الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أحمد منصور بين شغف الكتابة وشتاتها

13 مايو 2007 00:43
إبراهيم الملا: تهيئ ''أبعد من عدم'' كمجموعة أولى للشاعر الإماراتي أحمد منصور أسئلة عدة حول تأثير الشتات الزمني على بنية المجاميع الأولى وعلى ملمحها العام، يتوزع الأسلوب الشعري في القصائد المتباعدة على أطر وعناوين ومناخات مغلقة، لا يجمعها سوى اسم الشاعر نفسه، بينما يهلك التعبير الشعري على ضفاف ومسالك ممزقة، و''أبعد من عدم'' كمثال على هذه الدينامية المسرفة في ارتحالها، هي العتبة الأولى التي شاء أحمد منصور أن يخفيها عن الداخلين إلى قصيدته، عتبة أولى بمثابة عنوان مشوش لسنوات من الاعتكاف والنأي وتأجيل النشر، فالديوان الأول يؤسس لعلاقة غامضة بين نص أعزل ومتخفف، وبين نص آخر مكشوف ومحاصر، أو بين كتابات مبكرة وفالتة في هامش التجربة وظلالها، وأخرى مقيدة في متن الديوان وتحت عين القارئ· يفتقد الشعر في الإمارات لما يمكن أن نسميه (الحالة العامة) والتي تخلق بدورها حالات من العدوى والوصال والتهافت الشعري، وقس على ذلك ما يصيب القصة والرواية والفنون الكتابية الأخرى الموسومة بعزلتها وتفرقها أيضاً· يكشف حال الشعر هنا عن مجازات فردية أو (كانتونات) متناثرة، دليلها على كل حال صدور ديوان هنا، أو نص طويل هناك، أو مخطوطة شعرية في فترات مبعثرة، وهي نصوص تجميعية تبدو في الغالب وكأنها تضع بشاراتها في مهب الصدفة وغياب المشاريع الشخصية· يصلح هذا الوصف كمفتتح لقراءة ديوان ''أبعد من عدم'' لأنه ديوان يتكئ على أزمنة متباعدة، يتعلى ركامات نصية، وكتابات هائمة بين النضج والتعثّر· يكتب منصور ما يشبه المرويات الذاتية التي ترصد علاقة الداخل بما يغذيها من أسفار وقراءات وقصص وصداقات، وبما يحيطها من جماليات ذائبة، وتشكيلات منهارة، ومتع ظاهرية تشكو النقصان والخيبة والهدر، وهي بذلك تتيح مجالاً لكتابة حائرة بين الشرح والتكثيف وبين الاستطراد واللمح وبين القول والإشارة· يقول منصور في مقطع من قصيدته ''انزلاق'': حقل الحنطة المغروس في قمة الجبل/ ها هو ذا ينزلق كأسطورة بين جناحين أو مخالب/ ينزلق/ لأن غيمة عابرة عطست/ إلا أنه في انزلاقه المهيب ذاك/ غرس قنديلاً وهو ينحدر/ القنديل أصبح راية الجبل· يكشف هذا المقطع عن انفصالات هائلة بين الموضوع وبين التعبير الشعري، فالانتباه للموضوع يستوجب الاقتران بوجد داخلي وفيض لغوي وحضور روحاني، ودون ذلك يخسر الشعر الكثير من خروقاته وحفرياته وإيغالاته القصوى، تنحو الكتابة هنا نحو التكديس والمجانية، أملاً في استدعاء النص الغرائبي والسريالي، ولكنها في الآن ذاته تتعثر بحشو لفظي وسرد مكرر، الحال ذاته ينطبق على معظم قصائد الديوان، والتي يبدو أن الشاعر لم يخضعها لإزاحات ومراجعات ونقد ذاتي، ولم تسعفه عجالة النشر في توفير آليات للصقل والتشذيب والنحت اللغوي، ومن هنا يزدحم الديوان بجمل وصفية تفيض عن حاجة المعنى، وتكشط مرايا الداخل لدى المتلقي، لنستمع لهذا المقطع من قصيدة ''ضجر'' كي يتأكد لدينا أن الشاعر ميّال للسرد ومضاعفاته وأشباهه: ها قد سئمت مجدداً/ أشعلت الذاكرة/ وبعثرت الأحرف على الطاولة/ أغمضت عيني/ وأخذت كومة/ رتبتها على الطاولة/ ولم أدرك المعنى/ بعثرتها مجدداً/ ثم رتبتها/ ولا معنى/ مرة أخرى/ أغمضت عيني وأخذت كومة جديدة/ فعلت الشيء ذاته/ وحصلت على النتيجة ذاتها! يداوم الشاعر هنا على الجزم والتكرار رغم اقترانهما بالشرود والدوران والبطالة الإيحائية، يقتفي شعر أحمد منصور أثر العلامات الغائرة في الكون والطبيعة ولكنه؛عوضاً عن تثبيتها في قصيدته، نراه وهو يخصّب متاهاتها، ويبعثرها على خارطة واسعة من القول المجرد والتوصيف الذهني، إنها بوصلة الكتابة التي لا تشير إلى جهة، وإذا أشارت فإنها تقود حشداً من الكلمات إلى براح أبيض، وإلى غابة جرداء· (بيدي/ حفرت حفرة صغيرة/ وضعت في الحفرة إناء/ وملأت الإناء بالماء/ أمام الإناء/ مهدت الأرض/ وعلى جنباته/ غرست حجارة ناتئة·يبين هذا المقطع من قصيدة ''في سبعة أيام'' عن مدى الطغيان الفادح لتقنيات الروي والنثر المتخفف من سطوة الشعر، نثر بلا تبعات سحرية مكثفة، وبلا تراكيب مفاجئة ومدهشة، يعلق الشعر هنا في فخ التعميم والإطالة، وتتأزم غاياته ومطالبه في سرديات دخيلة ونافرة، ولذلك يبهت القوام الشعري وسط أنقاض وأدخنة، وعراء بصري لا يُؤثثه خيال، ولا يُعمِّره تأويل· حاولت بعض قصائد الديوان الذهاب نحو غنائيات وشعر ملحمي، ولكنها انعطفت إلى وجدانيات واستعارات عاطفية، بدت في النهاية مثل رايات منصوبة في الماء أو في رمال جائعة، وهي صفة ملاصقة لكتابات أولى كنا نتمنى من الشاعر أن يتخلص منها في ديوان أسبق، لأنها نصوص تنتمي لزمنها وأفقها التجريبي المكتشف لأدوات الكتابة الشعرية، يتوضح هذا الملمح (العاطفي/الإشكالي) في قصيدة ''عربة النجوم وفاطمة'' وبالتحديد في المقطع التالي: في الأمس القريب فقط/ حاولت قطف التين من حديقة منزلنا/ عندها، وكنا نراقب المشهد عن كثب/ ارتعشت أناملها، واحمرت مقلة التين· نسوق هذه الملاحظات والإشارات كتعبير عن محبة وانتباه لتجربة أحمد منصور المشغولة بهموم نقدية وجمالية، خصوصاً فيما يكتبه من نثر تحليلي وانطباع حر يتوفران على لغة عالية وتوليف محكم وانشغال مخلص للمكان والأصدقاء وهاجس الكتابة المختلفة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©