الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

شاهد عيان في قلب دارفور 5-5

15 مايو 2007 01:27
جميل رفيع: دارفور ظهرت في حياتي فجأة دون سابق إنذار·· لم ألتفت كثيراً إلى نشرات الأخبار وهي تتناول اتفاق ''نيفاشا'' الذي حسم الموقف بين الحكومة الانتقالية وجنوب السودان، ولا تلك التي تناولت قضية دارفور وما تمخض عنها من اتفاق سمي باتفاق ''أبوجا'' بين الحكومة السودانية والحركات المتمردة في الإقليم، أعني إقليم دارفور وما رافق ذلك من تحركات محلية سودانية وإقليمية ودولية حتى صورت تلك المنطقة من أخطر مناطق العالم· إلى تلك المنطقة الملتهبة من العالم كلفت برحلة للوقوف على الحقائق على الأرض هناك، وكان التكليف لي كالصاعقة، ليس خوفاً فالمغامرة زاد الصحافة، لكن ما انتابني من توتر هو أنني متابع للشأن المحلي الداخلي وأشعر بأن لدي القدرة لرصد أي حالة أو ظاهرة في المجتمع لعلمي ودرايتي ولأني جزء منه، أما أن أكون مكلفاً بتغطية منطقة ملتهبة في الشمال الغربي الأفريقي ورصد الحالة والواقع على الأرض، فذلك صعب لأن المسألة تحتاج إلى خلفية عن تاريخ المنطقة وطبيعة الصراع الدائر محلياً وإقليمياً ودولياً وليس هناك أي متسع للوقت فالسفر غدا، لذلك وجدتني لدى سماعي بأني المقصود بالمهمة أقرع كافة الأبواب للإلمام بالموضوع وطبيعة الصراع وما نتج عنه حتى الآن كمثل طالب كسول جلس العام كله لهوا ولعبا وجاء في نهاية الليل ليذاكر والاختبار غداً، وعليه إنجاز المنهاج كله في ليلة واحدة· في الصباح وقبل أن تشرق الشمسن وجدتني أقف على باب الفندق الذي يقع على ناصية الطريق المؤدي إلى مدينة الجنينة· عند السادسة بدأت الحركة تدب في المكان، سيارات على الطريق وآخرون قادمون على أرجلهم، فيما البعض يستقل تلك العربات التي تجرها الخيول والحمير والكل يسعى في مناكبها كما الحياة· استوقفت شاباً لم يتجاوز الثامنة عشرة، وسألته إلى أين تذهب فقال لي إنه ذاهب لتأدية الامتحان· ثم التقيت طفلين أحدهما في الثالثة والآخر في الرابعة عشرة أخبراني أنهما ذاهبان إلى المدرسة أيضاً للجلوس للامتحان وكان واضحاً أنه ليس يوم دراسة عادياً فهما لا يحملان سوى أقلام· والتقيت شاباً آخر في التاسعة عشرة سألته إلى أين تذهب في هذه الساعة المبكرة؟ قال إنه ذاهب يبحث عن عمل في المدينة·· كلهم جاءوا من تلك القرى المتناثرة حول المدينة، وكل شيء طبيعي من حولي، حتى شجرة ''التبلدي'' الشامخة التي سمعت أنها لا تنبت إلا في دارفور· المعسكرات الخمسة في الصباح وصلنا إلى وسط المدينة وكان السوق يعج بالناس كل يمضي في عمله ولا آثار لما نبحث عنه، وجلسنا هناك فترة لنأخذ مع بعض الزملاء لقطات للمكان تعكس ما يدور هناك من حقيقة· ثم انتقلنا إلى مكتب والي جنوب دارفور حيث التقينا نائب الوالي، الدكتور فرح ذلك أن الوالي ذهب ليتابع بعض الأعمال في الخرطوم· قال نائبه إن الوضع الأمني في ''نيالا'' يأخذ ثلاثة مستويات، مشيراً إلى أن في الإقليم 9 مناطق جغرافية آمنة ومستقرة، 6 منها لم تتأثر بمشكلة دارفور وثلاث تأثرت بأشياء بعيدة، وأن المناطق التسع تشكل 41 وحدة إدارية دخلت ضمن الاتفاقية فأصبحت جزءاً من الدولة وفتحت الطرق الداخلية في الإقليم· وأشار إلى أن الحكومة عينت مستشاراً يتولى مسؤولية مصالحات القبائل المتصارعة قبل تفاقم الوضع بينها من خلال مجالس الصلح العشائرية· وأضاف أن الوضع الإنساني مستقر، وأن سكان جنوب دارفور ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة يشكل النازحون منهم 450 ألف نسمة في 5 معسكرات متفرقة، بعضهم من المناطق الحدودية شمال دارفور وآخرون من غرب دارفور· وقال إن الوضع الإنساني مستقر على مستوى المعسكرات الخمسة وأن مستوى الخدمات فيما يتعلق بالغذاء والصحة ممتاز· وأشار إلى أن القضايا كافة التي أثيرت حول المرأة في الإقليم هي قضايا ذات طابع سياسي أقحمت في المسألة بلا مبرر، وأضاف أن منظمة نرويجية كتبت لوكالات أنباء عالمية، أن هناك 80 حالة اغتصاب في معسكر ''كلما'' لكن بعد التقصي عن الموضوع تبين أن ذلك لم يحدث وتقدمت المنظمة بمذكرة اعتذار· وطالب بدعم الاتحاد الأفريقي في المنطقة، كما طالب المجتمع الدولي بدعمه ودعم الاتفاقيات الموقعة لتوفير الخدمات الإنسانية· وقال ''محمد عبدالله الشرتاي'' مستشار الوالي للتصالحات القبلية من جانبه ''إننا نعيش في مجتمع له أعراف وتقاليد تنظم الحياة بين الناس، وهذه الأعراف تعكس أن أصل دارفور مجتمع مسلم عشائري يتربط بصلات مصاهرة وجوار ومنافع متبادلة، وأن أي مجتمع يتعايش مع بعضه بعضاً لا بد من بروز مشاكل داخله وفي أغلب الأحيان تكون المشاكل فردية ثم تنتقل من النطاق الفردي إلى القبلي· وأضاف أن الجفاف والتصحر اللذين شملا السودان ألقيا بظلال على دارفور وتسببا بصراعات جراء الهجرة حيث يزداد الناس في بعض الأماكن على حساب الزراعة· مشيراً إلى أن الإشكالات وظواهر النهب المسلح جديدة على المجتمع الدارفوري، إضافة إلى أن صراعات تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا، ألقت بظلالها على الإقليم وساهمت في تأجيج الصراعات القبلية· ديات·· خارج القانون وأضاف الواقع غير ما يكتب ويقال، فواقع الأحداث في الإقليم على امتداد أكثر من عشرين سنة تمت معالجتها من خلال الأعراف والتقاليد· لافتاً إلى أن والي ''نيالا'' كان دائما مبادراً لرتق النسيج الاجتماعي عبر المصالحات الأهلية، فمنذ عام 2004 وحتى العام الجاري تمت 39 مصالحة بين القبائل أبرزها بين المعاليا والرزيقات، التي تم احتواؤها من خلال المحكمة الجنائية، حيث تم العفو مقابل دفع الديات، والآن تعيش القبيلتان في وئام وسلام· وقال إن المصالحات العشائرية حققت الأمن الاجتماعي والسلام والتعايش بين القبائل مع بعضها بعضاً· وأن المعتدي يدفع من 7 - 70 بقرة، وفي حالة الرفض أو عدم الرضا يعتبر الأمر خارقاً للعادة والعرف ويعاقب من شذ اجتماعياً في المحكمة· وقال إن حجم الديات بلغ 45 مليار جنيه سوداني من العام 2002 حتى العام 2007 جراء مقتل ثلاثة آلاف شخص، قامت القبائل بالتنازل عن 50 بالمائة منها· في الثامنة صباحاً ذهبنا إلى إحدى مدن ''نيالا'' التي بدا واضحاً أنها الأوفر نصيباً في حركة التنمية التي شهدتها المنطقة، فقد كانت ملامح المدينة أفضل من المناطق الأخرى حيث اتجهنا برفقة مسؤولين إلى مكان يبدو أنه ترفيهي، حديقة ومطعم وأشجار باسقة· ثم توجهنا إلى محكمة نيالا حيث كان في استقبالنا حسين اتيم رئيس الجهاز القضائي لولاية جنوب دارفور· رحب الرجل بنا وقام بشرح مفصل حول عمل المحكمة والجهاز القضائي والمحكمة الاتحادية والنظام القانوني المركزي الذي بدأ العمل به عام ،1994 وأشار إلى أن السودان فيه تنوع مشيراً إلى أن بعض القضايا الموجودة في دارفور قد لا توجد في الخرطوم وخاصة العمل المتعلق بالرعي والزراعة· وقال إنه ليس هناك جريمة تسمى جريمة حرب أو مجرم حرب، وإنما هناك جريمة قتل وأن مجموعة الجرائم الناتجة عن الحرب أو ما يسمى بالحرب أوجدت لها محاكم خاصة لديها استئناف خاص وتنظرها المحكمة الاتحادية بالنسبة لقضايا الإعدام· كما أشار إلى أن هناك محاكم شعبية أي القضاء الأهلي حيث هناك أكثر من 80 محكمة أهلية في الولاية تؤسس مع رؤساء القبائل وقد لعبت دوراً كبيراً في البت في المنازعات المحلية· وقال أما بالنسبة لنزاعات القبائل، فإنه لا علاقة لها بالأحداث بين المعارضة والحكومة، فأحداث القبائل أو النزاعات القبلية هي ضمن طبيعة المنطقة، وأضاف أن هناك بطنين من قبيلة الزغاوة بينهما نزاع يتم الآن احتواؤه من خلال مصالحات محلية حيث تم حصر الديات، مشيراً إلى أن هذه المصالحات تمت خارج القانون· وأضاف ''ما أريد قوله أن هناك صراعاً طبيعياً بين الرعاة والمزارعين والحركات المعارضة تلقفت الصراع وخلقت منه قضية سياسية''· بعد ذلك قمنا بجولة ميدانية في معسكر ''السريف'' الذي أقيم على أطراف نيالا وخلال تجوالي التقيت عبد الرحمن عبدالله ادريس أحد شيوخ القبائل وقال لي ''إننا 12 شيخ قبيلة نقيم في المعسكر ونمثل 21 قبيلة يضمها المعسكر وجئنا من مناطق عديدة معظمها من ولاية جنوب دارفور وقد وصلنا إلى هنا في 12 أكتوبر 2004 وفي الحقيقة فإن عددنا كان بسيطاً لا يتجاوز 15 شخصاً، وكنا قد أقمنا في معسكر (كلما) في البداية ثم حضرنا إلى هنا ووجدنا الإغاثة الإسلامية وعلى رأسها السعودية، وأضاف ''توافد الناس إلى المعسكر، وقد وصل العدد الآن 2457 أسرة تضم 13867 فرداً''· وطالب عبد الله بزيادة المدارس، مشيراً إلى أن الطلاب من سكان المعسكر يدرسون في مدارس بمدينة نيالا ، وهم بحاجة إلى مساعدات إنسانية، كما أن المعسكرات بحاجة إلى خيم إضافية والناس بحاجة إلى الكساء· وأضاف ''هؤلاء الناس قدموا من قرى ومدن كثيرة لعدم شعورهم بالأمان والنقص في المال والغذاء، وهم يطالبون بتوفير الأمن وإعادة تعمير قراهم التي نزحوا منها، إضافة إلى دفع الحكومة لتعويضات فردية لهم، وكذلك دفع الديات لقتلاهم، وإذا وفرت الحكومة والجهات المعنية ذلك سنعود إلى مناطقنا''· تساؤلات مشروعة تجولنا في المعسكر، ولفت انتباهنا شعارات مختلفة منها منظمة ''اليونسيف'' وقد غلفت بها إحدى الخيام وأخرى تغلفها صور للعلم الأميركي·· ماذا يحدث؟، سؤال رافقني طوال فترة إقامتي بإقليم دارفور هل هؤلاء الناس غائبون أم مغيبون لرؤية الحقائق على الأرض، هل يعلمون أنهم بأعمالهم يمهدون لانتهاك وطن، هل يعلمون حجم القضية والى أين تسير؟ هل يسيرون وفقاً لآرائهم أم يطبقون أجندات أمليت عليهم؟· أسئلة عديدة لا أدري كيف ستكون الإجابة عليها! وأنا في خضم هذه الاستفهامات، أصبحت مواجهاً لمستشفى المعسكر بوابة إلى اليمين، وشبه غرفة جلس فيها أحدهم لاستقبال المرضى وتسجيلهم، وبين هذه الغرفة وغرفة الطبيب ساحة بسيطة جلس فيها 4 مراجعين، يبدو أنهم ينتظرون دورهم، وعند البوابة نصب زير ماء يصنع عادة من الفخار عليه كوب من المعدن للشرب· وطفل في الثامنة أو التاسعة من عمره جاء وهو يشكو من العطش سرعان ما غمر الكوب في الزير لينهل من الماء ويرتوي·· لم يهتم أن الماء مكشوف أو غير مكشوف المهم أن يرتوي ويطفئ ظمأه وقد كان· تحركت إلى اليسار ودلفت إلى غرفة الطبيب الذي كان جالساً إلى مكتبه ينتظر مرضاه من أبناء المعسكر، ورحب بنا بابتسامة مهدت للدخول في الموضوع مباشرة، قال إنه الدكتور حسن عبدالمنعم تابع لمنظمة ''هيو ميركال'' الألمانية، وقال إن معظم الحالات التي يعالجها تتعلق بالتهاب الجهاز التنفسي إضافة إلى الملاريا، مشيراً إلى الطقس السائد وأوضح أن الأدوية لديه كافية بنسبة 90 بالمائة، وأنه يستقبل 150 حالة يومياً مقسمة على الطبيب والقابلة والتمريض، وقال إن المعسكر يعتبر أكثر استقراراً من الناحية الصحية، وأن كادر المستشفى يضم طبيباً واحداً و4 قابلات ومساعد طبيب وممرضين اثنين· وأضاف أنه لدى القابلة 12 سريراً لإقامة قصيرة وأن هناك سريرين من أجل الحالات التي تستدعي التحويل إلى مستشفى نيالا إضافة إلى سيارتي إسعاف مجهزتين· وشاهدت بالخارج تلك الآبار التي تم إنشاؤها بمعسكرات اللاجئين وفي تقديري الشخصي حسب ما رأيت أن البئر لا يكلف 500 دولار، فهو عبارة عن (بايبات)، ويبدو أن الماء قريب من سطح الأرض·· ولا يحتاج إلا إلى جهاز لسحبها أو بالطريقة التقليدية التي يقوم بها سكان المنطقة بحركة الرفع اليدوي عبر جهاز بسيط يضغط الهواء، في البايبات ليرتفع الماء، ولا أدري لماذا لا يقوم المسؤولون في تلك المناطق بفتح 100 ألف بئر بهذه الطريقة غير المكلفة على طول الطريق التي يسلكها الرعاة، لضخ المياه ولكي يرتوي منها الشارد والوارد والطير والحيوان، وبذلك تحقن دماء الناس التي كان شح المياه سبباً في إهدارها· في نهاية المشوار طُلب منا الاستعداد للعودة إلى الخرطوم ثانية -هذه المرة في الطائرة التي كنا قد تركناها في الفاشر- وصعدت إلى الطائرة وأنا أحمل في جعبتي الكثير عن الإقليم، وان كان هناك ربما الكثير الذي لم أشاهده على الأقل·· غير أن الرحلة كانت غنية بالأحداث، وإن لم أكن رصدت كل الحقيقة فقد رصدت ما شاهدت من الحقيقة ما يمكنني من القول إن المشكلة داخلية، ويستطيع السودان أن يجند رجاله لحلها بالانتماء وبعد النظر لتجنيب السودان الأخطار· قائد القطاع الثاني لقوات الاتحاد الإفريقي في ولاية جنوب دارفور الكولونيل النيجيري ''جاب اولا دي بو'' كان قد قال لنا قبل مغادرتنا المكان، إن قواته في حاجة إلى المزيد من الدعم في الأفراد والمعدات، من أجل القيام بمهامها على أكمل وجه، لكنه انتقد الإعلام الغربي الذي يحاول إعطاء صورة سلبية عما يدور في الإقليم وطالب ممثلي الإعلام بعكس رؤية موضوعية ومتوازنة من دون إغفال الحقيقة· وأضاف أن الحكومة السودانية تبذل جهدها من اجل المساعدة على تنفيذ مهمة قوات السلام الإفريقية، لكن المشكلة في بعض المتمردين الذين لم يوقعوا على اتفاق السلام، وهذا الأمر يحتاج إلى جهود سياسية ودبلوماسية من أجل إحداث تقدم في عملية السلام· وأضاف ''اتفاق السلام الذي وقع في ابوجا يمضي على نحو جيد لكن الأمر يحتاج أيضاً إلى جهود من الحكومة المركزية، إضافة إلى ولاة دارفور الثلاثة· وأضاف ''لا حاجة إلى تدويل النزاع في الإقليم وطالما هناك التزام من كل الأطراف المعنية بالأزمة ووقف إطلاق النار، فإن الاتحاد الإفريقي قادر على إتمام المهمة''· واستطرد قائلاً: ''المطلوب فقط المزيد من المعدات والمعونات اللوجستية والفنية والمزيد من الأفراد''، وأضاف متوجهاً إلى الإعلاميين ''اعتقد أن عليكم دوراً في إخبار العالم ما يحدث في دارفور وتقديم الصورة الحقيقية عما يجري وليس مجرد الدعايات السلبية·· لا أريد أن تقدموا صورة وردية ولكن إحداث نوع من التوازن في تقديم الصورة''· وحطت بنا الطائرة في الخرطوم لنعود أدراجنا إلى الفندق الذي خرجنا منه لمواصلة الرحلة بلقاءات جديدة مع كبار المسؤولين السودانيين حول القضية التي انتهت بموافقة السودان على الحزمة الثانية للدعم الثقيل من الأمم المتحدة إلى القوات الإفريقية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©