الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نساء وأمكنة

نساء وأمكنة
4 ديسمبر 2013 19:26
غالباً ما تتفيأ الروايات العربية والخليجية أمكنة داخلية أو محلية خاصة بالمجتمع الذي تنتمي إليه الروائية أو الكاتبة، إلا أن هذا لا يعني عدم خروج أحداث عدد من الروايات بعيداً عن الأمكنة المحلية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتسريد شخصية المرأة المهاجرة أو المسافرة عن وطنها. في هذه الدراسة سنتناول صورة المرأة الخليجية المسافرة عن وطنها في نصين روائيين خليجيين لهدى عواجي من البحرين، ولبشائر محمد من السعودية، ونلمح إلى بعض ما كتبته سمر المقرن وبدرية البشر من السعودية في هذا المجال. تأخذنا الروائية البحرينية هدى عواجي في روايتها “إغواء امرأة” (2008) إلى فضاءات الرواية الخليجية العابرة للمكان؛ فجل أحداثها تجري خارج المنطقة الخليجية، بل والعربية أيضاً. كما أن الشخصيات المشاركة في الرواية لم تنتم إلى مكانية عربية محلية واحدة إنما متعدِّدة؛ ذلك أن “ياسمين”، بنت الثامنة والعشرين ربيعاً، هي أميرة خليجية مطلَّقة من البحرين و”ابنة أحد كبار الشخصيات المرموقة” (ص 23)، وتدرس في لندن. أما “فارس”، فهو مثقَّف سعودي في الثامنة والأربعين من عمره، كان قد تغرَّب عن وطنه بسبب تكفيره بين أهله كونه ليبراليا/ ماركسياً، ليعمل في تجارة السلاح ضمن عمله كـ “جاسوس وطني” لبلاده، وهو ما ستكشف عنه الرواية في آخر أحداثها (ص 89). تجربة «ياسمين» تبدو “ياسمين” بطلة راوية “إغواء امرأة” مطلَّقة، وتدرس في إحدى جامعات الغرب، بينما “فارس” شاعر وكاتب يساري، ومناضل ثوري، وتاجر ثري، وجاسوس وطني يقع في حب “ياسمين” الشابة اليافعة التي تصغره بعشرين عاماً. على أن الرواية كلها تصب في نسج علاقة الحب هذه، وفي الوقت ذاته تكشف، بقدر ما تكرِّس، عن معطيات موضوعاتية متعددة منها ما يتعلَّق بشخصية المثقَّف اليساري الثوري “الشاعر” الذي قُمعَ وكُفِّر في وطنه ليعيش بالغرب الليبرالي، ومنها ما يتعلَّق بشخصية المرأة العربية الخليجية المطلَّقة التي تهاجر إلى الغرب بحثاً عن بؤر تعويض وخلاص من تجربة الزواج الفاشلة، ومنها أيضاً تجربة الحب في المنافي التي تعيشها المرأة الخليجية مع الرجل الخليجي المغترب. هدى عواجي كمؤلِّفة، هي الراوية الضمنية في سردية النَّص، لكنَّها لا تحتكر عملية الروي، إنما تمنح بطلها “فارس” فرصة ليشاركها فيها، كذلك تمنح “ياسمين” نفسها الدور السردي ذاته، لكن ياسمين تأخذ بزمام الروي بداية لتكشف عن الأحداث ووصف الأمكنة والتنقلات فيها، وتقديم لوحدات مرئية ونفسية وسلوكية عن فارس، وهي بذلك راوية فاعلة، بينما يضطلع فارس بدور الراوي أيضاً عندما يقدِّم تمثيلات مرئية عن جسديَّة ياسمين، وتشخيصات كينونية عن ذاتها وكيانها النفسيَين، وعن مجرى حياتها في الرواية، لكن تبقى هدى عواجي، في نهاية المطاف، هي النّاص الكلي في سردية روايتها «إغواء امرأة». في أحد فنادق مدينة “برايتون” (البريطانية) الذي تلامس أطرافه شواطئ بحر المدينة، كانت ياسمين قد التقت بفارس ليمضيا معاً في قصة حب ستكشف يومياتها عن تمثيلات بينية متبادلة ومتداخلة، وفي خلالها ستتبلور التمثيلات الخاصة بصورة المرأة الخليجية خارج وطنها، وهو نمط متخيَّل جربته بعض الروائيات الخليجيات مثل سمر المقرن في روايتها “نساء المنكر” (2008) عندما رسمت شخصية “سارة” تلك الفتاة السُّعودية التي رحلت عن وطنها إلى “لندن” للقاء حبيبها “رئيف” الذي عاشت معه ليال عدة، ولا يكاد الأمر ليختلف مع شخصية “عناب” الفتاة السُّعودية السمراء التي تعرضت وهي بنت الربيع العاشر ونيف من عمرها إلى عملية اغتصاب من جانب سيد القصر الذي تعمل فيه والدتها، ومن ثم تزوجت من يمني رحل عنها، وراحت إلى جنيف لـ”تلتقي” هناك مع سعوديين آخرين. وفي هاتين التجربتين، وغيرهما بالطبع، أبدت الروائيات الخليجيات تمثيلات هائلة تتعلق ببرامج الغواية الأُنثوية الخليجية خارج الوطن، ومنها تجربة “ياسمين”، المرأة البحرينية المطلقة خلعاً، في رواية هدى عواجي “إغواء امرأة” التي تدرس في لندن، وتذهب إلى ساحل مدينة “برايتون” للقاء حبيبها “فارس”. منحت هدى عواجي بطل روايتها مبادرة الكشف عن المستور في شخصية بطلتها عبر تشخيصه، مرةً، لعلامة حزن هيمنت على وجه ياسمين فراح يستنطق دواخل علامة الحزن قائلاً: “ما بك حزينة رغم الابتسامة التي تملأ وجهك؟” (ص 11). وكان هذا السؤال قد كرَّس أول وحدة تمثيلية خاصة بياسمين كامرأة؛ بل كان “السؤال” الذي ضاعف من جرعة حزنها، وفتح لديها والمتلقِّي/ القارئ مكنونات هذه الشخصية الأُنثوية. وفي ضوء هذه المعطيات، تبدو صورة المرأة العربية واضحة المعالم في مخيال الكاتبة، وهي صورة لا تفارق ذات بطلتها ياسمين التي تقول: “رواسب المرأة العربية متمسِّكة بي، لا تطلق عفويتي، إحساسٌ يتجوَّل بين الحين والآخر يذكِّرني به” (ص 13). لكنّها لا تريد أن تكون أسيرة لهكذا إحساس “فلا بد من التحايل” (ص 13) للانطلاق صوب حياة غرامها مع فارس، وعندها سيتخذ تمثيل المؤلفة لأنموذج المرأة، كما يتجلى في شخصية “ياسمين”، مغايراً؛ فياسمين لم تعد المرأة المقهورة، إنما المرأة التي تمارس حريتها كما تريد مع الرجل المأمول، وتحت سقف الحب وإرادة الاختيار، ذلك أن التقاليد والأعراف التي مورست عليها وعلى فارس في مدن الرمل والبحر الخليجية ستتحطَّم وتتوارى خلف إرادة الحب الحر التي كان منها اللقاءات المنظمة بين الطرفين، ومن ثم النوم في سرير واحد، وتقديم خاتم الزواج بعد ليلة عرس بعيدة عن تقاليد الخطوبة وموافقة الأهل. في خلال ذلك، وعلى طريقة Flashback، تعود ياسمين، وهي الراوية، إلى الماضي لتقص حياتها في وطنها حتى ليبدو ذلك الماضي، بما فيه من أحداث، مرجعاً للقهر الاجتماعي والأسري الذي كانت تعاني منه ياسمين، وهو القهر الذي كانت و”الدة” ياسمين أحد أسبابه الرئيسة مما دفع والدها إلى إرسالها إلى الولايات المتحدة الأميركية للدراسة؛ فـ “فكرة الهروب من القصر كانت تدخل بعض السعادة على قلبي” (ص 51). وبعد أن عادت إلى قصر أسرتها ما كانت الأمور قد تغيرت نحو الأفضل، ففكَّرتُ بمهرب آخر، وكان الزواج هذه المرَّة من شاب عربي، لكن هذا الزواج “الفاشل كان هروباً من القصر، هروباً من القيود التي لازمتني طيلة هذه السنين. لم يكن زواجي سوى انتقال من زنزانة إلى أخرى؛ إنه المشي في الظلام، كأي زيجة عربية يجب أن أكون جارية وخادمة” (ص 52). لم تكتف ياسمين بذلك فقط، إنما راحت تقدِّم مجموعة من الصور التذكُّرية عن حياتها مع الرجل العربي الذي تزوجته كمهرب من قصر الأهل حيث قمع الوالدة وسطوة التقاليد بعد أن درست بالغرب الأميركي، وذاقت طعم الحرية هناك. إن الهروب من الزوج الخليجي عوضته ياسمين بالهروب من الوطن شطر الغرب البريطاني حيث الدراسة والحرية، والأهم من ذلك الحب مع فارس الأحلام الجديد. تقول ياسمين: “وجهه الجميل وشعره الكثيف يهبانه وسامة فيزيدني ذلك عشقاً.. أمسكَ يديَّ.. ازدادت نبضات قلبي غناءً، وارتعشت فرائصي. رقصت الروح لحظة كان فيها القمر نائماً على ضوء النجوم الخافت، شعرتُ بالسكينة التي لم اعتد عليها، فهمس في أذني: هل تشعرين بالبرد؟ نعم! لكن بداخلي نار تشتعل. طوّقني بذراعيه، شعرتُ بدفء صدره، بدقات قلبه وهي تعزف على وتر إحساسي، قبَّل جبيني..” (ص 16). تكشف حدثية هذا النَّص عن أول تواصلية تمثيل إغوائي اندفعت فيها ياسمين إلى عيش لحظة الاشتهاء. ومن جانبه، تبادل فارس الدور فتحوَّل إلى فاعل مرسِل، وياسمين إلى مفعول مرسَل إليه عندما لعب، فارس، على العامل الصوتي في إذكاء التوتر وهو العليم بحال التوتر وحال الهياج الذين يهيمنان على ياسمين في تلك اللحظة فبادرها بالسؤال فيما إذا كانت تشعر بالبرد وهو يعرف أن ارتعاش جسد ياسمين سببه خوفها من اللحظة المعاشة وهي بين يديه فكأننا به يريد أن يحول ما في داخل ياسمين من هياج ساخن إلى مستوى التلفُّظ الفعلي أي لفظ الشعور والإحساس الداخليان بلسان ياسمين ليتحققا كإمكانية يتوجب عليه التعامل معها بما يجعلها مشخصة كفعل له علاماته الواضحة وهو ما نجده في رد ياسمين على سؤاله: “نعم.. لكن بداخلي نار تشتعل”. لقد أوكلت الناصَّة (هدى عواجي) مهمة إزالة الضبابية التي تكتنف ذات ياسمين، أوكلتها إلى فارس الذي لعب على العنصر الصوتي الأكثر تأثيراً في تثوير لحظات نادرة كلحظات التوتر التي تعيشها ياسمين وهي بين يدي معشوقها/ عاشقها فارس. إنَّ وظيفة جلاء الغموض تبدو مهمة مبرمجة من جانب فارس لتحقيق حالة التماهي بين العاشقّين، ولذلك كان يهمس بأذنيها بما يوحي بذلك التماهي عندما يدعوها إلى التعرُّف إلى الظلال الداخلية “تأمَّلي جيداً في ظلالنا الداخلية”، وإلى أصداء بؤرة الحب “يمكنكِ أن تنصتي لبؤرة الحب، فنحن لا نراها، ولكن نسمع أصداؤها”، وإلى غناء الأحاسيس “كي نسمع غناء أحاسيسنا”. وفي ظل تلك الخلوة الشاعرية التي بادر فارس بسردها قائلاً: “ابتسامتها تطالبني بالمكوث بين خلايا جسدها، أمسكتها كعصفورة، أخذتُ خطوة إلى الخلف خوفاً عليها لا منها، لا أريد أن أخدش حياءها، أريدها عذراء كما كانت” (ص 24). وأيضاً: “كان شهراً من العسل برغم إنها أربع وعشرون ساعة فقط” (ص 31). هذا ما قاله فارس بعد أن نام مع ياسمين لمرتين “ابتسمتْ فوهبتني إكسير الحياة من جديد” (ص 30). وبذلك أخرج هذا المثقَّف العلماني الماركسي العاشق، مشتركات الرغبة لديه وياسمين من حيز القوة إلى حيز الفعل بلغة الفلاسفة القدماء، وبذلك تحوَّلت ياسمين، وهي ابنة الثري البحريني المتحضِّر، إلى امرأة خليجية وُطئت من طرف رجل سعودي من أصول بدوية كفَّرته قبيلته بسبب علمانيته الماركسية وطلَّقته من زوجته وهو الأب لولد منها لم يره. ..وتجربة «ملاك» يلعب الباعث الذكوري دوراً مركزياً في تمثيلات الروائية السُّعودية بشائر محمَّد في روايتها “ثمن الشوكولاتة” (2007)؛ فعلى رغم أنها تهدي عملها السَّردي هذا إلى بطلة الرواية “ملاك” التي تقول لها بما يشبه الرثاء الأُنثوي: “صديقتي التي تركت هذا الأرق مغسولاً في أوراقها الصفراء ورحلت”، على رغم ذلك، تشرع ملاك، وهي الراوية في النَّص، وصوت بشائر محمَّد الضِّمني بوصفها ناصَّة، تشرع بالدخول إلى برامج الرواية السَّردية عبر الكتابة المباشرة إلى رجل فتخاطبه ساردةً: “شعرتُ بنظراتكَ تتجهُ نحوي.. تخترقُ جسدي” (ص 7)، هذه الكتابة ستتحوَّل في فصلها الأول إلى خطاب موجَّه إلى ذلك الرجل يفضح عوالم الذكورة وهي تمارس فصول اللعب الغرامي والجنسي. كما هو شأن بعض الروايات الخليجية، تبدأ “ثمن الشوكولاتة” أحداثها خارج الوطن السُّعودي؛ تبدأ من القاهرة بمصر عندما كانت ملاك، المرأة السُّعودية المطلقة التي أخذ طليقها ولدها وابنتها عنها (ص 35)، برفقة صديقتيها؛ “منال” و”ميساء”، في “فندق ماريوت بالقاهرة” (ص 7) ليبدأ التواصل الموضوعي بين ذوات أنثوية سعودية قادمة إلى القاهرة لغرض السياحة والاستجمام أو لغرض “الكسب والمتعة والمغامرة” (ص 11)، وبين ذوات ذكورية أخرى، لينفرط، ذلك التواصل، بين ملاك وأحد الأثرياء السُّعوديين وهو “خالد عبد الله” الذي قدَّم دعوة إلى ملاك لحضور حفل الفنان السُّعودي “محمَّد عبده”، فتوافق ملاك على الدعوة، ويذهبان معاً إلى الحفل لتبدأ التمثيلات المتبادلة بين الطرفين. لقد أفرزت هذه العلاقة التواصلية بين ملاك وخالد عن جملة من التمثيلات المتبادلة، الذاتية والجسديَّة، بين الطرفين اللذين التقيا على غير موعد في صالة “فندق ماريوت” بالقاهرة، ومن ثم في قاعة الحفل، وبالتالي في غرفة خالد عبد الله لمرّات عدَّة. وقبل أن نتطرَّق إلى هذه التمثيلات تحليلاً، لا بدَّ من النظر في تمثيلات ملاك القبلية أو المسبقة لذاتها ولجسديتها: أولاً: ملاك كـ “ذات”، وفيه نجد الوحدات القرائية الآتية: 1. “أضعف كثيراً أمام النقود والمجوهرات والذهب” (ص 16). 2. “لا زلتُ، ومنذ مراحل دراستي الأولى، أعرفُ المبادئ والمواقف والمثُل، لكني أجدها أموراً نظرية فقط تطبيقها أمر في غاية الصعوبة وشيء لا فائدة منه” (ص 16). 3. “إنني جئتُ إلى هنا لأختبر أنوثتي الطاغية أمام رجال ليسوا كالرجال جاهاً ومالاً ومهابة، لا لشيء إلا لعقدةٍ التصقت بي، واكتشفتها مؤخراً؛ فلا يرضي غروري سوى تهافت الرجال عند أقدامي، مقدِّمين فروض الحب عشقاً ومالاً وذهباً” (ص 16). ثانياً: ملاك كـ «جسد»: تعود الناصَّة إلى جسديَّة ملاك أو بالأحرى تعود إلى أنوثة “ملاك الطاغية”، وإلى مفردات هذه الأنوثة الجسديَّة، وتدخلها في تسريد علاماتي، لنقرأ ما قالته ملاك عن جسدها وصفاً: “تنبَّهتُ إلى ما أملكهُ من جمال رباني لا يد لي فيه، فسعيتُ إلى استغلاله والاهتمام به؛ ثيابي احتضنتني بصعوبة بالغة، وشَعري البني الطويل بتموجاته المجنونة يداعبُ ظهري المتواري حياءً خلف قميص حريري أبيض يكشفُ أكثر مما يستر!” (ص 7). تبدو عبارة “تنبَّهتُ إلى ما أملكهُ من جمال..” كما لو كانت دعوة للقارئ لكي يدخل في تواصل مع جسدي ملاك التي حصرت توصيف علاماتها بها وحدها، وهي الجسدية التي تكشف عن أربع من علاماتها هي: الجمال الكلي “جمال رباني”. والجسد الأُنثوي المرصوص بالكينونة اللحمية الغاوية التي استعانت الناصَّة بالثياب كدوال جسديّة للكشف عن قيمة الإثارة فيه “ثيابي احتضنتني بصعوبة بالغة”، ما يعني أن ملاك اختارت الثياب الضيقة والملتصقة على ثنايا جسدها لتحقيق الإغواء والإغراء في اللحظة التي تريد من الآخرين التواصل معها. وهناك علامة ثالثة تتعلق بالشَّعر؛ فشَعر ملاك بُني اللون وطويل ومتموِّج الشَّكل. من ناحية أخرى، كشف عملية التواصل بين الطرفين عن مواقف معينة حرصت بشائر محمَّد على تسريدها لما لها من أثر في طبيعة الهوية الثقافية للذوات، والكيفية التي ينظر بها أحدهم إلى الآخر؛ فالبون الطبقي من حيث الثراء المالي كبير بين ملاك وخالد، ولذلك تستبطن ملاك نظرة طبقيَّة حادَّة شطر خالد، كما يرد في الصفحة 11 من المتن النصي للحكاية. مع هذا الكره الطبقي، كره الأنوثة متوسطة الدخل للذكورة المتمادية في ثرائها المالي، نرى في شخصية ملاك، وكما ترسمها لنا بشائر محمَّد في “ثمن الشوكولاتة”، أنها تندفع إلى وسط فريستها الذكورية أيضاً؛ فهي مصرّة على أنها بإزاء “فرصة رائعة للكسب والمتعة والمغامرة”. ورغم أنها تأخذ على خالد عبد الله وأمثاله أنهم يعبثون بشرف النساء تحت مسميات وصولية عديدة، إلا أنها لم تتردَّد في الارتماء أو الدخول في جحيم مثل هذه الذكورة الفاسدة: “في اليوم الموعود كنتُ أعدُّ نفسي لدخول جحيمكَ مدجَّجة بكل أسلحتي الأُنثوية!” (ص 11). ورغم أنها ترى في خالد وأمثاله أنهم “من ذوي المال والجاه والثراء اللذين يجيدون تغميس لقيمات الذُّل في إناء التفضيل”، ورغم أن خالداً كان متمرِّساً في إعادة ملاك إلى “حظيرة الدونية” (ص 18)، رغم كل ذلك، نجد أن ملاك هذه كانت تمازجه وتضاحكه وتراقصه طويلاً (اُنظر ص 18) في لياليهما معاً حتى افتراقهما! أما خالد، فيحفل إعجابه بملاك بالكثير من العلامات التواصلية التي حرصت الناصَّة على جعل عملية تسريدها محصورة بـ “ملاك” فهي بمثابة الراوية العليمة في البرنامج السَّردي الخاص بمدار (Topic) علاقتها المتبادلة مع خالد. ما هو لافت في طبيعة السَّرد بهذه الرواية أن الساردة أو الراوية تخاطب خالد مباشرة، تكتب له تجربتها معه “شعرتُ بنظراتك تتجه نحوي” (ص 6)، و”كأنَّكَ من نظرة واحدة قرأتني، وعرفتَ ميولي ورغباتي” (ص 9)، وهلم جرا. وهذا يعني أن كل ما يمكن تحليله بشأن تمثيلات خالد لكينونة ملاك، ومنذ البداية، تخبرنا بها ملاك كراوية وحيدة للحدث أينما سار ومضى وتوقف. وبعد أيام قلائل لتنفض اللقاءات بينهما، عادت ملاك إلى الأحساء، اتصلَ بها هاتفياً يطلب منها العودة ثانية إلى القاهرة لشوق اجتاحه، لكنها تململت، بل شكَّت في حبه لها: “يا إلهي.. هل أحبني بالفعل؟ لستُ متأكدة، ولكني متأكدة من شيء واحد هو أنني لا أشعرُ بالحب تجاه حتى الآن وإن كنتُ استلطفه، فلم تعد مشاعري تخدعني بسهولة، بتُّ أعرفها جيداً؛ أنا أحب نفسي فقط، حسبت علاقتي به من ناحية المادَّة والمتعة والتسلية فقط كانت رابحة، لا شيء سوى هذا!!” (ص 34). علاقات غريبة في الواقع، ما أرادت لبطلة الرواية “ياسمين” أن تتحوَّل فقط إلى امرأة خليجية تجرب الغرام بلغة الخلاعة خارج وطنها، وإن كانت ما فعلته مع فارس هو دعارة ضمن مقاييس معتادة، كما هو حال ما فعلته “سارة” مع “رئيف” في لندن من “لقاءات” مدفوعة برغبة عشقية عارمة على أمل الزواج من رئيف تالياً في رواية سمر المقرن “نساء المنكر”. وأيضاً حال “سلوى العبهر” مع “سلطان العاجي” في رواية “الأرجوحة” لبدرية البشر؛ “سلوى” التي جاءت جنيف قادمة من الرياض للقاء فارسها الوسيم، وزوجها السابق “سلطان العاجي”. وكذلك حال “عنّاب” في جنيف أيضاً، والتي تمادت علاقات بعيدة عن لغة الحب والزواج، وهي التي تفتخر أن في حقيبتها الكثير من الشباب السُّعوديين الذين يمكن أن تلتقيهم معهم متما شاءت (7). لقد عاجلت الناصَّة بتزويج ياسمين من فارس لتمضي متوالية الأفعال في البرنامج الحكائي للرواية قُدماً، وتولد ياسمين طفلتها “موج” من فارس. وهنا تتضح المتواليات المتقاطعة في برامج هذه الروايات السَّردية؛ فتجربة العلاقات التي شرعت بها ياسمين انتهت بالزواج القلِق من فارس، بينما جاءت الممارسة ذاتها بين سلوى وسلطان في جنيف بعد طلاقهما، في حين انتهت تجربة سارة مع رئيف إلى مأساة نتج عنها تخلي رئيف المأسوي في نهاية المطاف عن طريحة فراشه اللندني. أما ملاك فتعرَّفت إلى خالد عبد الله صدفة بالقاهرة لتسهر معه لكنها تستبطن موقفاً عدائياً لذكورته الطبقية كما رأينا ذلك لتتركه وتود إلى الأحساء حيث نعيش مع والدتها. لم تكن تجارب “عنّاب” الغرامية في جنيف سوى تكريس للضياع الذي يستبطن ذاتها جرّاء ما عاشته من مآس منذ أن تم اغتصابها وهي بنت العاشرة من عمرها، ومنذ أن تزوَّجت من “عبده” السائق اليمني، العاجز جنسياً بسبب إدامته تناول القات، واكتشافه أنه تزوَّج من عبدة موطوءة من جانب سيدها.... في حين يبدو لي أن تجربة ملاك الغرامية في القاهرة مع الثري السُّعودي خالد عبد الله، لا تختلف عن كل هذه التجارب الأخرى، فهي تكريس من نمط آخر للضياع الذي استبطن ذاتها وهي المرأة المطلَّقة التي دفعتها صروف الدهر إلى البحث عن المتعة والتسلية والمال والمادة مع رجال عدَّة، وهو الخطاب الذي اتضحت معالمه في بنية السَّرد السَّطحية في الرواية على نحو جليٍّ. ? ? مع هذا الكره الطبقي كره الأنوثة متوسطة الدخل للذكورة المتمادية في ثرائها المالي نرى في شخصية ملاك وكما ترسمها لنا بشائر محمَّد في «ثمن الشوكولاتة» أنها تندفع إلى وسط فريستها الذكورية أيضاً ? ?أوكلت الناصَّة هدى عواجي مهمة إزالة الضبابية التي تكتنف ذات ياسمين إلى فارس الذي لعب على العنصر الصوتي الأكثر تأثيراً في تثوير لحظات نادرة كلحظات التوتر التي تعيشها ياسمين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©