الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الثورة تبدأ في الفكر

الثورة تبدأ في الفكر
4 ديسمبر 2013 19:23
في طبعة أنيقة، أصدر المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء الترجمة العربية لكتاب “التأملات في تاريخ الرومان/ أسباب النهوض والانهيار” لمؤلفه المفكر والفيلسوف الفرنسي الشهير شارك دي سكوندا، المعروف باسم “مونتيسكيو”، وقد نقل هذا الأثر الإنساني من لغته الأصلية الفرنسية إلى العربية، معتمدا على نسخة من الطبعة الأولى التي صدرت في سنة 1748، المفكر والكاتب المغربي الدكتور عبد الله العروي. إن الدكتور عبد الله العروي ـ صاحب كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” بترجمته لهذا الكتاب القيم لاسم لامع في الفكر الفرنسي، وصاحب كتاب “روح القوانين” الذي تتداوله الأجيال ويدرس في أعرق جامعات العالم، إنما أنجز ذلك لكي يقول لنا: أنظروا كيف كتب “مونتيسكيو” كتابه ليقول للشعب الفرنسي، اقرأوا هذا الكتاب لتعرفوا مُستقبلكم من ماضيكم، اقرأوا الكتاب لتعرفوا أسباب تقدم وتأخر وانحطاط الدول والشعوب، انطلاقا من نموذج اختاره “مونتسكيو” بذكاء وعبقرية. إن ما دفع بصاحب “روح القوانين” إلى كتابة كتابه عن الرومان وتاريخها وأخلاقها، وأعرافها، واقتصادها، ومكانة قوتها وضعفها، هو أنه أراد مقارنة الحالة السياسية التي عاشتها فرنسا خلال حكم لويس الرابع عشر التي تميزت بالتزمت والاضطهاد الديني، والانتكاسات السياسية والعسكرية، وبسخط النبلاء وتذمر الطبقات الشعبية، عاش كذلك عهد الردة، تحت وصاية آل أورليان، حيث تحررت الطبقة العليا من كل القيود الدينية والأخلاقية، وانتشرت فيها الدعوة إلى الزندقة. وأخيرا عاش صدر حكم لويس الخامس عشر الذي حاولت أثناءه فرنسا تضميد جراحها واستعادة مركزها داخل أوروبا جديدة ظهرت فيها قوى نامية مثل بروسيا وروسيا. لم يكن نبيلاً يقول الدكتور عبد الله العروي في تقديمه لهذا الكتاب “لا حاجة لنا في تتبع مراحل سيرة مؤلفنا، نكتفي بالتوقف عند النقاط التي تساعدنا على فهم منحاه الفكري وأسلوبه في الكتابة، معتبرا أن “مونتيسكيو”، مؤلف الكتاب “كان من الآفاقيين الطارئين على العاصمة الفرنسية، ولهذا الجانب أهمية، لا سيما أن الأمر يتعلق بمنطقة غويانه (Guyenne)، التي ظلت عقودا عديدة تابعة للتاج البريطاني، والتي ارتبطت دائما بعلاقات تجارية قوية مع الجارة الإنجليزية. اتصال مونتسكيو الدستوري والسياسي البريطاني أساسي، لا هامشي كما هي الحال عند جل كتاب القرن الثامن عشر الفرنسي”. ويرى العروي أن “مونتسكيو”، بالرغم ما يوحي به اسمه لم يكن ينتمي إلى أسرة عريقة النُبل، لكن العروي يقول عن مؤلفنا أن عائلته شرفت أثناء القرن السادس عشر تحديدا، جزاء لخدمة أسداها للعرش أحد أجداده. لكن، إن لم يكن نبيلا عريقا، كان “مونتسكيو” من الأعيان المحظوظين، ملاّكا واعيا بحقوقه وامتيازاته. مؤكدا أن “مونتيسكيو” ورث ضيعة عن والدته وأخرى عن عمه، واشتغل جديا بإدارتهما، كما ورث عن نفس العم منصبا، قابلا للتفويت (الانتقال) في برلمان بوردو وتلقى تعليما عصريا علمانيا في مؤسسة قريبة من باريس، تديرها جماعة الأوراتويين (Oratories)، وهي جماعة رهبانية معروفة بانفتاحها الفكري، بخلاف جماعة اليسوعيين. تبع دراساته القانونية في جامعة بوردو، وبعد تخرجه اشتغل سنوات عدة مستشارا قضائيا لدى البرلمان المحلي، كانت له إذن تجربة واسعة في شؤون المال والصرف، كما كان له اهتمام بطرق التدبير والاقتصاد عامة. اقترن بفتاة بروتستانتية العقيدة، ثرية ومقتدرة. فوض لها في مناسبات عدة مهام تسيير ممتلكاته، بعد أن تعرف إلى الحياة الباريسية، وانغمس في كل أنشطتها العلمية والترفيهية. انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية، كما استقبل في أندية مغلقة ميالة إلى البطالة والمجون. بين سنة 1728 ونهاية سنة 1731، تجول بصحبة نبيل إنجليزي في بلاد النمسا والمجر وإيطاليا وألمانيا وهولندا. بعد ذلك استقر بإنجلترا، ومكت فيها طويلا. صادق ساساتها وعلماءها وكتابها. انتخب عضو شرف في الجمعية العلمية الملكية، كما استقبل في المحفل الماسوني. بعد كل هذا عاد إلى وطنه وانعزل استعدادا لتدوين مؤلفه الرئيس روح القوانين. انتباه متأخر وبحسب الدكتور عبد الله العروي فإن الرجل “خير مثال على ما يعرف بعقلية القرن الثامن عشر الأوروبي. كان واسع الاطلاع، متحرر الفكر، متنوع التجربة، يجمع بين ذوق الأديب وعمق الباحث المدقق. نجد هذه الصفات واضحة في كل مؤلفاته، القصيرة والطويلة، الهزلية والجدية، الأدبية والفلسفية. في “الرسائل الفارسية” (1721)، التي لم يكن أحد ينتظرها من قاضٍ وقور، و”التأملات في تاريخ الرومان/ أسباب النهوض والانهيار” (1734) التي لم تكن الأوساط الباريسية تتطلع إليها من مؤلف الكتاب السابق، وأخيرا “روح القوانين” (1748)، الكتاب الذي أثار إعجاب القراء خارج فرنسا وانتقادات كثيرة داخلها إلى حد أن كنسية روما أدرجته ضمن لائحة الكتب ـ المحظورة على الكاثوليك ـ وقضى “مونتسكيو” السنوات الثلاث الأخيرة من حياته يدافع عن مؤلفه. اشتهرت آراؤه أولاً في البلاد البروتستانتية. واعتبر الإنجليز أنه قدم أعمق تحليل لتقاليدهم السياسية غير المكتوبة، وأقوى دفاع عن الحرية في وجه الاستبداد. أما الفرنسيون، كغيرهم من الشعوب اللاتينية الكاثوليكية، فلم يصغوا إلى دعوته إلا بعد أن قامت الثورة وعكفوا على تحرير دستور جديد لهم. وكان “مونتسكيو” المعين الذي ارتوى من مياهه فقهاء القانون، مؤسسو علم الاجتماع، التاريخ المقارن ودعاة الليبرالية السياسية. يقول المدققون إن كتاب مونتسكيو كان مُتجاوزا حتى عند صدوره وهو اليوم متجاوزا أكثر بعد التّحولات التي طرأت على مناهج التاريخ أثناء القرن التاسع عشر. تجول المؤلف طويلا في إيطاليا، رأى بعينيه آثار الحضارة الرومانية التي بدأت تجمع، تصنف، وتدرس دراسة نقدية. ذكر نقشا واحدا، اتضح فيما بعد، لسوء حظه، أنه لم يكن أصليا، اعتمد فقط على الرواية التقليدية المكتوبة التي سينكب الباحثون في القرن اللاحق على تمحيصها وتفنيد أدق تفاصيلها. لكن العروي يتساءل: هل كان عنوان كتابه تاريخ روما؟ كان يستطيع أن يفعل مثل ماكيافلي، ويقول إنه يكتب حواشي وتعقيبات على ما ألفه القدماء عن الرومان، وعندئذ لم يكن من داعٍ للمؤاخذة. المعلومة والتحليل ما يهم “مونتسكيو”، برأي الدكتور العروي، وما يهم غير المتخصصين في الرومانيات من منظرين في العلوم السياسية، ليس دقة المعلومات بقدر ما هو عمق التحليل والقدرة على استخلاص العبر. ما يقوله عن سر الفتوحات العربية يظل موضوع استلهام مهما تراكمت المعلومات الجزئية حول الحدث، وكذلك ما يقوله عن خطر التوسع المفرط أو محاولة فرض وحدة العقدية. ويعتبر العروي أن تأملات مونتيسكو في كتابه هذا “جزء من مشروع أوسع تجسد لاحقا في كتاب روح القوانين. ماهي علاقات كل قانون أعلى (كل دستور، كل شريعة) بالعوامل الموجودة معه، المناخ، الاقتصاد، الأخلاق، الأعراف، الطقوس الدينية، الذهنية العامة إلخ.. تاريخ روما، شهادة الرومان على أنفسهم، هو أول مختبر يجرب فيه المؤلف صحة فرضياته في هذا المجال”. معلوم أنه أثناء مكوثه الطويل في انجلترا، حرر بحثا عن النظام السياسي البريطاني، بعد ذلك كتب التأملات، وفكر أن يطبع البحثين معا على اعتبار أن الإنجليز يحبون مقارنة أنفسهم بالرومان. ويضيف العروي: “لُبّ منهج “مونتسكيو” المقابلة والموازنة، وتظل العملية مشروعة مهما كان مستوى المعلومات حول الأشياء التي تراد مقارنتها. ويؤكد العروي أن هذا الاتجاه مُتجذر في مسيرة المؤلف في آفاقيته، في اقترانه بسيدة بروتستانتية، في انتمائه إلى منطقة متميزة وإلى طبقة النبلاء الجدد، في دراسته القانون الفرنسي الذي يمتزج فيه الإرث اللاتيني بالتقاليد الجرمانية، في تجواله بين أقطار أوروبا المتباينة المناخ والعقيدة، التنظيم والمعاش. في أول كتاب صدر له، “الرسائل الفارسية”، ذهب إلى أبعد مدى في هذا الاتجاه. ألّف الكاتب الفرنسي جان راسين “مأساة ميثريدات” ثم مسرحية “بايزيد”، ولا يوجد في العملين سمة واحدة تدل على خصوصية الإنسان المشرقي. الكلام كله يجري بحسب المعروف لدى المشاهد من معاصري لويس الرابع عشر. الأمر الذي يشهد على عجز الفنان الكلاسيكي ونفوره من معاكسة الموروث. تنطبق الملاحظة نفسها على الرحالة الأوروبي عندما يصف ما يشاهده في تركيا أو بلاد فارس. ثم يأتي مونتسكيو ويتقمص شخصية السائح الفارسي. هذه ثورة ذهنية قاطعة بكل معاني الكلمة. لم يقدم على مثلها فرنسي آخر إلا بعد مرور قرنين، عندما كتب أندريه مالرو رسائله الصينية تحت عنوان “إغراء الغرب”. يقول العروي “طبعا لم ينسلخ المؤلف عن “جلده”. منظور الرسائل الفارسية هو منظور “مونتسكيو” الآفاقي المُتسامي، عن جنسه وعقيدته وثقافته، وهذا التسامي ما كان ليحدث لولا التجارب والمؤهلات التي سقناها هنا”. السؤال: كيف؟ ولا ينفي الدكتور العروي ما يشاع أن “ماكيافيلي” يُقارن باستمرار بين النظامين الجمهوري والأميري، بين روما القديمة وإيطاليا الحديثة، بين الدويلات الإيطالية والممالك العظيمة الموحدة كفرنسا وإسبانيا، لكن همه الأول هو كيف تؤسس دولة لتدوم. سؤال عملي، سياسي في العمق، لا يلزم صاحبه التوسع في المقارنة. لا يعنيه كثيرا التنقيب عن أسباب التطور، النهوض، الانهيار. هدفه النصح المفيد المستوحي من تاريخ روما في أوج عظمتها. لذا يكتفي بتاريخ ملاحظات على العشرية الأولى من تاريخ تيت ـ ليف. أما ابن خلدون فهمّه المُعلن برأي الدكتور عبد الله العروي هو كيف تمحص الأخبار. قد ينتهي الناظر في أحداث التاريخ إلى الاتعاظ، إلى استخلاص العِبر، الأمر الذي يشير إلى عنوان الكتاب الذي يأتي بعد المقدمة. لكن المؤلف لم يعد في حاجة إلى استفادة. لقد جرب وفشل، كل ما يصبو إليه هو أن يوضح لغيره سبيل الاستفادة، وذلك بتلقينه طرق النظر والتمحيص. إذا كان ماكيافلي يُنظّر لمخططي السياسة العملية، فابن خلدون يمهِّد للسوسيولوجيا كعلم مساعد لقراءة التاريخ. يقول “مونتسكيو” إن أسباب نهوض روما هي نفسها التي أدّت إلى الخلل والانحطاط ثم الانهيار، أسباب عائدة إلى التشريع، التربية، رعاية الأعراف، تدبير المعاش، رسم الضرائب، تعبئة الجيش إلخ.. أعمال يقوم بها البشر في ظروف خارجة عن إرادتهم. يقول إن الجمهورية لو لم تمت على يد يوليوس قيصر لماتت على يد زعيم آخر يتصف بأوصاف قيصر. يقول إن جيش هنيبعل لو لم ينحل في قصور “كابو” لانحل في قصور أي مدينة غير “كابو”، يقول إن العرب كانوا مؤهلين لتأسيس دولة خاصة بهم على أنقاض دولتي الفرس والرومان متى سنحت الفرصة. يدعي بعض المعلقين أن حتمية “مونتسكيو” لا تعني التوكل والاستسلام. تظل المسألة غامضة، ما لم توضع في إطار المقارنة مع “ماكيافلي” وابن خلدون. أيهم أكثر إيمانا بالجبرية؟ ويرى العروي أن هدف ماكيافلي هو تأسيس دولة، ابتداء أو استئنافا، كان لزاما عليه أن يقلل من أثر الحظ، تاركا بعض المجال للعامل البشري، لذا قال بالمناصفة. في كل عمل تتحكم الإرادة البشرية في نصف النتيجة، ويظل النصف الآخر موكولا إلى الحظ، لكن بما أن المبادرة دائما بيد البشر، فلا بد في الختام من أن يستجيب القدر، كما يقول الشاعر. واضح إذا أن وطأة الحتمية أخفّ عند “ماكيافلي” منها عند “مونتسكيو”. ونجد في الكتاب خرائط خلال حقب مختلفة، إضافة إلى قائمة المراجع التي اعتمدها “مونتسكيو”، وأسماء ملوك روما، وقياصرتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©