الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نجاة مكي وضالتها الفنية

نجاة مكي وضالتها الفنية
18 ديسمبر 2014 02:37
الفنانة الإماراتية نجاة مكي تتموْضع في مكانة بارزة من الجيل الفني الذي خاض معترك التحولات الاجتماعية والحياتية، خلال العقود الأخيرة من عمر الإمارات، المترافق مع التنامي الثقافي المشهود، لكنها أيضاً صادرة عن ذاكرة ذوقية ومعرفية قادمة من أعماق الماضي الذي تاخمت جزء منه في طفولتها، وهو ما يظهر جلياً في مُنجزها الفني المتواتر.. وقبل الولوج إلى عوالم الفنانة يمكن الإشارة إلى أنها تحتل مكانة خاصة في زمن الفنانين المشتغلين على النص البصري بطريقة تتَّسم بالتواتر والديمومة، مع تقديم مقترحات وخيارات تشكيلية متصلة بالتحولات العاتية التي نشهدها في هذا العصر المتدافع بمقولاته واجتراحاته وتطوراته وتقلباته، وهي فيما تفعل ذلك تتأسَّى دوماً بأريج الماضي الذي كان على قدر كبير من الطمأنينة الوجودية، المقرونة بصفاء الاختيار، وانسيابية الأيام، وتلقائية الحال والمقال. القلق الوجودي أمر يطال العالم المعاصر برمته، لكنه يتَّخذ طابعاً خاصاً عند الفنان المتوتِّر، دفقاً بحساسيته الخاصة، وتناسباً مع عوالم روحه المحفوفة بالضَّنى النفسي والتَّعب العقلي.. وتنتمي الفنانة نجاة إلى ذلك النفر من المُتصالحين مع الذات والغير، مما يظهر جلياً في نصوصها البصرية المنتعشة بصفاء الألوان وبهجتها. استكناه زرقة البحر ما أُسميه بالحالة الزرقاء لدى نجاة، والمتصل عميقاً بالتناغم الَّلوني الثلاثي (الأصفر/ الأخضر/ الأزرق) يبدو معلماً هاماً في تجربتها الفنية المستمدة حصراً من روحية البحار الزرقاء، وآمادها المفتوحة على البُعد الثالث، والتَّوشِية الجمالية المتناغمة بقدر الألوان المتقاربة المُتَحابَّة، والتجريد التعبيري المُتَّصل بالنمنمة والرقش. تلك التجربة امتدت سنين طويلة، وتميَّزت بلوحاتها ذات الأحجام الكبيرة المفارقة لمألوف الأحجام الصغيرة، وكانت بهذا المعنى مُمْعنة في تصوير الطبيعة المفتوحة، بقوالب لا تُحاصر المرئي في سطح ضيق، فيما تجترح مشقة الإشتغال على المساحات.. تلك المشقة الفنية التي ستصل بعد حين إلى ثنائية لافتة، فبقدر اشتغالها على المساحات الكبيرة التي تصل إلى عديد الأمتار طولاً، بقدر ما تَرى في الحجم الأكثر صغراً في بضع سنتمترات قيمة استعارية للمعالجات البصرية اللونية في المساحات الكبيرة. هنا أفيد القارئ بأنني اطلعت على تجربة لها في مجال الرسم بالمساحات الكبيرة، وحتى غير المألوفة سعة وحجماً، من خلال لوحة تمتد لأمتار طويلة، ولا يمكن عرضها إلا على جدار بشواهق العمارة التاريخية الممتدة طولاً وعرضاً، كما شاهدتُ أيضاً وضمناً مصفوفة واسعة من الأعمال صغيرة الأحجام، والتي بدت كما لو أنها متوالية بصرية تناغمية تتأسَّى بالتجريد اللوني، وتُبحر في الهارموني، فيما تضع الرائي أمام صورة مُنْسلَّة من سياق تعدديتها الجمالية النابتة من واحدية الحالة الفنية الخاصة، والشاهد أن روحية الأعمال الكبيرة والصغيرة تنسجمان في تناغم متناغم. خوارزميات لونية انتظمت تلك الأعمال كما لو أنها خوارزميات لونية بصرية تتحوَّل إلى مصفوفات رياضية منغومة بالألوان. في هذه التجربة تظل الفنانة في إقامتها المترجرجة مع زمن الأنا الرائية للطبيعة الأولى، حيث يتعملق الأصفر الترابي، كما البُنِّي الفاتح، وظلال اللونين الأثيرين لديها (الأخضر والأصفر). قلنا سابقاً إن الفنانة نجاة مكي تميَّزت بانصرافها الكُليَّاني للتشكيل، وتداعياتها الحرة مع الإبحارات المتنوعة صوب العطاء الثر، وبانتظام وتواتر فريد المثال، كما أنها أنجزت اقتراحاتها الفنية المتنوعة على قاعدة النظر والتفكُّر، ومن هنا نستطيع إفراد مكانة خاصة لاهتمامها بفنون العملات التاريخية، والتي نالت بها درجة الدكتوراه، فقد اعتنت بالعُملة بوصفها توثيقاً تاريخياً لقيم بصرية دلالية، كما أن العُملة ترميز مكثف لواقع الحال في فنون الحرف والطَّرق على المعادن، والنحت على المواد الصلبة، حتى أنها تكاد أن ترقى إلى مستوى الأيقونة المثالية الناظمة لمسارات التاريخ المعروف، والفني منه ضمناً. تلك الدراسة الأكاديمية واستتباعات التأمُّلية اللاحقة كانت مساراً خاصاً لاستعاراتها الجمالية والدلالية، كما لتجريدها البصري التعبيري المُتَّصل بالوسط المحيط. حضور الفنانة المباشر في البيناليهات والسيمبوزيومات الفنية العالمية، والجغرافيا المكانية الإنسانية الواسعة، وتمسُّكها الشديد بالتفرغ التام لمشروعها الفني كانت له آثار حميدة على عطائها الزاخر.. وهنا لا بد من إشارة إلى أن تخلِّي الفنانة الطوعي عن العمل الوظيفي لم يكن مقروناً برغبة داخلية في الدِّعة والإسترخاء الحميم، بل بتطلُّع متصاعد ومُتقَّد لحرق المراحل الزمنية، بحثاً عن ضالَّة فنية حاضرة غائبة، وأزعم أنها أضفت على مفهوم التفرُّغ الفني قيمة مثالية.. لأنها تعمل دون كلل أو مللل، وتسافر هنا وهناك إسهاماً منها في الحضور الفني العضوي المقرون بالاستفادة والتمثُّل الإدراكي الجمالي لمفردات تشكيلية متجددة. كانت فرصة مثالية تلك التي جمعتنا في مدينة (الرقَّة) السورية التاريخية، ضمن إطار السيمبوزيوم الفني الكبير الذي انتظم قبل سنوات خلت، وبمشاركة كوكبة واسعة من الفنَّانين من مختلف أرجاء العالم، وقد تصادف أن كنتُ مشاركاً في تلك التظاهرة التشكيلية.. قريباً من مربع الفنانة نجاة مكي، وهي تقرر رسم 3 لوحات دفعة واحدة، وبأحجام تصل إلى متر طولاُ، ونصف المتر عرضاً، ولاحظت مع البدايات الأُولى للتنفيذ كيف أنها تناور على التموْضع المكاني أمام اللوحة، وتستغل رحابة الأرض.. لتسكب ألوانها الرئيسية في سطح اللوح، من خلال مناورات الفرشاة الكبيرة.. ثم تُغيَّر تموْضعها أمام اللوحة المعلقة لتبدأ في الاشتغال التفصيلي المُوشَّى بعناصر فوق لونية إن جاز التعبير.. أقصد تلك اللمسات الرشيقة والنمنمات والرقوش التي تتقافز من سطح اللوح، لتميد بالرائي صوب مناطق مفاهيمية بصرية لطيفة. في بدايات التنفيذ الفعلي يستشعر الرائي تلك التقنية التي تُفصِّل المساحة إلى مستويات لونية مغروسة في مستودع الذاكرة، كما يستشعر المعنى الخاص للمساحات الكبيرة التي تميل إليها الفنانة، وهكذا يظل (الرِّتم) في تصاعده حتى الانجاز الذي ينفسح على المزيد من قابليات التدوير. عوالم الأُنثى البهية التَّتَبُع الإجرائي لسلسلة المشاركات الواسعة للفنانة.. سواءٌ من خلال معارضها الشخصية، أو المعارض الجماعية يفضي بنا إلى استنتاجات هامة، وربما كان أبرزها تلك التحولات الأُسلوبية المنغرسة في أساس التعبير الخاص.. أقصد بذلك الإنزياحات في الاشتغال على الموضوعات المختلفة المقرونة بالبُعد الثالث التجريدي التعبيري، مع حضور مؤكد لعوالم الأُنثى الخليجية، من خلال استدعاء العناصر الانثوية في اللَّون الصافي، والزخرفة المتعرجة، والأقمشة المزركشة، والجماليات النابتة من أساس البهاء النسوي اللوني متعدد الحالات والفرادات. في ذلك المناخ اللوني الجمالي يمكنك استنشاق البخور، والانتشاء بالعطور، والتدثُّر بثوب (السًّدو) الصحراوي، وامتطاء مراكب البحر المسافرة في مياه الخليج. لقد كان ذلك العالم الأُنثوي المُتَّصل بالطبيعة شاهداً على أُسلوب الفنانة وفضاءاتها اللصيقة بالمكان والزمان المأخوذين بمتواليات الماضي الذاهب إلى المستقبل، مروراً بالحاضر الشاخص، وبهذا المعنى سايرت الفنانة معنى الدهر المُتقلِّب في ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل، ومعنى الروح السائرة في تصاريف القدر.. القابلة بما كان وما سيكون. الإشارات الوامضة في أعمال الفنانة تسمح لنا بتأملات ثقافية ذات طابع أشمل، فالألوان، والزخارف، والتقاطعات في المساحات، والتواشجات مع عناصر متنوعة في اقتراحاتها البصرية.. كل تلك العناصر قمينة بأن تجعل الرائي ناظراً لما وراء الآكام والهضاب في المشروع الفني للفنانة نجاة مكي. تواشجات العناصر الفنانة نجاة لا تستكين للجاهز المألوف ولا تقبل بتكرار تجاربها في أكثر من معرض، الأمر الذي لا يمكن تفسيره خارج الدأب والانتاج المستمرين، والموصول في آن واحد برؤية واستسبارات ثقافية مؤكدة، وهي الفنانة التي لم تكتف بترويض التجربة وتصعيدها، بل واصلتها بانطلاقات في شفرات الفنون الشعبية المرتبطة بالأجواء النسائية، وتحديداً ذلك العالم السحري لفنون الجماليات الفولكلورية التي تستبطن خفايا المرأة. المرأة بهذا المعنى ليست مستودعا لعوالم شكلانية جميلة بهيجة، بل إنها أيضاً مستودع أسرار تضفي على اللمسة العابرة معاني وأبعادا شاملة. الزخارف ليست مجرد استدعاء للأنساق الجمالية الإبداعية العامية لفنون الغناء والأفراح والحرف والحيوات اليومية للمرأة الإماراتية الصادرة من بحار الزرقة وأقواس قزح الشتائية.. المقيمة في سرائر البخور والعطور.. الصابرة على غياب رفيق الحياة في رحلات الضنى البحرية الطويلة، بل تصبح الزخارف هنا شكلا من أشكال التداعي الحر، ضمن آفاق نسقية جمالية لا تتنازل عن التكوينات المفتوحة، والأمشاج المتصلة بعناصر الزمان والمكان، فالفراغات كالتلال الصحراوية المتكسرة، وأوراق النباتات المتناثرة في الفلاة معين لترميزات ممعنة في الإيقاع البصري، والتزاحمات في التكوين كبحارت الأيام التي على مدها وجزرها الدائمين. لهذا السبب بالذات نلاحظ الحضور الاستثنائي للأزرق وظلاله الخضراء والصفراء، وكأن البهاء سيد الموقف في تلك الأعمال الأُولى للفنانة.. تلك الأعمال التي تتَّسم بقدر واضح من التصوير المنطلق صوب البحث عن أسلوبية تعيد إنتاج الخصوصية ضمن توليفة للأنا المبدعة الانتمائية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©