الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كتابة الحرب.. روايتها

كتابة الحرب.. روايتها
16 ديسمبر 2015 20:38
نبيل سليمان تراجعت هيمنة المركز (القاهرة، بيروت، دمشق) في الفورة الروائية العربية، وتضاعف وتميز حضور الأطراف، ومن ذلك كانت الرواية في اليمن في العقد الأخير بخاصة، حيث تلامعت أسماء علي المقري وحبيب عبد الرب سروري وأحمد زين ووجدي الأهدل ونادية الكوكباني. ولأن الحرب كانت العنوان الرئيس لتاريخ اليمن الحديث منذ ستينيات القرن العشرين وصولاً إلى زلزال 2011، فقد كانت شاغلاً كبيراً للفورة الروائية اليمنية. لتكن البداية بفكرة الحرب بما هي واجب وطني ومقاومة، حيث يتقدم الفرنسي الأعرج فرانسوا في رواية علي المقري (بخور عدني)، فيعلن مقته للحرب، وعجزه – بالأحرى رفضه – عن حمل سلاح أو مساعدة من يحمله، وليس فقط بسبب العاهة (العرج)، وإذا كان الشعار المدوي هو: لا صوت يعلو فوق صوت الوطن، وصوت الوطن يأمر: إلى الجبهة سرْ، فالوطن الذي يحمله فرانسوا بين جوانحه لا يطلب منه شيئاً، وهو المتسائل: أليس لكلٍّ وطنه المختلف؟ فهل يكون ذلك (إعاقة وطنية) كما يشخص صديق لفرانسوا، فيه وفي الشباب الهاربين من الحرب؟ في رواية (الملكة المغدورة) لحبيب عبد الرب سروري – والتي كتبها بالفرنسية وترجمها علي محمد زيد – تبدو الحرب كقدر يمني بئيس. فالشاب عدنان يخشى أن يقتتل الناس فيما بينهم على نحو متواصل في هذا البلد الفقير الذي تنخر فيه الأمية، وتشوه فيه القبليةُ النفوس، وحيث الموت أمر عادي. ويمضي عدنان في استشرافه المبكر بالسؤال: كم ستكون جبال الجماجم التي ستراكمها الحروب؟ وكم ستكون الحروب التي سيخوضها اليمنيون باسم القضايا الكبيرة؟ وإذ يرمي عدنان صديقُه الراوي بالتشاؤم، يتابع: «إننا في بلد يتقدم بإصرار وثبات نحو الخراب»، ففي اليمن تكرار عادي لدورة الشؤم منذ لوثت الفئران السدود القديمة، وتاريخ اليمن هو قرون من الحروب المتواصلة والسلطات الجاهلة الاستبدادية، ومن الظلم والعنف. بخور عدني إلى لحظة بعيدة قريبة من هذا التاريخ، تعود رواية (بخور عدني)، وهي لحظة الحرب التي جاءت بالأتراك إلى اليمن، فكانت الأغنية التي يؤديها المطرب اليهودي الذي يحمل هذا الاسم (هاي هتلر)، وهي أغنية الأمهات التركيات عن أبنائهن الذين ذهبوا إلى اليمن ولم يعودوا، ومنها: «إلى اليمن/‏ راحوا خلف الشمس إلى اليمن/‏ ذهبوا بعيداً ولم يعودوا/‏ إلى اليمن/‏ راحوا مع باشا ظالم وقاتلوا/‏ قاتلوا بلا فائدة/‏ هناك ناموا/‏ ناموا في المقبرة/‏ ولم يعودوا/‏ آه يا يمن...». ومثل ذلك نجد في رواية أحمد زين (ستيمر بوينت) عبر شخصية والد قاسم الذي كان مجنداً في الجيش التركي عندما كان يحتل سلطنة لحج، ثم جاء الرجل إلى عدن بعد الحرب العالمية الأولى التي توجت بهزيمة الأتراك، حين تركوا كل شيء ورحلوا لتحمل اليمن من بعد اسم مقبرة الأناضول. الحرب العالمية الثانية تأتي الإشارة إلى الحرب العالمية الثانية في رواية (بخور عدني)، إذ يستذكر أبو الفضل تحليق الطائرات الحربية الإيطالية فوق منطقة الشيخ عثمان من عدن، حيث سقطت طائرة وأسر الدفاع العدني ملاحها، وهرب السكان إلى لحج خوفاً من الغارات، بينما كانت أخبار الحرب تختلط بالأغاني في كازينو البندر. وقد راجت بعد الحرب الأغنية التي يرددها الأطفال: «عدن حلّي السواد والبسي الأخضر/‏ الإنجليزي انتصر، جرمان وطليان انكسر». أما رواية (ستيمر بوينت) – والعنوان هو اسم الحي الأوروبي في عدن – فتعبر بجيش الاتحاد العربي الذي بناه الإنجليز لحماية السلاطين. لكن الجبهة القومية أسقطتهم، وإليها سلم الإنجليز عدن فكان الاستقلال، وكانت صراعات فصائل الكفاح المسلح. وفي هذا السياق يأتي الحضور الكبير لليهود في الروايتين. ففي (بخور عدني) فصل (معركة القوارير) الذي يعود إلى أصداء قيام إسرائيل سنة 1948 في اليمن، حيث تظاهر العرب ضد تقسيم فلسطين، وهتفوا: (فلسطين عربية وستبقى عربية)، كما هتفوا: (يا يهود يا يهود/‏ جيش محمد سوف يعود. وقد أعلن الإضراب ثلاثة أيام في (مستعمرة عدن)، ونشب القتال، وسقط قتلى من العرب ومن اليهود، وأُحرقت منازل ودكاكين وسيارات. ومن الحضور اليهودي الفعال في رواية (ستيمر بوينت) يتردد نقل اليهود من عدن ومن اليمن كلها إلى فلسطين، وغطرسة بعض اليهود تحت تأثير الصهيونية العالمية، وعودة بعض المجاهدين الفلسطينيين من منفاهم في سيشل إلى اليمن، وما طرأ من تبدلات بعد قيام إسرائيل، إذ ما عاد معبد ماجن أبراهام يغص باليهود أيام السبت، وما عاد عرب يهدون جيرانهم اليهود في عيد السكوت، وما عاد غناء يهودي يسمع في الشوارع في العيد. حرب المعمعان من المعلوم أن القبائل قد حاصرت صنعاء في صيف 1968 لمدة سبعين يوماً، قطعت خلالها الطريق بين العاصمة اليمنية ومدينتي تعز والحديدة، وزحفت نحو جبل عيبان غرباً، وظفار جنوباً، وجبل النبي شعيب ومرتفعات ضلاع همدان شمالاً، وجبل الطويل وبني حشيش شرقاً، بينما آزر المحاصَرين في صنعاء متطوعون من المحافظات الوسطى والجنوبية، وأيدتهم الجبهة القومية في اليمن الجنوبي. وقد عادت إلى كل ذلك، وبالتفصيل والتوثيق، رواية (صنعائي) لنادية الكوكباني، من خلال ما ترويه الراوية الفنانة التشكيلية صبحية عن والدها، وما يرويه صديقها حميد عن والده، والوالدان كانا في المعسكر الجمهوري الذي دافع عن صنعاء المحاصرة. وقد جاءت الشهادة مفتاحاً لحضور الحرب في رواية صنعائي. فالرواية تبدأ من شارع الشهيد علي عبد المغني، واستذكار صبحية لحكايات أمها وأبيها عن الشهداء، ولإعجاب جدتها بوالدة الشهيد علي عبد المغني مؤسس تنظيم الضباط الأحرار الذي أنجز ثورة 1962، فهذه الأم لم تبكِ عندما بلغها نبأ استشهاد ابنها الذي بكى جمال عبد الناصر لاستشهاده، بل رددت قول ابنها: والله يا أمي ما أموت إلا موت الأبطال. كانت مهمة والد حميد أن يصل بين محاور القتال الأربعة، فينقل ما يجري فيها والخسائر والمعنويات... ويتذكر حميد أنه وأخته في طفولتهما كانا يتلقفان حكايات الأب عن الحرب التي يسميها حرب المعمعان: «كان ياما كان في قديم الزمان يوجد حرب المعمعان..»، وكان الطفلان يرويان لأترابهما ما يرويه والدهما، فيصير الجنود بعددهم البسيط وعدتهم المتواضعة أشاوس لا يُرى إلا غبار معاركهم، ولا يسيرون إلا على جثث أعدائهم، وقد استشهد والد حميد قبيل انتهاء الحصار، فصار ابن الشهيد يحظى بالتقدير أينما حلّ. لكن هذه الوجاهة خفت تدريجياً، إذ لم يعد الدم الذي أهرقه الشهيد ذا أهمية بالنسبة لمن لا يعرف تاريخ حصار السبعين الذي قامت أثناءه لجان المقاومة الشعبية بحراسة المدينة وتوزيع الإعانات. وفي ذكريات حميد أن أولي الأمر رفضوا إعطاء الأسرة بذلة الشهيد كما تمنت الأم، بل دفنوه بالبدلة المدمّاة، كي يتحول دمه إلى المسك يوم القيامة. وإذا كان وهج الشهادة والشهيد سيخبو بالاطّراد مع تمكّن الديكتاتورية، فالرواية تسجل أيضاً المتاجرة بالشهادة والشهيد، كما جسدها الاحتفال بهما في القصر الرئاسي في (يوم النصر)، وحضره من ذوي الشهداء صبحية وحميد، ورعاه وتبختر فيه (الفندم) أي الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح. عبر الملخّص السردي غالباً، جاء حضور حرب المعمعان في الرواية، حيث استخدمت القبائل مدافع الهوزر والهاون والمدافع الصاروخية والبوازيل والرشاشات، بينما استخدم المحاصَرون الدبابات القديمة التي خلّفها الجيش المصري الذي انسحب من اليمن إثر هزيمة 1967. ومن الحرب كان ضرب المحاصِرين لمطار الرحبة شمال صنعاء ومطار السبعين جنوبها، كما كان خروج حميد وأترابه بعد كل غارة إلى الشوارع، حيث يرون الجثث، ومنها الجثة التي نسيها من يدفنون حتى انتفخت وانفطرت، وبدأ الدود يخرج من الأنف والأذنين. حرب 1986 في العاشرة من صباح 13 يناير- كانون الثاني 1986، وكما نقرأ في رواية حبيب عبد الرب سروري (الملكة المغدورة)، واصلت الإنسانية برتابة محزنة حياتها الغامضة التي بدأت قبل ثلاثة ملايين سنة، فبدا كل شيء في عدن عادياً «إذا نسينا تناسخ المؤامرات والضربات المقيتة في الحياة السياسية اليمنية التي سوف تلد، كما فعلت دائماً، وستتجه دورات العنف الخسيس نحو الهاوية». إنها الحرب في واحدة من انفجارات تلك الدورات الهائلة، حيث نزل غضب الله وانقسم الشعب الجمهوكي (الجمهوري – الملكي) – كما نقرأ في رواية سروري نفسه (ابنة سوسلوف)- إلى عشيرتين، ورأت كل في الأخرى شراً مطلقاً وعدواً ينبغي ذبحه تحت أكثر الشعارات تقدمية. وكما يقول عدنان في رواية (الملكة المغدورة)، وهو الذي قدره أن يكون شهيداً: «معارك قديمة قبلية عشائرية مزينة اليوم بعطورات الصراع الطبقي». وهكذا، تطلق النار ببرود العشيرةُ التي أعدت كل شيء سراً، على العشيرة الأخرى، في مقر المكتب السياسي أو الشارع أو المكاتب الإدارية... وكل شخص يقتل من بدا يوماً أنه صديقه الحقيقي، لكأنها مذبحة القلعة التي أعدها في القاهرة محمد علي باشا للماليك، لكن المذبحة اليمنية قامت في اليمن كله، وانفجرت، بحسب الرواية، أفظع الحروب في تاريخ اليمن: شاملة وعنيفة وصاعقة. وقد انتصرت العشيرة الضحية التي كان يفترض أن تقضي عليها مذبحة المماليك، فبدأت بجمع بطاقات الهوية في الشوارع لإفناء العشيرة الأخرى، بالقدر نفسه من الخسة والشؤم، مخدرة بحجج المادية التاريخية من آخر صيحة، وتحت أقنعة البروليتاريا، كما تتابع الرواية سرديتها بسخرية كاوية. في هذه الحرب كانت كلمة السر الوحيدة هي الأمر بإبادة الخصم في كل مكان، عملاً بالمثل القائل: اطرقوا الحديد وهو ما يزال ساخناً، وقد تواصلت الحرب القبلية العشائرية الأممية البروليتارية عشرة أيام، وخلّفت عشرة آلاف قتيل، وإذا بعدن مدينة موبوءة بالطاعون، سكرى في حفلٍ موسيقيٍّ مشتعل بالحرائق، فالطائرات والسفن من كل صوب تقصف بجميع أنواع القذائف إلى أن تبلغ ذروة الانتشاء. وكذلك غزت الشوارع دبابات ومدافع ثقيلة كانت العشيرتان قد أخفتها منذ شهرين، وارتجف السكان وابتهلوا، إذ لم تعد الحياة ممكنة، فالحرب التي بدت أولاً مثل أية حرب يمنية عادية، وإن تكن أشد وأقوى وأحدث وأعم، بدلت جلدها بقصف المدافع لآبار المياه حول عدن، كما سيفعل في حرب 1994 جيش الوحدة اليمنية عندما أراد توحيد السكان بالموت عطشاً. أما في حرب 1986 فمن السكان من شربوا ماء المحيط الهندي المالح، ومنهم من شرب بول المراحيض المالح، أو تقفّوا آثار الآبار المطمورة التي تذكرها كبار السن. وتسابق الناس إلى الحفر وسط الشوارع والبيوت، واصطفوا في طوابير طويلة أمام الحفر الموحلة المصفرة، وفرق القصف المتبادل تلك الطوابير، فتكدَّست الجثث والأنقاض، وظل عدنان وحده يذرع الشوارع، يتصفح الدبابات والطائرات في رقصها الجنائزي، كما لو أنه يشاهد شريطاً سينمائياً وهو على يقين من اقتراب نهايته. إنها عدن الرواية: المدينة المهانة المغتصبة، فريسة الجنون القاتل، المدينة المتعددة الأعراف والعناصر، الحلم المستحيل للإسكندر، باب إرم ذات العماد وباب العربية السعيدة، عدن التي أبدعت وأعادت في تصوير فتونها قبل الاستقلال روايتا (بخور عدني) و(ستيمر بوينت) أصبحت فريسة لحرب 1986 التي سيتردد صداها في رواية سالم العبد (هذيان المرافئ) في التجمعات اليمنية في برلين، كما سيتردد صداها في رواية نادية الكوكباني (حب ليس إلا) عبر شخصية الأكاديمي هشام الذي سيفرُّ من جامعة عدن إلى جامعة صنعاء إثر تلك الحرب، فينجو برأسه، أما رأس المدينة فسرعان ما تبلوه الحرب التالية عام 1994، كأن لم تكفه بلوى حرب 1986. حرب 1994 في رواية (حب ليس إلا) نفسها تتزوج فرح الأكاديمية من رجل الأعمال الغيور الذي يحبسها في البيت فتحرد عند أهلها إلى أن يسترضيها، ويطير بها إلى عدن من أجل شهر عسل جديد، لكنه يقضي في حادث، بينما تنفجر في المدينة حرب 1994، وتشهد فرح إعلان الجنوب اليمني انفصاله عن الشمال بعد أربع سنوات من الوحدة، وبعدما فشا في عدن المطوعون بجلابيبهم البيضاء ولحاهم الطويلة، كما فشت مقارم غطاء الرأس الطويلة للنساء. وتحضر حرب 1994 أيضاً في رواية نادية الكوكباني (صنعائي)، وذلك عبر الاحتفال في 7/‏7/‏2009، وهو اليوم الذي سمي يوم النصر، حيث هزم الانفصال الجنوبي، لكن الراوية صبحية تتساءل: نصر لمن؟ وعلى من؟ أما رواية حبيب عبد الرب سروري (ابنة سوسلوف) فتذهب أبعد من هذا السؤال الاستنكاري، إذ يسمّي عمران، راوي الرواية وبطلها، غزوة 1994، ويصور كيف نُهب الجنوب عن بكرة أبيه، وكيف تحالفت القوى السلفية والقبلية والجهادية والعسكرية في رأس السلطة، فقضت على هوية عدن، وألغي التعليم المختلط، وفرض الحجاب والنقاب، وأغلق مصنع بيرة صيره كي تزداد ثروات كبار المسؤولين من بيع الخمور المهربة. وفي الرواية أن التحضير لحرب 1994 قد بدأ قبل نشوبها باغتيال 190 من قادة الحزب الاشتراكي اليمني واليسار، وأبرز العناصر المدنية، على يد تنظيم القاعدة، وبالتعاون مع الأصابع الخفية لرأس النظام، وبرضى ودعم السلفيين والإخوان المسلمين. وهنا تتوالى الصفات التي رأينا لعدن جرّاء حرب 1986، لتغدو، جرّاء حرب 1994، المدينة المسفوك دمها، بعدما كانت المدينة الكوزمبوليتية الساحرة، سواء في رواية سروري هذه، أم في روايتي علي المقري وأحمد زين المذكورتين. وسيتجدد سفك دم عدن سنة 2009 في دورة جديدة من دورات حرب السلطة عليها، بعد قليل من دورة جديدة للحرب في صعدة. حرب صعدة 2008 تذيّل نادية الكوكباني رواية (عقيلات) بملحق عنوانه (عن حرب صعدة). وكانت الكاتبة المطلقة وبطلة الرواية روضة حسين قد روت من قبل كيف توسط والدها لدى شيوخ القبائل في عقر دار الحوثيين (صعدة) لجمع السلاح من المقاتلين المعارضين للسلطة اليمنية. وفي الرواية أن من كان زوج روضة اشترى ما جمع والدها من السلاح، وأعاده إلى عناصر من قمة هرم السلطة تعزيزاً لحظوته لديهم ولتجارته. لقد شبكت روضة حسين ببراعة بين حياتها الشخصية المعقدة وبين التاريخ اليمني الحديث المعقد، ومنه ما جاء في ملحق الرواية نقلاً عن تقرير المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية لعام 2007، والذي تحدث في محوره الأمني عن تنظيم (الشباب المؤمن)، وهو جناح من (حزب الحق)، ذو هوية دينية تتأرجح بين الاثني عشرية المحضة، والزيدية المحضة. ويرجح التقرير انتماء أولاء الشباب فقهياً إلى المذهب الهادوي الزيدي، وعقائدياً إلى فرقة الجاوردية الزيدية، وهي أشد فرق الزيدية غلوّاً، وبخاصة في مسألة الإمامة وعدالة الصحابة. أما سياسياً فيترجح الشباب المؤمن بين حزب الحق وحزب المؤتمر الشعبي العام. وكانوا يرون في القيادات الكلاسيكية حائلاً دون طموحهم بعدما تراجع حزب الحق في الانتخابات النيابية عام 1997، وإذ حمّلوا تلك القيادات مسؤولية التراجع، استقالوا جماعياً وشكلوا تنظيم (الشباب المؤمن)، ورفعوا شعاراتهم في جامع الهادي في صعدة في صلاة الجمعة، أثناء مرور علي عبدالله صالح إلى الحج سنة 2002، حيث منعوا الرئيس المخلوع من الخطبة وهم يهتفون بما بات شعارات (أنصار الشريعة): الله أكبر – الموت لأميركا – الموت لإسرائيل – اللعنة على اليهود – النصر للإسلام. ويتحدث ملحق الرواية عن حسين بدر الدين الحوثي، والد عبد الملك الحوثي، والذي لم يكن جمهوره يعترف بغير شرعيته في مديرية حيدان. ويفصل الملحق – التقرير في جولات الحرب الحوثية، ابتداءً من أولاها التي اندلعت في 20/‏ 7/‏ 2005، وصولاً إلى الجولة الخامسة التي دارت في صنعاء، حيث حاولت سلطة علي عبدالله صالح ضرب تنظيم الشباب بعد دعمها له، إذ رصدت لهم ميزانية شهرية، وطبعت لهم منشوراتهم، وكانوا يتلقون أيضاً دعماً من إيران ومن جمعيات ورموز شيعية شتى في الخليج. كما كان أولاء الشباب يتشبعون بالفكر (الثوري) عبر زياراتهم إلى إيران ولبنان. لقد صدرت الطبعة الأولى من رواية (عقيلات) في صنعاء في نهاية عام 2008. وقيض لي بعد سنتين أن أشرف على إصدار طبعة ثانية من الرواية في سورية. ومن أسف أنني اقترحت على الكاتبة حذف ملاحق الرواية الثلاثة – والثالث عنوانه: عن الحراك الجنوبي – ومن أسف أن الكاتبة أخذت باقتراحي. ذلك أن ما جرى في اليمن منذ الصيف الماضي ينادي ملاحق الرواية، حتى لو بدا أنها تثقل على فنّيتها. فالرواية التي يشغلها ما يمور في الفضاء العربي، يصخب نداؤها لكتابة التاريخ الجاري، السائل، الساخن، وهو النداء الفني الأعقد من نداء الحفريات الروائية في التاريخ المنجز، وإن نسبياً. من الربيع إلى الحرب ينقل الراوي في (ابنة سوسلوف) عن منشور من حائط فيسبوك صديق له: مدينة صغيرة، خارج أسوارها قوة عمياء مغمورة بالسلاح، تحوم حول مداخلها مثل محاربي الفايكنغ، لا ينام مقاتلوها، فهم يحملون شعلات ملتهمة مصوبة نحو المدينة. ويعقب الراوي أن هذا المشهد القادم من ما قبل الحضارة والكتابة، يمكن مشاهدته في المدينة التي يحمل هو اسمها عمران. لكن الأهم هو ما كان يجري في صنعاء بعد زلزال 2011، كما يروي عمران حين بدأت قوات أمن العائلة الحاكمة الاعتداء على المعتصمين في ساحة التغيير. فالحرس الرئاسي وبلاطجة الصالح، كما تنصّ جروح وسخرية الكتابة الروائية، يطلقون النار والغازات السامة، والقناصة يفاجئون الجميع، ويسقط العشرات، بينما تردد أبواق النظام أن كل هذه الدماء ليست إلا ماكياجاً من شراب الفيمتو الأرجواني الأحمر. يقلق عمران تحول الثورة إلى حرب مسلحة على غرار ما يجري في ليبيا – ولن تنسى الرواية سوريا أيضاً – ستقطف القبائل ومن والاها من العسكر، ثمارها. وتتوقف الرواية مطولاً عند تحريض الإمام الهمداني على عسكرة الثورة السلمية، وتحويلها إلى حرب بين شطري جيش منقسم، فيثخن الرصاص الليل وتدوي قذائف المدفعية في أنحاء صنعاء، ويحتل القناصة والعسكر بسرية أسطح العمارات المحيطة بساحة التغيير قبيل الفجر، فيتدفق سيل الدماء. مثل باقة من الروايات التي صدرت بعد زلزال 2011، وفي سوريا بخاصة، غامرت رواية (ابنة سوسلوف) في كتابة التاريخ الجاري، الساخن، ونجت مما يحفّ بمثل هذه المغامرة من مزالق العابر والراهنية والشعاراتية واللهاث خلف الأحداث، وكما في سوريا، هي ذي الحرب تستعر في اليمن، والروايات تترى، لتنضاف إلى المدونة الروائية الكبرى المتعلقة بالحروب السابقة، ولتكون لنا إضافتنا إلى الجبلّة التاريخية العتيدة من الدم والكتابة. فن الحرب يقول كتاب «فن الحرب» أو «الصن تسو»، الذي يعلمنا كيف ننتصر بلا عدوان: مئة انتصار في مئة معركة ليست بالبراعة القصوى.أما إخضاع محاربي الآخر بلا معركة فهو البراعة القصوى. معرفة أن قواتي يمكن أن تهاجم، ومع ذلك الجهل بأن العدو لا تمكن مهاجمته هذا نصف نصر. معرفة أن العدو يمكن مهاجمته، ومع ذلك الجهل بأن جنودي ليس بوسعهم الهجوم هذا نصف نصر. معرفة أن العدو يمكن مهاجمته، ومعرفة أن جنودي يمكنهم الهجوم، ومع ذلك الجهل بأن التضاريس لا يمكن استخدامها لخوض المعركة. هذا نصف نصر. الفلاحة البطلة كان ميشيل يسأل فرانك كثيراً عن أمه التي اشتهرت عند نساء الحي بصفة الفلاحة البطلة، مقاومة الاحتلال الفرنسي لبلدها الجزائر. ليظل ينصت إليه بانبهار وهو يردد بدون مبالاة الكلام الذي يقوله في كل مرة يسمع فيها السؤال نفسه. وقد يمضي في تفاصيل كثيرة إذا انتبه فرانسوا وآخرون إلى كلامه، فالفلاحة البطلة لم تتردد عن تلبية نداء الوطن للقتال بشراسة، إلى جانب صفوف الوطنيين، من أجل تحرير تراب بلدها الطاهر من دنس الغزاة الأعداء، من أجل هوائه وسمائه وشعبه، ومن أجل حفظ حدوده المقدسة، مقدمة في سبيل ذلك أي ثمن، ولو كان حياتها. بهذه الصفة، الوطنية الكفاحية والمتمردة، عشقها أبوه. علي المقري، رواية بخور عدني، ص 43 حرب المعمعان جاءت الشهادة مفتاحاً لحضور الحرب في رواية «صنعائي»، فالرواية تبدأ من شارع الشهيد علي عبد المغني، واستذكار صبحية لحكايات أمها وأبيها عن الشهداء، ولإعجاب جدتها بوالدة الشهيد علي عبد المغني مؤسس تنظيم الضباط الأحرار الذي أنجز ثورة 1962، فهذه الأم لم تبكِ عندما بلغها نبأ استشهاد ابنها الذي بكى جمال عبد الناصر لاستشهاده، بل رددت قول ابنها: والله يا أمي ما أموت إلا موت الأبطال. كانت مهمة والد حميد أن يصل بين محاور القتال الأربعة، فينقل ما يجري فيها... ويتذكر حميد أنه وأخته في طفولتهما كانا يتلقفان حكايات الأب عن الحرب التي يسميها حرب المعمعان: «كان ياما كان في قديم الزمان يوجد حرب المعمعان..»، وكان الطفلان يرويان لأترابهما ما يرويه والدهما. حرب على الحرب تحت هذا العنوان أصدر الألماني آرنست فريدريك في عام 1924، وبمناسبة مرور عشرة أعوام على اندلاع الحرب الكونية الأولى، ألبوماً يتضمن 120 صورة كانت ممنوعة من قبل أجهزة الرقابة. وفيها، يظهر جنود على جبهات القتال، أو هم مصابون بجراح، وأطفال يلعبون فوق الخرائب، ومقابر عسكريّة، وكنائس مدمرة، وبيوت مهدمة ومنهوبة، وغابات محروقة، ومثقفون مقتولون بالرصاص، ومشنوقون في الساحات العامة، وعائدون من المعارك بعاهات جسديّة مخيفة. وكان الهدف من هذه الصور إثارة مشاعر معادية للحرب لدى الأغلبيّة الساحقة من الناس. وقد نال الكتاب شهرة واسعة في العديد من البلدان الأوروبية. كما أنه لاقى صدى مهماً لدى السورياليين الذين كانوا قد أدانوا الحرب في بياناتهم النظرية، وفي نصوصهم وقصائدهم. وكان بعض السورياليين قد عاشوا هم أيضاً أهوال الحرب، وعادوا من جبهات القتال بذكريات مرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©