الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دورةالاكتشافات

دورةالاكتشافات
18 ديسمبر 2014 01:35
عبر موكب الدورة الـ 11 من المهرجان بنجاح وثقة وتفاؤل، رغم كل التوقعات المتشائمة والمحبطة بتراجع المستوى التنظيمي، وخفوت الزخم الفني مقارنة بدورات المهرجان السابقة، وخصوصا دورته العاشرة التي أقيمت العام الماضي، وبدت في ذروة التألق والإبهار شكلاً ومضموناً. قدم مهرجان دبي في دورته هذا العام وعلى مدار ثمانية أيام 118 فيلماً بين روائي طويل وقصير وتسجيلي، منها 44 عرضاً عالمياً أول، و11 عرضاً دولياً أول من 48 دولة بما يقارب الـ 34 لغة، وهي من أعمال مخرجين صاعدين وآخرين محترفين. وكعادته في استقطاب الأفلام ذات النسق الفني العالي والمحتوى الروائي المؤثر، عرض المهرجان في ليلة افتتاحه فيلماً من العيار الثقيل على مستوى الأداء واستحضار التجربة الإنسانية الواقعية والمذهلة إلى الشاشة، وبأقل التنازلات الممكنة، وهو فيلم «نظرية كل شيء» للمخرج البريطاني جيمس مارش، الذي يستعيد هنا السيرة العائلية والأكاديمية المدهشة لعالم الفيزياء النظرية الشهير ستيفن هوكينغ الذي أصيب أثناء دراسته في جامعة كمبريدج بمتلازمة التصلب العصبي، وأصبح مقعدا على كرسيه المتحرك، دون أن تثنيه هذه العاهة المستديمة من التواصل مع الآخرين، وتكوين أسرة ناجحة، وتحقيق نظريات وكتب مهمة حول بداية الزمن ونشوء الكون والثقوب السوداء، قدمها للنخبة وللجمهور العادي على السواء. تجارب معاصرة ولم تخل عروض السينما العالمية في الدورة الجديدة للمهرجان من أفلام قدمت دروساً تطبيقية في كيفية الاستفادة من فنون ما بعد الحداثة، ومن الأساليب والتقنيات والمعالجات التي استندت على رصيد هائل من التجارب والتيارات السينمائية المختلفة، وقدمت نفسها في سياق متجاوز ومتطور وغير محكوم بأطر تقليدية وناجزة، ونذكر هنا بالتحديد الفيلم المبهر للمخرج المكسيكي اليخاندرو إيناريتو، بعنوان «بيردمان» المرشح بقوة لحصد أغلب جوائز الدورة القادمة من حفل الأوسكار. ايناريتو الذي قدم أفلاماً حاضرة ومتوقدة في الذاكرة مثل «بابل» و«21 غراما» و«بيوتفل» و«آموروس بيروس» يخترق هذه المرة في فيلم «بيردمان» مع الممثل مايكل كيتون كل الحواجز المانعة لصناعة فيلم عظيم في زمننا الراهن، إنها الواقعية الأسطورية التي تتشكل في هذا العمل من خلال كاميرا لاهثة ومجنونة لا تعترف بالقطع والمونتاج لتنقل لنا الخفايا البشعة والفضائحية لكواليس إحدى المسارح الشهيرة في برودواي بنيويورك، يسحبنا إيناريتو في هذا الفيلم الطليعي إلى رحلة بصرية ضارية وسط أحراش الحلم والكابوس، والصعود والإخفاق، والعشق والخيانة، والمسترسلة كمتاهة كافكاوية في ذهن ممثل مسرحي شهير على وشك الاعتزال، ويكافح من أجل أن تبقي صورته زاهية وبرّاقة كما في الماضي. وفي فيلم بعنوان «بضعة أمتار مكعبة من الحب»، قدم المخرج الأفغاني جمشيد محمودي قصة عشق شائكة بين اللاجئة الأفغانية (مارونا)، التي تعيش مع عائلتها الفقيرة على أطراف العاصمة طهران، وبين شاب إيراني، حيث تتوسع مدارات هذا العشق وتصل لدرجة لا يمكن القبض على نهاية لها، إنها التفاصيل الصغيرة التي تنبت مثل أزاهير خجولة وصامتة بين الأكواخ المتواضعة والحاويات القديمة على هامش المدينة، وتحاول أن تصمد أمام رياح هائجة وداكنة تمثلها الذهنيات التقليدية والمتصلبة، مع فوارق ثقافية قادرة على مصادرة أكثر الحالات الإنسانية براءة وانحيازا لشغفها الطاهر والنقي. ومن العالم العربي أتى فيلم المخرج المصري القدير داوود عبدالسيد «قدرات غير عادية» في عرضه العالمي الأول ليعيد صياغة العوالم الأثيرة لمخرج «الكيت كات» و«رسائل البحر» و«أرض الخوف»، ولكن في قالب غرائبي هذه المرة، وهي غرائبية لن تنفصل عن الواقع المصري الحائر اليوم بين الأفكار الماضوية المنبعثة من جديد وبأشكال متطرفة ومستندة إلى كتب صفراء ومهترئة وطافحة بالعنف، وبين الهاجس الأمني المتنامي وسط مجتمع منفتح ومتسامح ومشبع بحسه الإيماني والصوفي، حيث نرى الشخصيات التي يبتكرها داوود عبدالسيد وهي محاطة بهالة من الوداعة والانجذاب للواقع الشعبي البسيط، وبما يتجاوز هذا الواقع أيضاً إلى مساحات أرحب من التأمل والشفافية من خلال رموز ملموسة وأخرى ضمنية تتجاوز العادي إلى ما هو إعجازي ومقدس ومتحرر عن أي قيد أو تصنيف. ومن المغرب، شاهد جمهور المهرجان الفيلم الروائي الثالث للمخرج هشام العسري بعد «النهاية» و«هم الكلاب» ليقدم في فيلمه الجديد «البحر من ورائكم»، وفي نسق مختلف هذه المرة مع الأسلوب التجريبي الذي اتبعه في فيلمية السابقين، متخذاً من حيلة التلاعب بالزمن السردي، مطيّة لعرض الحكاية العتيقة تاريخياً والطازجة آنيا في بلدة تقع خارج حدود الجغرافيا، وتعاني تلوث مياهها وانمحاء الألوان عن ناسها وبيوتاتها وحتى حيواناتها، حيث نرى (طارق) غريب الأطوار، وهو يتجول مع حصانه شبه الميت في مدينة الأشباح والفوضى، ويقف في النهاية وحيداً لمواجهة اليأس والجنون، في مكان فقد هويته وروحه وبات بحاجه لمن ينتشله من الخرائب والأنقاض، ويعيد له نبض الحياة من جديد. بين الماء والصحراء جاءت الأفلام الطويلة من الإمارات والخليج لتضفي على الدورة 11 من مهرجان دبي صفة اعتبارية مهمة، كانت مثار جدل في السنوات السابقة، وهذه الصفة المفقودة تمثلت في سؤال حاضر دائما، وهو: «لماذا يقام مهرجان سينمائي كبير في مكان لا ينتج أفلاما طويلة، ويفتقد لآليات صناعة السينما»؟، ولكن مع وجود أربع أفلام طويلة محلية ومعها فيلم خامس من البحرين، تحوّل السؤال إلى صيغة مختلفة وهي: «متى يمكن للفيلم الإماراتي والخليجي أن يشارك في المهرجانات الدولية العتيدة مثل كان وبرلين وفينيسيا وغيرها؟»، إنه السؤال الأهم اليوم، والقابل للتحقق خلال الأعوام القليلة القادمة، خصوصاً بعد مشاهدتنا لتجارب متقدمة على مستوى التكنيك والبناء والتكوين الجمالي وتوزيع الزمن السردي بشكل مدروس يضبط إيقاع الحكاية ويحقق الشروط القياسية للفيلم الجيد والمعتنى به، كما في أفلام «الشجرة النائمة» للمخرج البحريني محمد راشد أبوعلي، و«دلافين» للمخرج الإماراتي وليد الشحي، والفيلم التسجيلي «سماء قريبة» للمخرجة والشاعرة الإماراتية نجوم الغانم، وبمقاييس أقل توهجا في فيلم فاضل المهيري «عبّود كنديشن» و«من ألف إلى باء» لعلي مصطفى. في فيلم «دلافين»، يستخلص الشحي من النص السينمائي المرهف للشاعر الإماراتي أحمد سالمين، تلك الروح المتشبثة بتفاصيل المكان وبالمعاناة الخفية لشخوص نراهم حولنا ولا نجرؤ على الذهاب بعيداً معهم إلى حيث يكمن جوهر وأصل هذه المعاناة، هناك ضباب كثيف يهطل على المكان في نهاية الفيلم، ويلخص خطاب الفيلم نفسه، عندما يكون الانفصال العاطفي مهيمنا على أكثر الناس قرباً من بعضهم، هناك ثلاثة مسارات أو حالات يرتكز عليها الفيلم يجسّدها أب وأم منفصلان وبينهما ابن مراهق ، وكل فرد من هؤلاء يعيش ألمه بصمت، وينتظر الخلاص بالهروب المتواصل من المكاشفة وحتى من إدانة الذات، يهرب الطفل نحو مجهول البحر، وتهرب الأم نحو زواج جديد لن يتحقق، ويهرب الأب في رحلة جنائزية وسط الجبال، يقع الثلاثة في هذا الفخ الوجودي الذي يعرضه لنا وليد الشحي بأسلوب إخراجي ينحاز للدلالات التعبيرية العميقة والقارئة لملامح المأساة الفردية مستعيناً بمشاهد وكادرات بصرية موحية وذات أثر وقيمة، بعيداً عن شرح الحالة بشكل متكلف وقصدي، يذهب الطفل في قاربه الهش بعيداً في البحر لعله يصادف الدلافين التي حلم برؤيتها وملامستها، ولكنه يترك خلفه وعلى الساحل البعيد هو الآخر جرحا لا يمكن أن يندمل، وقطيعة لا يمكن أن تنتج سوى الصدمة والكارثة والكابوس. في فيلم «الشجرة النائمة»، الذي يعتبر من أفضل الأفلام البحرينية المنجزة حتى الآن، يشترك المخرج محمد راشد أبوعلي والروائي والسيناريست فريد رمضان، في تحويل قصص واقعية عاشها الاثنان، إلى شريط بصري يمنحنا وبكرم مضاعف تلك المقاربات الصوفية المتجلية والمحلقة فوق خشونة الواقع والحسية المفرطة والانزلاق الخطر نحو اليأس والإدراك الشقي للوجود، وتحويل هذه الآلام والعذابات التي يعيشها أب وأم يعانيان مرض ابنتهما المصابة بالشلل الدماغي إلى ما يشبه البرزخ أو الحضرة الملائكية التي تجسدها هنا شجرة كبيرة خضراء ومعرّشة في قلب الصحراء، كدلالة رمزية لديمومة الأمل وسط براري القحط واليأس واليباس الروحي، يتنقل فيلم «الشجرة النائمة» وبرشاقة بين المشاهد الواقعية، ومشاهد الحلم ليخلق إيقاعا سمعيا وبصريا متناغما بين ما نراه وبين ما نريد رؤيته، وفي هذا الترحال الملهم سيكون رجاء الوالدين بشفاء ابنتهم أكثر من مجرّد أمنية في الفراغ وفي الهباء؛ لأن المعجزة الإلهية حاضرة دائما في خروج الميت من الحي، وخروج الحي من الميت، ففي هذه الصيغة التبادلية والمكررة، لن يكون الموت سوى صورة أخرى للبعث، ولن يكون الفناء سوى الوجه الآخر للخلود المتكاثر فينا، والراكز في وعينا مثل شجرة المنتهى!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©