الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شجاعة اللغة العربية

شجاعة اللغة العربية
8 ديسمبر 2011 13:50
يقول قدامة بن جعفر: “لأن بنية الشعر، إنما هي التسجيع والتقفية، فكلما كان الشعر أكثر اشتمالا عليه كان أدخل في باب الشعر وأخرج له عن مذهب النثر” (نقد الشعر/ 90). ويقول الرماني: “والتضمين على وجهين: تضمين توجبه البنية، وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به.. فاما الذي توجبه نفس البنية، فالصفة بمعلوم يوجب أنه لابد من عالم” (النكت في القرآن/ 103). ويروي ابن خلدون: إن صناعة الشعر تنظر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة، فحدّه: “الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل باجزاء متفقة في الوزن والروي”... (الحاوي على أساليب العرب المخصوصة/ المقدمة/ 1305). ونقرأ قول الدكتور صلاح فضل: إن كلمة بنية لم ترد في النصوص القديمة. ويردد القول نفسه مصطفى السعدني. ويعرّف البنية بالقول: “وربما كان تعريف البنية عموما بأنها كل مكون من ظواهر متماسكة يتوقف كل منها على ما عداه، ولا يمكنه أن يكون ما هو إلا بفضل علاقته بما عداه” (نظرية البنائية/ 75) وينسب مصطفى السعدني هذا التعريف إلى لالاند في معجمه (المدخل اللغوي في نقد الشعر/ 12). يستفاد من مجمل الأقوال في البنية: أنها مجموعة منتظمة من الوحدات أو العلامات المنطوقة التي تتفاعل ويحدد بعضها بعضا على سبيل التبادل... في كل يكوّن النص، وعليه فإن وصف النص من منظور البنية يتطلب معرفة وتجديد في أساليب البلاغة، لان متغيرات البنية لإقامة أنظمتها الخاصة تقتضي تغير الأسلوب البلاغي... وستظل الحاجة دائما الى شيء من ذلك. فالنص جنس بلاغي تتحقق جنسيته في أبنيته اللغوية الخاصة ودلالتها المجازية (لأن كل ما يصير نصا هو بلاغي، والبلاغة نفسها نص) والنص بتعبير آخر مركب لغوي دال يوسع قدرة اللغة على احتواء المعاني (الحادثة في فكر الانسان) بتراكيب المجاز المختلفة وضروب الاتساع والعدول باللفظ عن ظاهرة الوضعي إلى مؤدى استدلاله العقلي بالنقل من صيغة إلى صيغة، حيث يتفاعل النقل بالعقل ليدل الظاهر على الباطن دلالة وعي وإفهام فيصبح بذلك قول الجاحظ: “لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه الى سمعك اسبق من معناه الى قلبك” موافقا في مؤداه الفني مع الشعرية والأدبية في تماهي الكلام وصيرورته بليغا في ذاته ويطلق الأسلوبيين اليوم على هذه الظاهرة الانتظام النوعي في صلب أجزاء الأثر مما يطبعه الأئتلاف بين هياكل الدوال وهياكل المدلولات. البلاغة وعلم النص ولما كانت النصوص أشكالا خاصة لاستعمال اللغة فإن “علم النص” يدرس تواشيح الملفوظات اللغوية، والأشكال والبنى المختصة بها؛ التي لا يمكن وصفها بواسطة القواعد اللغوية، من هذه الزاوية يقترب علم النص من علم البلاغة، بحيث يمكن الادعاء بأنه ممثل حديث له، وعلى هذا تؤسس نظرية النص منطلقاتها العلمية على (بنى النص البلاغية) وترتكز هذه البنى على المفهوم الاصطلاحي للبلاغة الذي يحقق “بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفيه خواص التراكيب حقها، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها”، وتتواشج علمية النص والبلاغة برؤية منهجية واضحة لوصف البنية البلاغية في مستوييها التركيبي، الذي خصه السكاكي بمسمى (علم المعاني) والدلالي الذي وسمه بميسم (البيان) ولذلك فإن تأليف الكلام البلاغي يقتضي “مطابقة الكلام لمقتضى الحال” و”مراعاة المقام”، ومقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام الوصل يباين مقام الفصل، ومقام الايجاز يباين مقام الاطناب، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام. وعليه فإن “بنى النص البلاغية” هي ذات طبيعة وظيفية وتولّد موقفا اتصاليا للإقناع فضلا عن ذلك تنطوي على مضامين إدراكية خاصة توجه انتباه القارئ وتحدد بالتالي (الفهم المعرفي للنص). وهذه المعارف التي تحتويها علوم البلاغة التقريرية يمكن أن تعطي إيضاحات هامة للأدب؛ عن ظروف نشأة النصوص الأدبية، كما أنها تسهل له تحديد علاقة النص الأدبي بالتراث... تلك المعارف التي لها اثر جديد في كل نص. وهذه الاثار مجتمعة تعطي طابع الموضوعية لوصف النصوص باجراءات تجريبية تربطها بخصوصيتها البنائية ومعرفة المؤثرات التي تحكمت في الاختيار الذي تبناه النص. بإقرار الدراسات الأسلوبية، (إن انتاج النص يقوم على اختيار العناصر اللغوية)، وبذلك تتجاوز نظرية النص البلاغية أطار علم اللغة بما ينسجم والتصور الأسلوبي لوصف بنية النص، باعتماد الجانب الإبداعي للغة لا القاعدي والقياسي، فتعطي بذلك طابع الموضوعية في التقويم وربط الخصوصيات البنائية ومعرفة المؤثرات السلوكية التي تحكمت في الاختيار الذي تبناه النص. وهذا يقتضي وعيا معرفيا بالأحكام والمقدمات الخاصة التي تكوّن المقومات البنائية على وفق معايير الصواب القاعدي، او ما يصطلح عليه بالبنية المثالية للكلام، ولذلك تعتمد الاراء الجديدة تحديد مفهوم النص بالنظر الى مكوناته وما تتضمنه عمليا من علاقات سياقية تنهي قصديّة الأديب إلى فهم المتلقي وعليه وُسِم النص البلاغي في بواكير التصور التاريخي بأنه (إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام وحسن النظم) والإحاطة تقتضي “الوعي المعرفي بالاختيار والنظم” ولعل أوضح دليل على ذلك جدلية النقاد والبلاغين في وصف الأبيات المعروفة التي أوردها “ابن قتيبة” في توصيفه أضرب الشعر بين حدّي الجودة والرداءة قال: وضرب من الشعر، حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى؛ كقول القائل: ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت على حدب المهاري رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح فـ”ابن قتيبة” يرى أنها حسنة الاختيار في مخارجها ومطالعها ومقاطعها ولكن معانيها غير فعّالة في دلالتها. ويرى “ابن طباطبا العلوي” أن هذا الشعر استشعار قائله لفرحه بأداء المناسك وقفوله إلى أهله وحاجته الذاتية لوصف سروره بذلك؛ قال وكأنه يرد على “ابن قتيبة” فهو معنى مستوف مراد الشاعر ونبه إلى جمالية الوصف في قول الشاعر “وسالت بأعناق المطي الأباطح” كما تسيل بالمياه. وشخّص “القاضي الجرجاني” قول الشاعر هذا بأنه من الاستعارات الحسنة في اختيار اللفظ وإحكام الصنعة (البنية) قال: “إذا جاءتك الاستعارة على هذه الشاكلة فقد جاءك الحسن والإحسان وقد أصبت إحكام الصنعة وعذوبة اللفظ”، ووافقه “ابن جنّي” على ذلك بقوله: “ليكون ذلك أوقع لها في السمع، وأذهب بها في الدلالة على القصد” فجمع فاعلية البنية البلاغية، في طرفي الاتصال؛ السمع/ الدلالة/ لاستجابة المتلقي، ولعل “ابن جنّي” كان أدل على بنية الأبيات البلاغية، ومهد “لعبد القاهر” وصف الأنساق الإبداعية الدالة على المعنى؛ قال إن قول الشاعر: (كل حاجة) تعبير يفيد منه أهل النسيب والرقة وذوو الأهواء والمتعة ولا يشاركهم فيه من ليس منهم؛ ألا ترى أن من حوائج “منى” أشياء كثيرة... منها التلاقي، ومنها التشاكي إلى غير ذلك مما هو تال له، ومعقود الكون به. ويرى عجبا في قوله “أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا” وهو معنى يكبره أهل النسيب، لأن فيه وحيا خفيا، ورمزا حلوا، ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون، ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون؛ من التعريض، والتلويح، والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأدمث وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفا، ومصارحة وجهرا. ومن ثم يوافق هذا القول هوى “عبد القاهر” ويأخذ القول من “أطرافه” الذي يدل به على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر والتصرف في فنون القول، وشجون الحديث. وقال: “ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرا من الفوائد بلطف الوحي والتنبيه؛ إذ جعل سلاسة سير الرواحل وسرعتها كالماء تسيل به الأباطح وقال (بأعناق المطي) ولم يقل بالمطي؛ لأن السرعة والبطء يظهران غالبا في أعناقها، أي أن بنية الأبيات البلاغية مثال لنصرة بعض المعاني الحكيمة والتشبيهية بعضا، “وأن سحر الشعر في تكامل أطرافه واستوائها”. أسلبة النص البلاغي وتحقق دراسة البنية النصيّة فيما هو أدبي وبلاغي وتحاول ان تجد حدا موضوعيا لنشأة اللسانيات في هذا الميدان ولكن الأسس العلمية لا تلبث ان تلتقي في مناهجها الموضوعية على دراسة مستويات بناء النص، الصوتية والتركيبية والدلالية وتشكل هذه المستويات طبيعة العمل الفني الذي هو موضوع المعرفة، ذاتي التكوين ولذلك يرى رفاتير/ إن النص الادبي صرح مكتمل البناء وهو متفرد دائما ولذلك فإن اختراق هذا الصرح يتم بتتبع سمة الفردية، وهذه السمة هي التي تسمى أسلوبا (وان الأسلوب في الواقع هو النص عينه) وبهذا الاتجاه تكون السمة البلاغية أسلوبية، تتحقق في طبيعة العلاقة الدلالية التي يشكلها النص، فتكون مكمنا يفسره لازم من لوازم اللفظ المختار او مؤدياته السياقية على محور الاختيار/ التوزيع، لان المقصد البلاغي يحقق جنسيته بالتركيب، وانتاجيته الدلالية، فطبيعة البنية في الجناس مثلا تخلق حيزا من الوعي بحيث تفارق الالفاظ معانيها الوضعية الى معان اخرى يكتسبها اللفظ ذاته من متغير البنية التي انتظم فيها كقول الشاعر: يا صاح إن أخاك الصب مهموم فارفق به إن لوم العاشق اللوم فجانس بين لوم/ اللوم، باتفاق اللفظ واختلاف المعنى؛ وكقول زهير: كأن عيني وقد سال السليل بهم عشية ما هم لو أنهم أمم فجانس بين “السليل” اسم واد و”سال” بمعنى جرى؛ فزهير يعرف أن أحبابه إذا ارتحلوا سلكوا هذا الوادي فجعله سببا لبكاه وجريان دمعه، فجاء الجناس تعبيرا طبيعيا عن المعنى بين الحدث وردة الفعل أسلمه إلى التجنيس بتناغم تلقائي بين سال/ السليل. ولعل من أبدع البنيات الأسلوبية التي جرت هذا المجرى قول أبي العلاء في قصيدة حفلت بأنواع الجناس: لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا ونحن في حفر الأجداث أحيانا تقول أنت امرؤ جاف مغالطة فقلت لا هومت أجفان أجفانا لم يبق غيرك إنسان يلاذ به فلا برحت لعين الدهر إنسانا فانظر فنية الصوغ البلاغي وتحولات المعنى في تجانس أحيانا/ أحيانا وتفقد الوعي الفني الذي ولّد نسقا جانس فيه جاف/ أجفان/ أجفانا لفظا وغاير المعنى؛ حتى ولأن الأجفان حاضنة “إنسان العين” التي بها مصارع العشاق استدل بها إلى الإنسان ذاته؛ فجانس “إنسان الذات” وإنسان العين فولّد بالمجانسة معادلا موضوعيا دالا على تحول المعنى العام للإنسان إلى خصوصية إنسان العين الذي يدرك العشاق معناه؛ وكأنه بذلك يتمثل قول جرير: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهنّ أضعف خلق الله إنسانا وانظر بعدها حالك إن كنت ممن تأخذ النظرات لبه وكيف ولّد بتكرار”نون العيون” و”حاء” حور تناغما رومانسيا جعل القتل من أخص معانيه وبُعد مراميه؛ في إيقاع يأخذ الألباب ويسبب الأسباب؛ ولعل من فروض القول وسننه الاستدلال بعد ذلك بقول “عبد القاهر الجرجاني” في أسرار البلاغة “لا تجد تجنيسا مقبولا ولا سجعا حسنا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلا ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه وأحقه بالحسن وأولاه ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهب لطلبه، أو ما هو بهذه المنزلة وفي هذه الصورة” ويعني بذلك أن بنية الجناس بنية إبداعية عفوية تعتمد تلقائية الإلهام في صوغها البلاغي؛ ومثّل لها بقول “الشافعي” عندما سئل عن النبيذ فقال على السجية: “أجمع أهل الحرمين على تحريمه” فجانس بين القائلين بالحكم وقولهم، في جواب أحكم فيه المعنى وزينه. وكقول البحتري: يعشى عن المجد الغبي ولن ترى في سؤدد أرَبا لغير أريب فجانس بين الأريب وسؤدد الأرب لأن للأريب بصيرة، وللغبي العشو، وكقوله في أروع صورة لضعف أهل الهوى: وهوى هوى بدموعه فتبادرت نسقا يطأن تجلدا مغلوبا فجانس بين الهوى والهوى بدموعه فجعل الدمع دلالة الوقوع والضعف وهو معنى الهوى الثانية. وكقول أبي تمام: وأنجدتم من بعد إتهام داركم فيا دمع أنجدني على ساكني نجد وهو من أبلغ صيغ الجناس ويسمى “الجناس الاشتقاقي” ويعتمد على سعة معجم الشاعر وقدرته تحويل المعنى باشتقاقه من أصل المفردة اللغوية؛ فجانس بين: أنجدتم/ أنجدني/ نجد مستغيثا بالدمع، على من أحب على عكس البحتري الذي جعل مبادرة الدمع غلبة للتجلد والصبر. ولا أدري لعل سجال الدمع والتجلد يحسمه “عباس بن الأحنف” الشاعر الذي كانت تلهج بذكره أستاذتنا المرحومة الشاعرة عاتكة الخزرجي قال: يا أيها الرجل المعذب قلبه اقصر فإن شفاءك الإقصار نزف البكاء دموع عينك فاستعر عينا لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينا للبكاء تعار فنداء أبي تمام للدمع/ فيا دمع أنجدني/ نداء استغاثة، أبقت النص مفتوحا بين احتمالين. وأما نداء ابن الأحنف/ يا أيها الرجل/ نداء تنبيه مخصص؛ أعقبه بفعل طلبي/ اقصر/ وجانسه بالاسم/ الإقصار/ والفعل الطلبي “حدّه عند البلاغيين: أمر يقتضي التنفيذ حال النطق به” أي يقيّد النص بالتنفيذ الذي يفضي إلى النتيجة التي تتم المعنى/ الشفاء من العذاب، وبعد أن أغلق النص على المعنى المطلوب/ الإقصار/ وهو اسم والاسم يفيد الثبوت؛ تحوّل إلى الماضي/ نزف/ الذي يفيد الثبوت في حدوثه من/ عينك/ ليجانسها مع/ عين/ الآخر الذي لم يبك، على أن حذق الشاعر في إحكام بنيات النص واشج بين الجناس والطباق، فنادى الرجل المعذب وهو الشاعر ذاته وجانس: اقصر/ الإقصار، شفاء، فولّد بهذا الصوغ الفني طباقا بين: المعذب/ الشفاء. ومن ثم بين: نزف/ مدرار، ومن ثم صعّد من أزمته وعبّر بطباق المقابلة بين: يعيرك عينه/ العين لا تعار؛ عن يأسه وقنوطه، وعززه بالاستفهام الذي أفاد التحسر لوقوعه في الجواب المستحيل؛ كيف لا يكون ذلك وحال ابن الأحنف كما يقول: هي الشمس مسكنها في السماء فعزي الفؤاد عزاء جميلا فلا تستطيع الصعود إليها ولا هي تستطيع إليك النزولا وهل غير البنى البلاغية أحكمت الصورة وولدت معنى “الحب المستحيل” وعومت أمل الشاعر في فضاء البنية أو “الفجوة” على ما اصطلح عليه كمال أبو ديب في شعريته؛ بين: السماء/ الأرض ومتأرجحا بين: الصعود/ النزول ولازمة نفي الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال “فلا تستطيع أنت/ ولا هي تستطيع/ لا الآن ولا في المستقبل. ولا عزاء لعشاق الشمس يا “ابن الأحنف” إن هذه المواجهة بين المتناقضات لا توحدّه إلا بنية الشعر البلاغية أو ما يسميه “جون كوين” منطق التوحد الذي يحكم الوعي الذي “يجده الليل في أحلامه، وتجده القصيدة في كلماتها” لأن بنية الظاهرة اللغوية، جزءا من بنية الكون وعليه فإن الصلة وثيقة بين الكلمات والأشياء، والشاعرية تنتمي إلى الكون انتماءها إلى النص تنقلنا من الأوراق إلى الحياة. وليس جزافا اسكن “ابن الأحنف” حبيبته “فوز” مسكن الشمس، فهي جارية الخليفة، وهو من ساكني “الأرض” وعمر ساكن الأرض لن يطال “الشمس” حتى لو أشرقت من مغربها. وبتحول البنية من التجانس اللفظي إلى سلبه في بنية الطباق؛ تقاوم الألفاظ مفارقة معانيها حتى تتكافأ دلاليا مع ما يقابلها في البنية اللغوية. ولذلك تكون البنية البلاغية صنعة في سياقاتها التعبيرية. وهو تصور له ما يعززه في الدراسات البلاغية، وعلى هذا اصطلح عليها حازم القرطاجني ـ الصنعة البلاغية ـ قال: “يكون النظر في “صنعة البلاغة” من جهة ما يكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه، ومن جهة ما تكون عليه تلك الصور الذهنية في انفسها ومن جهة مواقعها في النفوس من جهة هيئاتها ودلالتها على ما خارج الذهن ومن جهة ما تكون عليه في انفسها الأشياء التي تلك المعاني الذهنية صور لها وأمثلة دالة عليها” كقوله تعالى في أوضح صيغة من صيغ طباق السلب: (هل يستوي الذين يعلمون، والذين لا يعلمون) فقيد التحول بالنفي ليولّد معنى متناقضا ليعلمون/ يجهلون ولو صرح بـ”الجهل” لذهبت بلاغة البنية ورونقها. ولعل من أجمل صيغ الطباق المولّد للمعنى المغاير لبنية الطباق التقليدي؛ قول أبي فراس الحمداني: علي لربع العامرية وقفة يُمل عليّ الشوق والدمع كاتب ومن مذهبي حب الديار لأهلها وللناس فيما يعشقون مذاهب فجعل مكافئ الشوق/ البكاء، وجعل معادل حبه الديار/ ما يعشق الناس طرا في أبلغ صيغ الطباق الذي لم يأخذ حقه في الدراسات التقليدية “التعليمية” والتي بنت تصورها على فهم الطباق: “أنه يعني الشيء ونقيضه” وهو مفهوم عقيم قياسا إلى فهم “قدامة بن جعفر” لبنية الطباق التي تعني توليد تكافؤ بين معنيين وهو أقرب إلى الفهم اللساني والمعادل الموضوعي عند “رولان بارت”، ومن الأمثلة الدالة على ذلك قول “ابن خفاجة”: فطال وقوفي بين وجد وزفرة أنادي رسوما لا تحير جوابا وأمحو جميل الصبر، طورا بعبرة أخط بها، في صفحتي كتابا ولّد الشاعر نسقا بلاغيا كثّف فيه علاقات البنية بتكافؤ معنيين: استحضار الوقوف على الطلل، وعمّق دلالته بالطول/ الوجد/ وزفرة/ أنادي رسوما/ هذا الحشد المأزوم كافأه بمعنى يقطع نداءه ويديم أزمته بالصمت/ لا تحير جوابا/ وفي البيت الثاني، دلالة معادلة للصمت؛ وهي نفاذ الصبر وتصريفه بعبرة معالمها على صفحتي خديه كالخط في صفحتي الكتاب. يقول شارح الديوان (أخط كتابا) كناية عن أن الدموع فيها الكثير من العبر، أو لنقل إن الرسوم طبعت إجابتها على صفحتي وجهه يعني أنه طابق بين: الصمت/ العبرة/ الخط المعادل للكلام؛ على أني أرى أن الشاعر جعل صمت الرسوم معادلا لمحو الخط وإعادته بعبرة، وهي دلالة على الغياب والحضور الذي يمثله المشهد الطللي عند الشعراء عامة. من هنا تترابط الرؤية البنائية للنص بين التصور الذهني والمتغيرات الأسلوبية، وإن ما يسمى بـ(بنى النص البلاغية) يرتبط ارتباطا وثيقا بالبنية الأسلوبية التي اصطلح عليها باسم “صور أسلوبية” وهذه البنى مجتمعة تشكل طبيعة النص وهي تظهر على جميع المستويات النصية الصوتية والتركيبية التي تفضي إلى المدلول، الذي يشكل تلك الصور كمتغيرات أسلوبية، ومن الواضح فإن العلاقات اللغوية هي الرابط العضوي الذي يمنح النص سمته البلاغية ومزيته كما يقول عبد القاهر إذ “لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلّق بعضها ببعض، وتجعل هذه بسبب من تلك” وتحصيل هذه المزيّة بأن تحسن الاسناد والتعلق بين الكلم فتعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا. أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الاخر أو تُتْبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول. أو تاكيدا له أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام الكلام على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا أو تتوخى في كلام هو لاثبات معنى، أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتُدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، وأن تجعل فعلين أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الاسماء التي ضُمِّنت معنى ذلك الحرف وعلى هذا القياس... (لا يكون في الكلم نظم ولا ترتيب إلا بأن يُصنع بها هذا الصنيع). ولا يني عبد القاهر في متابعته الخطوط الموضوعية لتشكيل التركيب وخصوصيته البلاغية فيعمد إلى بيان كيفية هذا التشكل الذي يعطي النص مزيته العلمية التي قررها في النظم الذي هو توخي معاني النحو بين الكلم، وذلك بأن ينظر الناظم في وجوه كل باب وفروقه فينظر في الخبر والوجوه التي تراها في قولك “زيد منطلق” و”زيد ينطلق” و”ينطلق زيد” و”منطلق زيد” و”زيد المنطلق” و”المنطلق زيد” و”زيد هو المنطلق” و”زيد هو منطلق” وفي الشرط والجزاء في قولك: “إن تخرج أخرج” و”إن خرجت خرجتُ” و”إن تخرج فأنا خارج” و”أنا خارج إن خرجت” و”أنا إن خرجت خارج”. وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: “جاءني زيد مسرعا” و”جاءني يسرع” و”جاءني وهو مُسرع” أو “وهو يُسرعُ” و”جاءني قد أسرع”، وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصيته في ذلك المعنى نحو إن يجيء بـ”ما” في نفي الحال وبـ”لا” إذا أراد نفي الاستقبال وبـ”إن” فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون، وينظر في الجمل التي تُسْرَد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار فيصيب بكل من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له. أسلوبية العدول البلاغي ويمكن أن يستدل الباحث من قول عبد القاهر إلى ما اصطلح عليه في الدراسة الأسلوبية بـ(العدول) الذي يمثل الطاقة الإيحائية للغة في وضعها السياقي الذي يمثله النص البلاغي. ومثّل لذلك على ما يحدثه التقديم والتأخير من سبك لبنية النص وتوليد الصورة البلاغية، بقول الشاعر: سالت عليه شعاب الحي حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير فاستعارة السيول من كل الشعاب، لإقبال الناس على الممدوح، حقق جماليتها وحسنها ولطفها، وغرابتها، وضع الكلام بما قدم وأخر على وفق مقتضيات النظم البلاغي الذي هو “توخي معاني النحو بين الكلم” قال: وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف فأزل كلا عن مكانه الذي وضعه الشاعر فقل: سالت شعاب الحي بوجوه كالدنانير حين دعا أنصاره. ثم انظر كيف يذهب الحسن والحلاوة، وكيف تعدم أريحيتك التي كانت، وكيف تذهب النشوة التي كنت تجدها ومن هذا الفن موضع يدقّ الكلام فيه، قول سوار بن المضرب: بعرض تنوفة للريح فيها نسيم لا يروع الترب وان “تنوفة” اسم مكان/ قال “وهو لطيف جدا” وإنما لطفه بما قدم وأخر، فقد أخر فيها عن تنوفة، وقدم للريح وأخر وان وهي صفة للنسيم وقدم “لا يروع الترب” وإن شككت فقل: بعرض تنوفة فيها للريح نسيم وان لا يروع الترب؛ لتتبين الفرق بين بنية النص في الحالتين. ولعل من أدق صيغ “العدول” البلاغي صيغة “الالتفات” وعدّه “ابن الأثير” خلاصة علم البيان؛ ووسموه بـ “شجاعة العربية” لمخالفته أنساق العربية المألوفة، ومثّلوا له بقول امرئ القيس: تطاول ليلك بالأثمد ونام الخليُّ ولم ترقد وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءني وخُبرته عن أبي الأسود فظاهر الحديث يقتضي أن يكون بلسان المتكلم، ولكنه حوله بلسان الآخر لهول النبأ الفاجع الذي جاءه، فجرد ذاته والتفت يتفجع بما يعرفه من مراعاة مقتضى الحال من الآخرين تسرية عن نفسه، وعلى الغم من قدرة الشاعر على ترسيخ قناعته بتصريف أرقه وقلقه بليل الآخر/ ليلك/ لم ترقد/ ودلالة التفاته الأول أن النبأ حيّر عقله وأطار لبه فحوّل الخطاب، ويبدو في البيت الثاني أنه أدرك بعض الإدراك لما جرى له ولكن وعيه ما زال منصرفا لتغييب الحدث، فبنى الكلام على الأول: بات/ باتت له/ ولكن التصريف لم ينفع، فتراجعت قدرته على تغييب ذاته فجعلها طرفا في التشبيه/ ليلة الآخر/ ليلة العائر الأرمد/ هو حتى انصرف عن التشبيه إلى التصريح بالخطاب المباشر/ من نبأ جاءني/ ليوازن الصيغة ويظهر في الصورة. ويعلل الزمخشري أسلوبية العدول البلاغي بأنها “إيقاظ للسامع وتطرية له بنقله من خطاب إلى خطاب” يضعه في أفق الانتظار. ولا شك ان آلية الدلالة العدلية التي قدمها البلاغيون قد سارت في اتجاه بلورة مفهوم إبداعي لا يقيم اعتبارا حقيقيا للأصل المثالي إلا بوصفه وسيلة لقياس (العدول) كما وكيفا ومن هذا المنطلق يمكن القول انهم امتلكوا حسا صحيحا يتحركون فيه من المثال إلى الواقع الاجرائي، حركة منتظمة عن طريق الصيغ الإبداعية التي تعمل على تعليق الصفات لغير ما هي له ومن هنا يكون اعتراض “الآمدي” على قول أبي تمام: رقيق حواشي الحلم لو ان حلمه بكفيك ما ماريت في انه برد غير ذي جدوى، لأن حجته تتقاطع مع نزوع الشاعر الإبداعي الذي ينشده البلاغيون في شواهدهم. وأنه علل اعتراضه بعرف عام بأنه ما علم احد من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة وإنما يوصف بالعظم والرجحان والثقل والرزانة ونحو ذلك. وعليه يقرر محمد عبد المطلب القول: “وقد دخل البلاغيون هذه الدائرة التركيبية محملين بكم هائل من العلاقات التي تربط بين المفردات وتنقلها من دائرة العفوية الى مرحلة الوعي الابداعي التي لا تعرف معنى الالتزام التركيبي وانما ترى ان كل تركيب يخلق علاقاته الخاصة وبما انا التراكيب لا تتناهى فان العلاقات ايضا لا تتناهى”، مما يجعل السياق عرضة لمجموعة من الانحرافات البعيدة او القريبة التي لا يمكن قبولها إلا بالنظر في قائمة التحولات التي تنتاب لغة النص وتدفعها من منطقة دلالية إلى منطقة أخرى تعتمد “التخييل والمحاكاة” ولنخرج بالمثال على ذلك من بلاغة النص الشعري العربي المقيد بمقومات عمود الشعر؛ إلى نص شعري مفتوح تتجلّى في بنياته أجمل الصيغ البلاغية، يقول “وردزورث” في قصيدته الرائعة “على جسر وستمنستر” التي اختارها “أ. أ. رتشاردز” مثالا للتجربة الشعرية: “هل لدى الأرض جمال أبدع مما تبديه الآن؟ لقد ارتدت المدينة الآن ثوبا من جمال الصباح يا الهي؛ إن البيوت نفسها تبدو ناعسة وهذا القلب العظيم قد غفا في سكون”. يقول “رتشاردز” إن أول خطرات النص هو وقع جرس الألفاظ على “أذن العقل” والإحساس بالألفاظ وهي تردد في المخيلة، هذان معا يمنحان الألفاظ جسدها الكامل، إذا جاز لنا التعبير؛ أي أن الشاعر يجسّد الألفاظ ويصورها. فالأرض غادة أبدت جمالها البديع/ المدينة امرأة البسها الصباح ثوبا من جماله/ البيوت مأخوذة بهالة الصباح فبدت ناعسة/ والقلب المأخوذ بفتنة الليل والسهر ختم المشهد/ غفا في سكون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©