السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الزهاجة..شجرة الهمّ السوداني

الزهاجة..شجرة الهمّ السوداني
24 ديسمبر 2014 15:11
على مدى الوقت، كانت مجموعة من المسرحيين تسعى جاهدةً إلى استئجار بيت حتى لو كان رخيصاً ومبنياً بالطين، وفي منطقة شعبية بمدينة أم درمان (وهو ما سيحصل بعد عشرين سنة لاحقة) لتنظم لقاءاتها واستقبالاتها الاجتماعية في باحته، وتنشئ مكتبة مسرحية في إحدى غرفه، إضافة إلى منتدى أسبوعي، وكانت المطالبة بذلك تطغى على كل مناسبة عمومية، ولم يكن ذلك بالشيء الهيّن في وسط مسرحي ليس فقط يفتقر الدعم، بل يواجه ما يشبه المعاداة من قبل مؤسسات الثقافة الرسمية. وسعت الشجرة الجميع، بظلها الظليل، سواء الساخطين والمتذمرين على الأوضاع القائمة، أو الباحثين عن فرصة عمل (مؤقت)، في فيلم أو تمثيلية أو حتى برنامج حواري يبث لاحقاً في التلفزيون أو في الإذاعة، ليجدوا القليل من المال الذي يسعفهم، إما في الأكل أو العلاج أو في سداد ديونهم المتأخرة وغير ذلك من الأمور اليوميّة؛ إذ إن رواد الشجرة، التي غدت مقراً ثابتاً للفنانين (وأشباههم؟) منذ منتصف التسعينيات، كانوا في معظمهم بلا عمل، فهم إما أبعدوا عن دوائر وهيئات الثقافة التي كانوا موظفين بها، أو هم واجهوا ضغوطاً وتضييقات واضطروا معها إلى التخلي عن وظائفهم في تلك المؤسسات الرسميّة، أو أنهم منذ تخرجهم من الجامعة لم يجدوا عملاً، في الغالب بسبب مناوئتهم النظام. وثمة بين الرواد من لم يحتمل عسف الظروف وضراوة العيش فصدم واهتز اهتزازاً كلياً، وفي سبيله إلى إعادة التوازن إلى دواخله الهشة تحول إما إلى مدمن على السكر والمخدرات، أو زاد على ذلك مسايرة البوهيميين والفوضويين، وخصوصا فيما يلبس ويأكل.. ويقول! ظل وسيع ظل الشجر الوسيع ضمّ أيضا أولئك الذين ضاقت عليهم أرض بلادهم فسعوا إلى الهجرة، محفزين بتجارب زملاء وأصدقاء خاضوا غمار الرحلة قبلهم، ولكنهم انقطعوا في نصف الطريق واضطروا إلى العودة، مثقلين بملح الخيبة والانكسار، ولم يجد بعضهم من مكان سوى شجرة الزّهاجة التي أغرت بظلها وناسها وحكاياتها أيضا أولئك الشباب الحالمين والطامحين إلى أن يكونوا فنانين مشهورين، وفي معظمهم من المتخرجين حديثاً من كلية الموسيقا والدراما (تأسست 1969) أو قسم المسرح بقصر الشباب والأطفال (تأسس 1975)، وسواهم. كانوا فنانين على اختلاف ليس في أجناسهم وأعمارهم واختصاصاتهم الفنية وحسب، ولكن أيضا في توجهاتهم السياسية وفي مواقفهم مما حولهم، وعلى رغم أن غالبيتهم كانت معدمة، إلا أن مشهدهم لم يكن ينقص من بعض ميسوري الحال الذين يأتون، إما لتزجية الوقت والمؤانسة، أو لإبرام عقود عمل ضئيلة العائد مع بعضهم. في العام 2003 أبعدت السلطات بالقوة رواد الشجرة وحوّلت مكانهم الأثير إلى ثكنة عسكرية تحرسها دبابة لا زالت رابضة، وهي مجهزة دائماً لصدّ أي هجوم محتمل تشنه المعارضة على مقر الإذاعة والتلفزيون. لم تخش صحف الخرطوم التي كانت قد بدأت تتحلل من القبضة المتشددة للنظام، مسنودة بمنظمات المجتمع المدني وبمراكز مناصرة الديمقراطية وحرية التعبير، العربية والغربية، من تناول واقعة الإبعاد تناولاً مسهباً وهي وجدتها مناسبة لإعادة التذكير بحقيقة افتقار أهل المسرح لمقر يجمع شتيتهم، بيد أن ذلك لم يغير من الوضع في شيء. ذرائع وفلسفةلم تكن الشجرة فضاء لحراك سياسي بأي معنى، كما لم تكن موقعاً لاستراحة متظاهرين، وطيلة سنواتها الأولى لم تشهد أي مظهر احتجاجي ملحوظ. كانت محطة انتظار أكثر من أي شيء آخر. فعلى ضآلة مردودها إلا أن الفرص التي تأتي من التلفزيون والإذاعة كانت مهمة لتغطية بعض الاحتياجات المادية لدى الزهاجة الذين اضطروا في غالبيتهم إلى التنازل والإذعان من أجل إعالة أسرهم أو إدارة ظروفهم الشخصية؛ ولم يكن نادراً أن تجد من بينهم من يفلسف قابليته للعمل في جهازي الإذاعة والتلفزيون وأن يكون ملمحاً في صورة دعائية يبثها التلفزيون، بذرائع مثل أن الجهازين يمثلان ملكية شعبية، وأن له الحقّ في المحافظة على الظهور من خلالهما. كما كان بعض جلساء الشجرة يحكم ظهوره على الشاشة أو تكلّمه عبر أثير الإذاعة بالإلحاح على المشاركة في برامج بعينها خالية من شبهة الدعاية للنظام. وعلى الزيادة الملحوظة في نسبة البرامج التي شهدتها تلك الفترة إلا أنها كانت موجهة دائماً إلى ترسيخ دعائم النظام وإشاعة رؤيته التي يصرّ على أنها تعكس «الثقافة الإسلاميّة الحقة» وتعبر عنها. ومن هنا، كان لا بد من «صياغة الإنسان السوداني» وإبدال وجه المجتمع إبدالاً. زعم النظام، وقد استهل حكمه أنه يمثل «ثورة إنقاذ» للبلاد مما تردت فيه بسبب «سياسات الأنظمة السابقة». وكان معتاداً في تلك الأيام الأولى أن ينقل التلفزيون نقلا مباشراً يستمر ساعات عدة إحدى الفعاليات المهرجانية الخطابية التي يتناوب المتكلمون على منصتها في نثر الأشعار والرسائل التعبويّة السياسيّة التي تجرّم الأنظمة السابقة وتتوعد المواطنين غير المؤمنين والمتبنين لمشروع «ثورة الإنقاذ» بالخسران المبين، ودائما ما كانت تختتم تلك المهرجانات بفاصل غنائي موتور بالهجاء والترهيب والوعيد. مع الوقت، طوّر الإعلام الرسمي طريقته في الدعاية للنظام ومضى إلى إطلاق خطط برامجية متنوعة في أشكالها الإخراجية والإعدادية. وهذا «التطوير» الذي ظهر أكثر مع توجه الدول العربية إلى البث عبر الأقمار الاصطناعية في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، زاد نسبة البرامج التي يمكن أن يُستعان فيها بالممثلين والمخرجين المسرحيين سواء في حوارات ـ للاستهلاك الإعلامي ـ حول «قضايا المسرح» أو عبر سلاسل درامية تمولها وتنفذها وزارات ومؤسسات حكومية للترويج لما نفذته من مشاريع في مجالات الصحة والزكاة والتربية والتعليم والاتصالات إلخ.. بقيت العلاقة بين جهازي الإعلام الحكوميين ورواد الشجرة مستقرة على وتيرتها تلك إلى العام 2003 حيث تولى إدارة الجهازين أمين حسن عمر، وما لبث أن أصدر قراره القاضي بـ»هيكلة» الجهازين، وهو ما يعني الاستغناء عن خدمات نحو 1500 موظف في الوحدات الإدارية المختلفة في التلفزيون والإذاعة؛ بذرائع مثل الحاجة إلى الترشيد وتطوير الكادر الوظيفي وغير ذلك. فلم يجد بعض من تمّ الاستغناء عن خدماتهم سوى شجرة الزهاجة التي كانت قريبة جدا من مبنى الإذاعة والتلفزيون، للتعبير عن رفضهم القرار، فوقفوا تحتها لأيام، ولكن السلطات نجحت في فض اعتصامهم، وكان لافتاً أنها اضطرت إلى احتلال الشجرة، المؤثثة بعدد من المقاعد الهالكة أو بقطع صخرية استثمرت كمقاعد لسنوات عدة، بدبابة وثلة من العسكريين، وتفرّق «الزهاجة» منذ ذلك اليوم تفرّقاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©