الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجاوز الغرابة بالتحايل اللغوي

تجاوز الغرابة بالتحايل اللغوي
4 ديسمبر 2013 19:24
تُزاوِج مجموعتا سلطان العميمي القصصيتان: “الصفحة 79 من ذكراتي” (2011) و”تفاحة الدخول إلى الجنة” (2012)، بين القصة القصيرة جداً والقصة/ الاسكتش أو ما أسميه القصة/ الومضة، لا كما تُوصَّف ـ عادةً ـ أنها قصص قصيرة وقصيرة جداً، ولاسيما إن اعتمدنا المفهوم الغربي للقصة القصيرة، لا ما اعتاده كثير من الكتاب والنقاد عربياً، فالأول ينضوي على امتداد أطول للشريط السردي. وتنفتح عوالم القصص على ثيمات متعددة، تتلاقى عامة في مشاعر الخيبة، وبخاصة خيبة العاشق، وأحاسيس انعدام الأمل، المرتبطة بتعقيدات المجتمع الحديث، وما ترتب على الفرد فيه من مآلات الاغتراب والتهميش والتضليل. لكن العميمي لا يلجأ إلى التعمية أو الإبهام في تعبيره، كما يفعل بعض الكتاب، ليعكس واقعاً غير مفهوم، وإنما يلامس الغرابة والإغماض بنوع من التحايل اللغوي أحياناً، والمفارقة اللفظية ومفارقة الحدث في أبسط صورهما، مراقصاً بهما المعنى، كأنما يريد صفعنا بحقيقة ما يعبر عنه أو كأن الظانَّ حسنَ الظن وسيئَه؛ مصيبَه ومخطئَه، سيّان في نهاية المطاف. ولعل ثيمة الموت أعلى الثيمات نبرةً في قصص المجموعتين، سواء أكان موتاً مادياً ملموساً أو مجازياً كما يفهم من بعض قصص الومضة، يقول مثلاً في إحداها وهي بعنوان “صد.. مات”: “كان يتحمل الصدمات، لكنه لكثرة الصَّد.. مات!” (تفاحة الدخول: ص9)، فهو يتلاعب هنا ـ لغةً ـ بصيغة الجمع: “صدمات” فيشرخها من النصف، ليجعلها معبرةً بكثافة عن السبب والنتيجة، ولا يهم إن كان الموت نفسياً أو فيزيائياً، فالنتيجة واحدة. ويبدو الموت أسطورياً، أو مرتبطاً بالحكاية الخرافية، في قصةٍ/ ومضة، كـ” قلم”، فهو ينضوي على نوع من التحول، يذكِّرنا بتحول ناي جلال الدين الرومي، وأنينه الحانِّ إلى أصله فرعاً في شجرة، نقرأ: “قلَّمت الأشجار في حديقتها.. إلا أنا، طال جذعي مقصُّها. فقطعتني تماماً.. حزنتُ.. ثم.. فرِحت عندما حوّلتني إلى قلم لها.. وفي المساء، كَتَبَت بي إلى حبيبها رسالة غرامية!” (الصفحة 79: ص45). إن الموت هنا موتان؛ مادي متعلق بالقطع، ومعنوي متعلق بالهجر، وكأنما ينفي العميمي إمكانية العودة أو الرجوع إلى الأصل مرتين. ويخترم الموت قصة “السنطوانة”، فتبدو مدججة به، فأبوشافي، الملقب بالسنطوانة لطول قامته، حفار قبور ومُغسِّل موتى، وهو آت إلى القرية من مكان مجهول، ويسكن في بيت قديم لرجل مُتوفى، ويخبره جاسم؛ الطارق على بابه بهدف تعلم القراءة والكتابة، بنفوق ماشيته، ويحاول السنطوانة التحايل عليه وإقناعه بأنه مسحور، وأنه قادر على إبطال السحر ودفع كيد غرمائه عوض تعليمه، كما يفعل مع أطفال القرية، وبذا يتحصل السنطوانة على بقرتين هما ما تبقى من ماشية جاسم، وفي اليوم الموعود لإبطال السحر، تمر جنازة السنطوانة أمامه والناس تشيعه من المسجد. ما يلفت الانتباه في هذه القصة أمرٌ يكاد يغلب على الطبيعة التي يُصوَّر بها الموت في جلِّ قصص العميمي، فهو موت أليف يقرب إلى الحدث العابر، ويكاد يكون مضحكاً. ولعل الطريقة التي تحدث بها السنطوانة عنه، تكون دليلنا على ذلك، نقرأ: “ دعني أخبرك بحادثة طريفة وقعت لي.. ذات مرة قَدِم إلى القرية التي كنت أعمل بها رجل طويل، في مثل طولي تقريباً، وكان قادماً للعلاج بعد أن سمع عن مهارة طبيب قريتنا، لكنه لم يستفد من علاجه ومات. وعندما أردنا دفنه، لم نجد نعشاً يضم جثته الطويلة، فاضطررنا إلى حمله على النعش، ورجلاه من أسفل فخذيه متدليتان إلى الخارج” (الصفحة 79: ص18). يشبه منطق السنطوانة في الحكاية السابقة، منطق بروكوست؛ قاطع الطريق وزعيم العصابة في الأسطورة اليونانية، الذي كان يمدد ضحاياه على سرير، فإن قَصُرت ساقا الواحد فيهم شدهما بالأثقال حتى تطولا، وإن طالتا فإنه لا يتورع عن بترهما. وعلى الرغم من أن السنطوانة لا يبتر ساقي المتوفى حقيقة، فإنه يكاد يحدِّث نفسه بذلك، فليس لقدسية الموت مكان عنده، وهو ينظر إلى الموت نظرة خارجية أقرب إلى النزوع الظاهراتي البحت، المغلف بحس السخرية العالي. إن الموت لا يستوقف السنطوانة وإنما مفارقة طول الساقين، وبالمنطق ذاته يتعامل سارد العميمي مع موت السنطوانة، حين تتدلى ساقاه خارج النعش في نهاية القصة. وبالمنطق ذاته يتعامل أبو سيف؛ حارس المقبرة في قصة “قبور” (الصفحة 79: ص59) مع الموت، ذلك أنه يسأل الطارق أبا فتحي أول ما يسأله عن الميت: “هل المرحوم طويل أم قصير”(ص: 60)، وعندما يتبين مُرادَ أبي فتحي، وهو نبش القبور بحثاً عن كنز، يرفض في البداية، ثم لا يلبث أن يبحث عنه ليُتم مخطط النبش بعد أن أمهلته الحكومة شهرين ليترك المكان، فهي تنوي إزالة القبور، وإمرار طريق محلها. إن زيف الخطاب، الذي يرفض أبو سيف عبره نبش القبور في البداية، يتساوق مع فهمنا لحقيقة الموت وفق منطق الشخصية، فحرمة الموت المُتحجَّج بها ظرفية وزائفة، ومن هنا تبزغ المفارقة، وليس من دليل على ذلك أعظم من التلويح بالمال، أو التهديد بفقد المنزل. وفي قصة “ركض بعيداً” (الصفحة 79: ص7) تُشرف الشخصية الرئيسة على الموت، بعد أن تصدمها سيارة مسرعة، وينفلت ظل الشخصية بعيداً عنها، وكأنه يفلت إفلاتاً نهائياً من تبعيته لها. ويبدو انشطار الذات، أو مثنويتها، عائدين بصورة أساسية إلى حادثة كابوسية يهبط فيها نور من السماء لينزع منه شيئاً، ثم يصعد به. وغني عن الذكر ما تلمح إليه هذه الحادثة من أبعاد دينية، ترتبط بالسيرة النبوية، بيد أنها تأتي هنا لتمارس نقيض استخلاص الجانب الشيطاني من الراوي، إنها تنزع منه اتزانه العقلي، وانسجامه مع ذاته، التي تبدو منشطرة فيما يتلو من أحداث، وينتصر الجانب المظلم في الشخصية متمثلاً في ظلها، الذي يركض بعيداً عنها، ويختفي. ويتخذ الموت صيغة انتظارية، عبر إطالة الزمن النفسي للسقوط من أعلى جسر، في قصة “سقوط” (تفاحة الدخول: ص21): “كان يهوي منذ أيام ولا يزال”. وفي أثناء السقوط، يسترجع الراوي أحداثاً من ماضيه، ويتمنى ألا يرتطم وهو يهوي بطرف حاد، أو ينزل على رأسه فينزف كثيراً، ذلك أنه يريد أن يموت كمن يقضي وهو نائم؛ يريد موتاً حالماً دون ألم، وكأنما تداخل حلم السقوط النموذجي مثلما يؤوله التحليل النفسي (الدال على انعدام الأمان) بخوف الراوي من فقد أمه، وقلقه من الإخفاق في الاختبار الجامعي. إن التخفف من حدث جلل كالموت، تتيحه ازدواجية أن الراوي يقبع داخل حلمه المزعج، في حين يستطيع القارئ إدراك أن ما يراه الراوي ليس سوى كابوس، ما يلبث أن يصحو منه. وتستعيد قصة “ورقة وحجر” (تفاحة الدخول: ص49) نغمة الحب الخائب، فنرى الراوي، الذي تحجرت عواطفه، يعبر عن مآله في مفتتح القصة، قائلاً: “سنوات مرت على موت أحدنا.. كم بالضبط؟”، ويستفيض في الحديث عن ميكانيكية أفعاله، وانعدام الروح فيه، بعد انقطاع العلاقة، وكأن لسان حاله يرجِّع ما قاله تميم بن مقبل: “ليت الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم”. إن موت الراوي هنا يعبر عن انتفاء معنى الحياة الحقيقي، فالذاكرة لا تلقي إلا بأسئلة لا جواب لها، والنسيان يملأ الذاكرة بعبث ما بعد الفراق، والسقوط من جنة الماضي لم يُستتبع بحياة جديدة تنفي القديمة، مثلما هبط أبوانا آدم وحواء، ليعمرا الأرض. ويختار راوي قصة “الأشياء صغيرة من أعلى” (تفاحة الدخول: ص71) المكان الذي سينتحر منه بدقة، فهو برج قريب من بيت حبيبته سلمى، التي رفضه أبوها عندما طلبها للزواج، وحين يلقي بنفسه منتحراً يلمح في منتصف سقوطه صديقه الثري “نمر” يحتضن سلمى في الفناء الخلفي للمنزل. لا أظن أن مقصد العميمي توقف في هذه القصة عند معنى الخيانة؛ خيانة الصديق والحبيبة، فهو يريد لمفارقته أن تضحك القارئ أكثر من أن تحزنه، إنه يحمِّل الراوي تبعات موته، ويكاد يقول له: كم أنت غبي. وبعد، فليس الموت في قصص العميمي، على ما تبدو عليه من بساطة، سوى استلهام حقيقي لإدراك الإنسان الحديث عقم الحياة، لذا فإنه أقرب إلى الموت العضوي، الذي يبدو اعتيادياً بتكراريته، ومجانياً دون فجائعية أو لغط كبيرين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©