الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

شاهد عيان في قلب دارفور 3-5

13 مايو 2007 00:46
الخرطوم- جميل رفيع: دارفور ظهرت في حياتي فجأة دون سابق إنذار·· لم ألتفت كثيراً إلى نشرات الأخبار وهي تتناول اتفاق ''نيفاشا'' الذي حسم الموقف بين الحكومة الانتقالية وجنوب السودان، ولا تلك التي تناولت قضية دارفور وما تمخض عنها من اتفاق سمي باتفاق ''أبوجا'' بين الحكومة السودانية والحركات المتمردة في الإقليم، أعني إقليم دارفور وما رافق ذلك من تحركات محلية سودانية وإقليمية ودولية حتى صورت تلك المنطقة من أخطر مناطق العالم· إلى تلك المنطقة الملتهبة من العالم كلفت برحلة للوقوف على الحقائق على الأرض هناك، وكان التكليف لي كالصاعقة، ليس خوفاً فالمغامرة زاد الصحافة، لكن ما انتابني من توتر هو أنني متابع للشأن المحلي الداخلي وأشعر بأن لدي القدرة لرصد أي حالة أو ظاهرة في المجتمع لعلمي ودرايتي ولأني جزء منه، أما أن أكون مكلفاً بتغطية منطقة ملتهبة في الشمال الغربي الأفريقي ورصد الحالة والواقع على الأرض، فذلك صعب لأن المسألة تحتاج إلى خلفية عن تاريخ المنطقة وطبيعة الصراع الدائر محلياً وإقليمياً ودولياً وليس هناك أي متسع للوقت فالسفر غدا، لذلك وجدتني لدى سماعي بأني المقصود بالمهمة أقرع كافة الأبواب للإلمام بالموضوع وطبيعة الصراع وما نتج عنه حتى الآن كمثل طالب كسول جلس العام كله لهوا ولعبا وجاء في نهاية الليل ليذاكر والاختبار غداً، وعليه إنجاز المنهاج كله في ليلة واحدة· ما أن انتهت مقابلتنا مع والي الفاشر حتى اتجهنا إلى السيارات للقيام بجولة في معسكري نيفاشا وأبوجا اللذين سميا باسمي اتفاقيتي السلام الأخيرتين· في الواجهة الأساسية للمعسكر الأول ''نيفاشا'' وقفت سيارة ''الأتوبيس'' التي بدت كأنها حلقة الوصل بين سكان المعسكر والعالم الخارجي·· دخلنا إلى المعسكر، وكان الناس يرقبوننا وينظرون إلى كاميراتنا التي تتجه إلى كل مكان·· كل شيء جديد ومثير حولنا خاصة لنا كصحفيين نريد أن ننقل كل التفاصيل إلى القاريء من دون أي تحريف· معسكران متشابهان·· مختلفان الحقيقة الحياة طبيعية بكل أبعادها، بعض الناس يسير على الطرقات التي تفصل ما يسمى بالبيوت (العشيش) أو'' القطيه'' باللفظ المحلي السوداني· معظم المساكن التي شاهدناها من أغصان الأشجار والقش المسطح أحياناً والمقنطر في أحيان أخرى أو قطع من القماش والبلاستيك تغلف بعض أعواد الحطب والتي تسمى مجازاً مساكن تعكس حالة من الفقر المدقع· سوق متكامل يباع فيه: اللحم، والخضار، والثوم، والبصل، والأحذية، والملابس، وأغراض المطبخ، وكل شيء موجود·· حياة طبيعية لكن في وضع مأساوي، حالة اصطفاف لجالونات المياه أمام إحدى الآبار، وأطفال يلهون، وأناس يتحركون على العربات التي تجرها البهائم الوسيلة المثلى للتنقل في المنطقة، خاصة عند البسطاء الذين هم من يدفع ضريبة هذا الحراك السياسي والاجتماعي، أولئك الذين لا حول لهم ولا قوة سوى أن يسيروا في اتجاه التيار أينما سار، أولئك الذين تدمع لهم الأعين والقلوب تحزن·· أولئك الذين تجلدهم الحياة بسياطها بقسوة على ذنب لم يرتكبوه، هجروا من قراهم ليبيتوا في العراء وقدرهم أن جاءوا ضمن منطقة تكالبت عليها موازين القوى في المنطقة وكل منهم يسحبهم إلى صالحه ليدفع بالرأي العام تجاه أطروحته السياسية والاجتماعية التي ينادي بها· التقيت بعض أولئك الذين يقطنون المعسكر، وسألتهم ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ أجمعوا على مسألة عدم توافر الأمن والاستقرار، وسألت عمّا إذا كان أحدهم يريد العودة إلى القرية التي جاء منها فقال: ''نعم، ولكن قبل ذلك يجب أن توفر لي الحكومة الأمن والاستقرار، وتعوضني عما فقدت وبعدها أعود إلى القرية''، قلت: ''ولكن ها هي الحكومة تعدكم بذلك''، فقال: ''لا أصدق حتى أمسك تعويضي بيدي، وأن يستقر الأمن في المنطقة بالشكل الطبيعي''، وسألته ممن تخاف؟ فرد قائلاً: ''من الجنجويد''، وقلت من هم الجنجويد؟ فرد ''أولئك الذين يغيرون على القرى ويقتلون وينهبون ويسلبون''·· سألته هل رأيتهم؟ فقال: ''لا، ولكن أسمع أنهم أغاروا على الآخرين في قراهم وارتكبوا بها جرائم، ونحن هربنا إلى هنا خوفاً على أرواحنا ومن حقنا أن نطالب الحكومة بتوفير الأمن، والحصول على تعويض حتى نبدأ حياتنا الطبيعية من جديد''· أجمع على هذا الحديث معظم من قابلتهم، وأشاروا إلى أنهم مستقرون في هذا المعسكر فهم يجدون المأوى والمأكل والعلاج، حيث توفرها المنظمات العالمية التي وصلت إلى الإقليم فهي حريصة على توفير كل سبل الرعاية في تلك المعسكرات لضمان بقائها كما يبدو· وبمناسبة ذكر ''الجنجويد'' فقد أطلت البحث والسؤال عن هذا المسمى ووصلت إلى ما قد يقنعني إلى حد ما بالتسمية التي معناها: ''أنه الجن الذي يمتطي جواداً ولديه بندقية جيم،3 وهو اسم البندقية أو نوع البندقية التي يحملها هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم الجنجنويد''· خرجنا من جولتنا في معسكر نيفاشا إلى معسكر أبوجا الذي بدا أكثر هدوءاً وأكثر اتساعاً وأفضل بيوتاً ولا أعلم لماذا، بل أتذكر أن أحدهم قال لي: ''إنه يسكن وزوجته وأولاده معسكر أبوجا أو معسكر السلام، وهو يسعى لكسب رزقه''· وبدا لي أن المعسكر الأول العمل فيه أكثر على الرغم من التشابه الكبير بينهما ولا عجب في ذلك لأنها أقيما للغرض نفسه· طريق التراب وبعد أن قمنا بأخذ عدد من اللقطات استقللنا السيارة وتوجهنا مباشرة إلى مطار الفاشر، حيث كانت تنتظرنا طائرة هناك، وفي الطريق لم أر طريقاً مرصوفاً سوى بالقرب من المطار وداخله، في حين كانت باقي الطرق لم تكن إلا ترابية ممهدة شقت بمعدات أو أنشأتها حركة السيارات·· بيوت خالية أو شبه خالية، علمت من مرافقي أن البعض آثر الخروج من بيته ليؤجره إلى إحدى منظمات الإغاثة، ويقيم في المعسكر من باب مصائب قوم عند قوم· انتهت رحلة الفاشر وتوجهـنا إلى المطار ولم تكن الطائرة التي أتينا بها، حيث قالوا لنا: ''إن الطائرة تعرضت لخلل، وسيتم إصلاحها وستلحق بكم في محطتكم الثالثة أي في مدينة نيالا''· الطائرة تابعة للمظليين، فالحبال المتحركة اعتلت سقفها من المقدمة إلى نهايتها، حيث بوابة كبيرة تتسع لمرور سيارة، وفي مؤخرتها تحت الذيل مباشرة تلك البوابة التي دخلنا عبرها لنجلس على مقاعد حديدية اصطفت على جوانب المقصورة· وإذ استغرقت رحلتنا الأولى من الخرطوم إلى الفاشر غرب دارفور نحو ساعتين ونصف الساعة، فقد استغرقت رحلتنا الثانية إلى منطقة الجنينة القريبة من حدود تشاد نحو ساعة· وما أن حطت الطائرة العسكرية روسية الصنع حتى كان في استقبالنا أبو القاسم إمام، الذي كان أحد المتمردين على النظام الحاكم وعدد من المسؤولين في الولاية· ووسط الترحيب نظرت إلى الطائرة فعرفت أوعلى الأقل خمنت لماذا لم نسافر بالطائرة الأولى نفسها التي قدمنا فيها من الخرطوم، وبدا السبب في أرضية المطار أي المدرج الذي لم يكن سوى طريق ممهد من التراب· استقللنا سيارات المستقبلين، وذهبنا إلى منزل الوالي وجلسنا فترة قليلة كاستراحة المحارب قبل الحديث الذي بدأه الوالي بكلمات الترحيب والإشادة بدولة الإمارات ومساعيها الخيرة بصفة دائمة ومآثر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ''طيب الله ثراه'' التي لم يخص بها السودان فقط بل شملت المعمورة·· رحمك الله يا زايد لقد تركت بصماتك ومآثرك في كل مكان·· شعرت بالسعادة وأنا أسمع الثناء على روحه الطاهرة وآمنت أن الإنسان عقب وفاته ''ينقطع إلا من ثلاث'' وإحدها هي ماثلة أمامنا· تنمية أقل كانت منطقة الجنينة أقل من الفاشر تنمية فبيوتها بسيطة وأناس يغدون ويعودون على ظهور الدواب، وعلى الأقدام ذهبنا إلى مركز المدينة· كانت الحياة عادية وبسيطة الناس يعملون ويبيعون ويشترون ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي جداً، حتى خيّل لي أن ما يذكره الإعلام حول القتال في دارفور أن هناك ربما دارفور أخرى غير التي أشاهدها خاصة أنه كما ذكره البعض أن الجنينة هي الأقرب لحدود تشاد، وما يفصلنا عنها نحو مائة كيلومتر، كما سمعت من مرافقينا والمفترض أن تكون المنطقة الملتهبة في العالم· لكن فإن حقيقة ما شاهدته كان طبيعياً ولا ينم عن أي تحركات عسكرية أو قتال· المساكن لم تختلف كثيراً عن سابقاتها ويبدو أنها ثقافة المنطقة واحدة· الناس يتحركون في الشوارع والمقاهي ومحال الخضار بعضهم يفترش الأرض ببضاعته، وكل شيء يسير بشكل طبيعي· تعتبر الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور من أكثر ولايات السودان مساحة وسكاناً، حيث بلغ عدد سكان الولاية حتى عام 2006 حوالي 1776000نسمة وفقاً للإحصاء الرسمي· أما الأحداث والنزاعات التي وقعت في ولاية غرب دارفور فقد تشابهت نتائجها مع الولايات الأخرى في الإقليم إذ أدت الحرب إلى النزوح واللجوء، لكن بالرغم من ذلك هناك أعداد كبيرة من السكان ما زالت مستقرة في مدن الولاية الكبيرة وبعض القرى التي صمدت أمام التداعيات الأمنية الحرجة· أكد والي غرب دارفور أبوالقاسم إمام أن الولاية الآن آمنة وليست مثل ولايتي شمال أو جنوب دارفور، فهي تتمتع بعلاقات جيدة بين أبنائها بسبب المصاهرة بين سكانها، ولذلك لم تتأثر بما جرى في الولايتين الأخريين، فجميع كبار الموظفين من الجيش والشرطة والحكومة يعملون من أجل الأمن، حيث تضم الولاية معسكرات للنازحين حول الجنينة· وتابع: ''إن الولاية تشهد مشاريع تنمية في مختلف المجالات، وتقدم الخدمات للمواطنين''، مشيراً إلى أن هناك طريقاً سوف يتم إنشاؤه يمتد ما بين الخرطوم والجنينة، كما أن هناك مشروعاً لإنشاء مطار سيفتتح في شهر يوليو المقبل، إلى جانب مشاريع تنفيذ طرق داخل المدينة ومحطات كهرباء جديدة في غالبية الولاية، موضحاً أن في الولاية محطات وشبكات مياه في عدد من المناطق إلى جانب وجود الخدمات الطبية والصحية وأنه سيتم إنشاء مستشفيات جديدة· وقال: ''إن الولاية تسعى إلى تطوير الخدمات وتقديم مشاريع تنمية، وإنها تعمل على اتساع خدمات التعليم، إلى جانب وجود جامعة عريقة فيها هي جامعة السودان المفتوحة، والتي أقيمت قبل عامين، وهي تسعى إلى تأهيل الطلبة ليتقلدوا وظائف في الإقليم''، مؤكداً أن الحكومة تسعى إلى وضع خطط خاصة للتعليم، حيث زادت المدارس أكثر من أربعة أضعاف· وأكد أن الولاية لا تعاني هاجساً أمنياً، منوهاً بأن المشكلات التي برزت بين الرعاة والمزارعين وازدهار تجارة السلاح أدت إلى ظهور الخلافات وتمنى من الإخوة في المعارضة ممن لم يوقعوا على اتفاقية السلام في أبوجا أن يحتكموا إلى صوت العقل ودفع الولاية إلى بر الأمان، بعيداً عن محاولات الاصطياد الفاشلة التي تقوم بالدول الغربية والمنظمات اليهودية· أكثر من خلاف تحدث أحد قياديي حركة تحرير السودان والأمين السياسي علي الماجوك، الذي شارك في توقيع اتفاقية أبوجا وعاد ليشارك في السلطة وهو عضو لجنة تقسيم السلطة في الاتفاقية ووزير الثروة الحيوانية في الحكومة المحلية الحالية، انه ومن خلال مسيرة العمل المسلح في الإقليم أتضح له أن 80 بالمائة من القتال كان يدور بين أبناء دارفور، وأن هذا النهج العسكري والسياسي أدى إلى انقسامات، حيث بدأ الخلاف يتضح خلال وجود حركة العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان المعارضتين، مؤكداً أن الأزمة انعكست سلباً على أوضاع المواطنين في الإقليم، كما أن التدخلات الخارجية والرغبة في تحقيق أجندتها في السودان عمّقت الخلافات بين أبناء الوطن الواحد· مشيراً إلى أنه على ثقة أن الإخوة في حركة تحرير السودان سوف يتجاوزون الصراع الحالي متجهين إلى السلام· وقال: ''إن سكان دارفور يعدون 20 بالمائة من العدد الكلي لسكان السودان، وأن اتفاقية أبوجا نفذ منها 40 بالمائة، وأن التمثيل شمل كل أطياف المجتمع''، موضحاً أن كل رجل في دارفور حدد حقوقه من قبل المركز في الخرطوم بما يمكن من الوصول إلى نهاية لهذه المشكلات، وتساءل قائلاً: ''هل نمارس حقنا عبر قبائلنا أم أحزابنا، ففي أبوجا لم يطرح تقسيم المجتمع إذ تم الحديث حول الحقوق فقط؟''· قال عبد الله خميس محمد وزير الإعلام والشؤون الاجتماعية في الإقليم: ''إن اتفاقية أبوجا خاطبت القضايا الرئيسية وعالجت كثيراً من المشكلات والخلافات السياسية وعملت على تأسيس دستور لكل ولاية إذ لم يكن هناك معيار لدخول أفراد القبيلة إلى السلطة، بقدر ما تم الحديث عن الكفاءة والمقدرة فهما المعياران الحقيقيان لأبناء دارفور''· وأوضح أن الرعاة والمزارعين تحكمهم أعراف وعادات وتقاليد منذ مئات السنين، وأن اتفاقية أبوجا قامت على الاستقرار والالتزام في الإقليم إلا أن هناك مبالغة من قبل المعارضة في قضية التعويضات كما أن 75 بالمائة من النازحين في المعسكرات مغلوب على أمرهم· فيما شخص طارق عبد الرحمن وزير الثقافة حالة ولاية غرب دارفور بمرحلة مرض يدعى ''التمرد''، وقال: ''لسنا تجار موت، ويجب أن تكون هناك مصارحة من قبل المسؤولين الذين يقولون إن الخلافات بين الرعاة والمزارعين، والحقيقة هناك من يعتبر أن ولاءهم للوطن، وآخرون ولاءهم لجيوبهم''· لكن صلاح بابكر عضو مجلس شورى في الإقليم اعتبر من جانبه أن الصراع في الإقليم ليس بين رعاة ومزارعين، بل بسبب عدم وجود المشاريع التنموية التي أغفلتها الحكومة الاتحادية، فالولاية لا يوجد فيها أي مشروع تنمويـ وان قصة الصراع بين الرعي والمزارع تهميش للصراع، وان الخلاف الحقيقي غير ذلك، وقال: ''نحن نطالب الحكومة الاتحادية بتنفيذ مشاريع تنموية في الولاية''، وأضاف: ''المراعي والمزارع وليدة لغياب التنمية، ولو كانت هناك تنمية لتم حل 80 بالمائة من مشكلة دارفور''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©