الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

برّ الأبناء

برّ الأبناء
13 مايو 2007 00:02
سعاد جواد: مشاكل كثيرة واجهتها في حياتي وقد تركت آثارها ثقلا كبيراً على صدري· للأسف··· كان لوالدي دور رئيس في تلك المشاكل، لا أدري لماذا فعل معي كل تلك الأمور؟ فهو إنسان طيب يحب عائلته ويخشى ربه كثيراً· لماذا إذن ميّزني عن إخوتي؟ ولماذا ظلمني بهذا الشكل الغريب؟ إنها غلطة العاقل، وغلطة العاقل كبيرة جدا كما يقولون· المشكلة الأولى بدأت عندما ولدت، وقد جئت ذكرا على غير ما كان متوقعا، فوالدتي أنجبت قبلي ستة ذكور وكانت في أشد الشوق هي ووالدي لمجيء الطفلة الأنثى، ليس باليد حيلة، وما ذنبي أنا؟ ثلاثة أيام مرت على ولادتي ولم تتم تسميتي· والدي يقول لأمي: اختاري له الاسم، فترد عليه: اختارله أنت الاسم· في النهاية بحث والدي في محفظته فوجد إيصالا باسم غريب ليس له أي معنى فسماني به دون أي اعتراض من أمي· لم يفكر لحظة واحدة بما سيسببه لي هذا الاسم من معاناة· أصبح هذا الاسم كاللعنة التي تطاردني في كل مكان، يصغرونه فيبدو مضحكا أكثر، يضيفون إليه حرف الألف، وينقصون منه آخر فتظهر معاني مضحكة وسخيفة، حتى صار هذا الاسم موضوعا للاستهزاء والتذمر كلما اجتمعت العائلة· المشكلة الثانية التي عانيت منها لفترة من الزمن هي ما فعلته أمي بي في طفولتي، فقد عوضت نفسها عن عدم مجيء الأنثى بأن حولتني إلى بنت، كيف ذلك؟ أطالت شعري وصارت تزينه بالمشابك وتلبسني البنطلون والقميص بدلا من الكندورة، فأصبح ذلك الأمر يشكل مادة جديدة للسخرية والضحك والاستهزاء بي من قبل إخوتي، بعد أن اكتملت الصورة، ليكون شكلي مطابقا لأسمي، وصاروا يطلقون عليّ ألقابا محرجة كثيرة· وعلى الرغم من صغر سنّي إلا أنني كنت تعيسا للغاية بسبب هذه الأمور التي تحدث في حياتي والتي لا دخل لي بها لا من قريب ولا من بعيد· أدركت وأنا في السادسة من عمري بأن عليّ اتخاذ موقف صارم لأقلل من تلك السخرية التي تصب على رأسي طوال الوقت· اتخاذ الموقف كنت في البداية خائفا من غضب أمي وأبي ولكن شعوري المستمر بالقهر والأذى النفسي من شكلي ومن أسمي دفعني لوضع حد لهذه المعاناة، على الأقل من ناحية الشكل والمظهر· أخذت موس الحلاقة الخاص بوالدي وحلقت شعري بشكل عشوائي غريب فبدوت كمخلوق مرعب، ما أن نظرت إليّ أمي حتى أصيبت بالهلع وكادت أن تموت غيظا لما فعلته بشعري· ضربتني ومنعت عنّي وجبة الغداء ثم مع مرور الوقت نسيت وسامحتني فارتحت نفسيا من أول عقدة سببتها لي أمي دون مراعاة لما يترتب على ما فعلته من معاناة نفسية لطفل صغير في مثل سني· بعد أن أنهيت مشكلة شعري، اتخذت قراري الثاني بعدم لبس أي شيء آخر سوى الكندورة التي يلبسها كل إخوتي· ولأنهم لم يشتروها ولم يخيطوها لي اضطررت لقص أكمام كندورة أخي ولبستها على الرغم من طولها فاصطنعت بذلك سببا جديدا لتلقي العقوبة والغضب من والديّ لأن الكندورة كانت جديدة ولأنني تصرفت عكس ما كانوا يريدون لي· بتلك الخطوات الجريئة تخلصت من معاناتي مع شكلي وبقيت معاناتي مع اسمي، فماذا أفعل به؟ حاولت أن اجبرهم على اختيار اسم جديد لي فلم يفلح ذلك معهم··· فسكت وتكونت بداخلي عقدة نفسية كبيرة هي إحساسي بالنقص وأنني لست مثل الآخرين· الكل أفضل منّي لأن لديهم أسماء مقبولة ومعقولة، وأنا الوحيد الذي يملك اسما غريبا لا يليق به· المشكلة الثالثة هي وصول والدي إلى سن التقاعد عند بلوغي العاشرة من العمر، فتفرغ لي تفرغا كاملا عكس إخوتي، فقد كان منشغلا عنهم بعمله ومسؤولياته فأفلتوا من تحكمه وتسلطه· كانوا ينجحون على الحافة ثم تركوا الدراسة وفتحوا بعض المشاريع بمساعدة والدي طبعا وتزوجوا واحدا تلو الآخر على حسب هواهم ورغبتهم ودون أي تدخل منه· أما أنا فقد جئت في الوقت الضائع، أصغرهم يكبرني بعشرة أعوام، فسرعان ما خلا البيت منهم جميعا وبقيت فيه لوحدي مع والدي ووالدتي· وضع غريب قام والدي بتكثيف الحرص والعناية بي فأغلق عليّ المنزل بإحكام وعزلني عن الحياة الخارجية، الأصدقاء، التجارب الصبيانية البريئة· كان معتقدا بأنني سعيد ولا ينقصني شيء ما دام قد اشترى لي كل ما أحتاج إليه من الألعاب ووسائل التسلية· كنت أشعر بالوحدة والتعاسة عندما أنظر من نافذة غرفتي وأجد الأولاد يلعبون بالكرة ويتضاحكون بسعادة· كنت أحسدهم على تلك الحرية الجميلة، فلم يكن مسموحا لي سوى الذهاب إلى المدرسة فقط· كان أبي يأخذني إليها ويعيدني منها حرصا منه على عدم ذهابي هنا أو هناك· حتى انه لم يفكر بأخذي إلى أماكن الألعاب لأنه قد كبر في السن ولم تعد صحته تساعده على مثل تلك الأماكن· هذا الوضع جعل متنفسي الوحيد هو المدرسة، فقد أصبحت مجالا لانطلاقي ومرحي، فشاركت في كل الأنشطة الصفية واللاصيفّية، وبرزت لدي مواهب كثيرة في الإلقاء والخطابة والرسم والإنشاء· أما الدراسة فكان وضعي فيها جيدا نسبيا لأنني كنت أخاف من الرسوب فيغضب الوالد ويحرمني من الدراسة· عندما وصلت إلى المرحلة الثانوية بدأت مشكلة أخرى هي أن والدي وبعد أن شعر بالإحباط من عدم إكمال إخوتي لدراستهم، وأنهم لم يحققوا أية إنجازات، وأنني الوحيد الذي استمر حتى الثانوية قرر انني خير من يحقق أحلامه التي عجز إخوتي عن تحقيقها، فأصر عليّ أن أدرس الطب على الرغم من عدم ميلي للدراسة العلمية· أدخلني القسم العلمي وظل يسمعني كلمات محفزة لأكون طبيبا، فصرت أعاني معاناة صعبة أخرى هي عدم قدرتي على النجاح بسهولة مع المواد العلمية التي لا تتفق مع ميولي ورغباتي· لم يترك لي فرصة التعبير والتحدث معه بصراحة وبقي مصراً على رأيه حتى أنهيت الثانوية بمعدل بسيط فقرر إرسالي إلى الخارج على نفقته الخاصة لأدرس الطب رغما عن أنفي· درست لسنتين متواصلتين ولكنني لم أحقق أي نجاح فاتخذت قراري وتركت كلية الطب ودخلت كلية الإعلام، وقد استطعت أن أحول بعثتي على نفقة الدولة· وما أن سمع والدي بما فعلته حتى غضب مني غضبا شديدا واسمعني كلاما جارحاً جداً لا أستحقه ثم قاطعني لفترة طويلة من الزمن· أمل جديد أثناء فترة الدراسة تعرفت على فتاة خليجية تدرس نفس تخصصي ولكنها جاءت متأخرة عني بسنتين· أعجبني أخلاقها والتزامها بدينها وشخصيتها فتمنيت من كل قلبي أن تكون هذه الفتاة من نصيبي· بعد تردد ومعاناة طويلة فاتحتها بنيتي الارتباط بها فوافقت بلا تردد، فأحسست وقتها بأنني أسعد إنسان في هذا العالم وأن النحس الذي لازمني قد فارقني إلى الأبد· عدت في الإجازة وقد قررت مفاتحة الأهل بأمر الفتاة وتحديد موعد لخطبتها، لأنني أرغب بالزواج منها بأسرع وقت لنكون هناك معا أثناء الدراسة· فوجئت عند عودتي بأن والدي قد خطب لي ابنة صديقه المقرب دون علمي، وقد جعل الأمر مفاجأة سارّة لعودتي· هل هذا يعقل؟ هل في الزواج وتقرير المصير مثل هذه المفاجآت؟ إنها الإنسانة التي ستشاركني حياتي··· هل يحق له أن يختارها دون علمي ودون أن أطلب منه ذلك؟ رفضت تلك الخطبة رفضاً قاطعاً وذهبت بنفسي للتحدث مع والد الفتاة صديق والدي الذي بدا متفهما للأمر· أما والدي فإنه غضب عليّ غضبا شديداً واتهمني بأنني ابن عاق لا استحق الرضا من والديّ· ازدادت حدة الغضب عليّ عندما أخبرتهم بأنني اخترت فتاة ليست من بلدي لتكون زوجة لي وأنني سأخطبها وأتزوجها حتى لو رفضوا ذلك، فثار عليّ والدي وطردني من بيته· ذهبت الى منزل عمّي الذي كان يساندني طوال الوقت، وهو متفهم لكل ما مررت به من معاناة، وقد حاول التدخل للإصلاح بيني وبين أبي ولكن والدي بقي مصرا على موقفه، فرافقني عمّي إلى بلد الفتاة وأتممنا إجراءات الزواج عندما أبدى أهلها التيسير في كل الأمور شرط أن أسمح لها بإكمال دراستها، فوافقت على ذلك· عدت لإكمال السنة الأخيرة في الجامعة مع زوجتي التي تحتاج إلى ثلاث سنوات أخرى لتحصل على الشهادة· وكنت سعيداً سعادة لا توصف مع زوجتي التي أنستني معظم ما عانيته مع أهلي· تخرجت وعدت لبلدي وتصالحت مع والدي الذي لم يكن راضيا عني رضا كاملا، عكس والدتي التي نسيت كل شيء وسامحتني، فقد كانت مريضة جداً، وحالتها غير مستقرة، وهي تنتقل بين البيت والمستشفى باستمرار· نهاية المطاف قدمت أوراقي في أماكن مختلفة، وكان لأسمي دور في التشكيك بوطنيّتي والتعامل معي بشكل غير مريح، فقررت تغيير اسمي مما أثار حنق والدي عليّ من جديد· ولكن موت والدتي المفاجئ أشغله عن تأنيبي فاعتقدت بأنه سينسى الأمر بعد هذه النكبة· حصلت على وظيفة وبدأت أهيء لنفسي سكنا مناسبا لمجيء زوجتي بعد انتهاء دراستها كما كنت منغمسا بعملي الوظيفي لفترة من الزمن الى ان سمعت بمرض والدي فقررت البقاء معه في البيت ومحاولة كسب رضاه لأنه أصبح ضعيفاً وغير قادر على العناية بنفسه· صرت آخذه إلى مواعيد الصلاة في المسجد ومواعيد العيادات، وأشرف بنفسي على إعطائه الدواء وتحميمه وإطعامه بعد عودتي من عملي· حرمت نفسي من كل أنواع الترفيه وبقيت إلى جانبه طمعا في كسب رضاه حتى جاء موعد رحيله وقد ملأني الإحساس بالرضا لأنه في آخر لحظاته أمسك بيدي وقال لي: سامحني يا بني، فبكيت متأثرا وأنا أتوسل إليه أن يسامحني هو الآخر· انتقل إلى رحمة الله وتركني غارقا في تأنيب الضمير على مواقفي معه، وقلت في نفسي بأنني ربما لم أعرف الطرق المناسبة للتعامل معه· لم تمض إلا أشهر قليلة حتى انكشفت حقيقة أخرى أذهلتني، فقد عرفت بأن والدي قد وزّع كل ما يملك على إخوتي بالتساوي بعقود ملكية وقد حرمني تماما من ميراثه· أصبت بالصدمة، لماذا فعل ذلك؟ هل استحق منه هذا الموقف لمجرد أنني رفضت الزواج من ابنة صديقه وتزوجت فتاة اخترتها بنفسي؟ أم لأنني غيرت اسمي الذي عانيت منه معاناة لا يعلمها إلا الله؟ أم لأنني لم أدرس الطب ولم أحقق حلمه بأن أكون طبيبا؟ أم لأنني لم أصبح بنتا كما أراد هو وأمي؟ الآن أدركت لماذا طلب منّي السماح· بالتأكيد كان نادما على فعلته ولكن المرض لم يمهله للتراجع· عموما··· سامحته، وقد كتبت حكايتي متمنيا أن يبر الآباء أبناءهم إذا أرادوا أن ينالوا البر نفسه منهم··· وكي لا تتكرر مأساتي من جديد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©