطريقة غير متساوية، فكان الحب والتفضيل من نصيب “جانيت”، الأجمل، والإهمال من نصيب “جنجر” التي لا نصيب لها من الحسن، والتي تعيش حياتها متناقضة بشكل كلي عن حياة أختها، وتعمل في وظيفة متواضعة في “سوبرماركت”. ويبدو وودي آلن مغرما بموضوع التناقض بين الأختين الذي سبق وقدمه في فيلم آخر له هو “هانا وأخواتها”، الذي كتب قصته وأخرجه ومثل فيه أيضاً، وعرض عام 1987، وفاز بثلاث جوائز أوسكار، منها جائزة أفضل نص سينمائي مكتوب للشاشة الفضية، كما رشح لجائزة أوسكار عن أفضل إخراج. في “الياسمين الأزرق” نلمح التناقض واضحاً بين الأختين، لكن التناقض داخل شخصية الأخت الأجمل، والتي عاشت تجربة الثراء، يبدو مرضياً، حالة من الكذب الذي بدأ عندما تخفت “جانيت” وراء اسم “جاسمين”، وهي تتعرف إلى “هال”، رجل الأعمال، وتصبح زوجة له. “جنجر”، أختها تبدو في حياتها المتواضعة جداً أكثر اتساقاً، بل يكاد التناقض يطرق بابها لحظة تساير أختها “جاسمين” في محاولة صعود اجتماعي فاشلة، تعود في نهايتها إلى حياتها البسيطة، المتسقة. ليس ضد النساء ينقل الناقد البريطاني مايكل وود عن فرانسين بروس الكاتبة والروائية الأميركية، قولها إن فيلم “جاسمين بلو” يعد نموذجاً للدراما المعادية للمرأة. وقد تكون بروس على حق، إذا ما نظرنا إلى “جاسمين” باعتبارها امرأة تمارس الكذب بدافع الرغبة في الصعود الاجتماعي، والحفاظ على حياة مرفهة، فتكذب بتغيير اسمها لكي تحصل على زوج ثري، وتكذب، حتى على نفسها، كي لا تصدق أن زوجها متعدد العلاقات، وعندما يصارحها بعلاقة له مع امرأة أخرى، وأنه سيتركها كي يتزوج بمن يحبها، لا تتورع عن الانتقام الفوري منه، وتمسك بالهاتف طالبة مكتب التحقيقات الفيدرالية، وتبلغ عن واقعة تزوير كان قد ارتكبها في أوراق رسمية خاصة بأعماله وشركته، فيعتقل ويحاكم ويسجن وينتحر شنقاً في محبسه. على الرغم من ذلك، يتسم رأي الكاتبة الأميركية بروس بقدر من المبالغة، مردها مواقفها كناشطة نسوية، ذلك أن “جاسمين” تعد، في نهاية الأمر، نموذجاً يمكن أن نقابله كثيراً في حياتنا، وعلى مر العصور، ولا يعد حكراً على النساء، فزوجها، الثري المحتال، لا يقل كذباً عنها، بل إن الطريقة التي لجأت هي إليها للانتقام منه، جعلتها تخسر صفقة طلاق كانت ستجني منها ملايين، تحافظ بها على ثرائها، وتحفظ حياتها من الانهيار والاقتراب من حافة الجنون التي جعلتها تسير في الشوارع تكلم نفسها، وتبدو وكأنها تهذي أو تحارب طواحين هواء. الفيلم، في ظننا ليس ضد النساء، بقدر ما هو كاشف للنفس البشرية ولحجم الهواجس التي يمكن لإنسان أن يعيشها لو انفصل عن الواقع، ولم يقدر على إدارة حياته بعيداً عن الأوهام. وهنا يبدو وودي آلن متأثراً إلى حد كبير بمسرحية “عربة اسمها اللذة” أشهر أعمال تينسي وليامز، والتي حولها إيليا كازان إلى فيلم، وكان الدور المحوري فيها لامرأة “بلانش”، وأدت دورها الفنانة القديرة الراحلة فيفيان لي، وأمامها العملاق الراحل مارلون براندو، في دور “ستانلي”. أوجه التشابه كثيرة ما بين “بلانش” و”جاسمين”، وتأثر وودي آلن واضحاً في ما يريد أن يقوله، عن العلاقات الإنسانية المركبة، والنفس البشرية المعقدة، ومثل هذا التشابه أقر بها أكثر من ناقد سينمائي تناول فيلم “الياسمين الأزرق”، خاصة في صحافة نيويورك الفنية. التفاصيل بين العملين مختلفة، لا شك، لكن نقاط التشابه لا شك فيها بين شخصيتي “بلانش” و”جاسمين”. “بلانش” في “عربة اسمها اللذة” تبحث عن رجل يقدر أنوثتها ويحبها، و”جاسمين” في “الياسمين الأزرق” تريد رجلاً يعيد إليها حياة الرفاهية التي أصبحت في خبر كان. ولا شك أيضاً أن التأثر بتينسي وليامز واضحاً عند وودي آلن في التوجه الاجتماعي الساعي إلى نقد الواقع الأميركي بأدوات هذه الأيام. الجدير بالذكر أيضاً أن كيت بلانشيت كانت قد قامت، وقبل بدء تصوير فيلم “بلو جاسمين”، بتأدية دور “بلانش” في مسرحية “عربة اسمها اللذة”، عندما أعيد تقديمها على مسرح في بروكلين ـ نيويورك، وليس من المستبعد أن تكون قد تأثرت بهذا الدور المسرحي عند أدائها لشخصية “جاسمين”. «منولوج» الهذيان الأخير “بلو جاسمين” يجمع، كعنوان للفيلم، ما بين الاسم الذي انتحلته “جانيت” لنفسها، والشق الثاني من اسم أغنية شهيرة قديمة بعنوان “بلو مون” أو “القمر الأزرق” وقد أداها أكثر من مطرب ومطربة، وكانت الخلفية الموسيقية للحظة لقاء “جاسمين” مع وزجها الثري، كما كانت أيضاً الخلفية غير الطاغية، في مشهد الهذيان الأخير في الفيلم وفيه تغادر”جاسمين” بيت شقيقتها وهي في أسوأ حالاتها السيئة، ترتدي ثيابها الغالية، الرثة، تبدو، على الرغم من شبابها، وكأن عمرها مائة عام، تجلس إلى أريكة خشبية في الميدان القريب في الحي المتواضع، وتبدأ في الهذيان الأخير. كانت قد قبلت بوظيفة “استقبال” في عيادة طبيب أسنان فرت منها، ومنه، عندما حاول تقبيلها عنوة. كانت قد حاولت أن تدرس أصول الديكور والتصميمات الداخلية “أون لاين” كي تمارس مهنة محببة تعوض انقطاعها عن الدراسة عندما تزوجت من الثري المحتال، كانت قد ظنت أنها عثرت في سان فرانسيسكو على من سيعيدها إلى الحياة الناعمة الراقية التي اعتادتها في نيويورك عندما التقت بدبلوماسي أحبها وطلب الزواج منها. كانت قد أفهمته ـ كذباً ـ أنها مهندسة ديكور. ويوم خرجا سوياً كي تختار خاتم الزواج، وفي اللحظة التي همت فيها بالدخول معه إلى محل المجوهرات، وقعت الواقعة، وأطل الماضي المتستر بالكذب الناهض برغبة الهروب إلى الأمام. ظهر الزوج السابق لشقيقتها “جينجر”، وكان واحداً من ضحايا زوجها السابق المحتال. كان زوج شقيقتها قد ربح مبلغاً كبيراً من المال (200 ألف دولار) في لعبة الـ “لوتري”، وأراد أن يستثمر ما ربحه في عمل يدر عليه دخلاً ينقله من طبقة دنيا إلى طبقة أعلى، لكن خسر كل شيء، وعندما شاهد “جاسمين” مصادفة راح يذكرها بما فعله زوجها السابق، وتأثير اعتقاله وسجنه وانتحاره، على مستقبله الذي حلم به لحظة أن ربح مبلغاً لم يكن يحلم به في حياته، ويحكي لها عن ابنها بالتبني، الذي لا يريد أن يراها بعد أن اكتشف زيف زوجها، الذي تبناه. وكان من الطبيعي، مع اكتشاف الزوج المرتقب لحقيقتها، ألا تكمل مشوار شراء خاتم الزواج الجديد، وأن تعود مهزومة، أكثر مما هي عليه من هزيمة، لتجد أن أختها قد قررت إتمام زواجها من الشخص الذي لا تطيقه، ولا يطيقها، وأن الأخير قد قرر الإقامة في البيت الذي لم يعد لها مكان فيه، فتخرج إلى الشارع، وتبدأ الهذيان الأخير السارح بعيداً عن الواقع، والطاغي على خلفية موسيقى الأغنية التي تنادي “القمر الأزرق”، وتقول له من بين ما تقول: رأيتني أقف وحيدة، بدون ما حلم في قلبي، وسمعتني أصلي من أجل أحد أهتم حقيقة به، أيها القمر الأزرق. وعلى الرغم من كل ما في الفيلم من “ميلودرامية” إلا أن البسمة ستظل حاضرة، ليس لأن “في شر البلية ما يضحك” فحسب، بل لأننا أيضاً أمام مفارقات إنسانية ثرية، يتوجها الأداء الرائع المتقن لمجموعة منتقاة تتصدرها كيت بلانشيت، وسالي هوكينز، ونص محكم وإخراج أكثر إحكاماً لمخرج وكاتب سينمائي له وجهة نظر معتبرة، حتى وإن بدا في فيلمه الأخير متأثراً إلى درجة الاقتباس والتحوير، ودون ما إشارة واضحة، بأعمال مبدع آخر سابق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©