الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المنحوس

المنحوس
6 فبراير 2014 20:33
لست من الشباب المغامر ولا الطموح، وأتوقع الخسارة قبل الربح، أخاف من المستقبل منذ كنت طفلا، يمكن أن أقول إنني روتيني في كل حياتي، حتى في تعليمي واختياراتي، تلك كانت قناعتي وأسير عليها، إنني مشفق على أقراني الآخرين الذين ترك بعضهم الدراسة، ولجأ إلى العمل مبكراً سعياً وراء المال لأنهم يرون أن التعليم لا يحقق لهم ما يطمحون إليه، والغريب كذلك أنني أنتقد الذين تعلموا وحصلوا على شهادات ثم لم يستفيدوا منها شيئا لا في عمل ولا وظيفة ولا حتى في مشروع استثماري، فرغم أن زميلي هذا حاصل على ليسانس الآداب فإنه يعمل في تجارة الأخشاب التي تعلمها من أبيه المتخصص فيها منذ زمن طويل، وذاك الحاصل على كلية الحاسبات تركها وعمل في الإنتاج الفني، بينما هذا الثالث الحاصل على كلية التربية الرياضية يعمل في مقهى. ضمان المستقبل النماذج كثيرة فوق الحصر من الذين أعرفهم، أصحاب مؤهلات جامعية لكنهم اتجهوا إلى الأعمال الحرة والتجارية، أعتبرهم مغامرين ولا يحسبون العواقب، لأنهم لم يبحثوا عن وظيفة حكومية لتأمين مستقبلهم بضمان راتب شهري مستديم، ومعاش ينفع عند الكبر إذا كان في العمر بقية، وبينما أنا في طور البحث عن تلك الوظيفة، جاءتني فرصة عمل مجزية بالخارج لكنني رفضتها خشية أن أقضي فيها بضع سنين ثم أتركها برغبتي أو من دون رضاي، وأعود إلى نقطة الصفر كما كنت، وواصلت البحث عن وظيفة تناسب مؤهلي الجامعي، عملت مترجما في شركة معروفة، أحببت عملي وأخلصت فيه، وأعطيته كل وقتي، وكنت أحصل على راتب كبير لم أكن أحلم به، وخلال سنوات قليلة تمكنت من شراء شقة متوسطة وسيارة مستعملة، وتحسنت ظروفي إلى حد ما. لم يكن عطاء العمل عند هذا الحد فقط، وإنما كانت أكبر منحة من الله هي زميلتي التي تعرفت إليها، وحدث بيننا تقارب سريع واحترام متبادل منذ التقينا، لكن منعها الحياء من الكلام ومنعتني حالتي المادية من التصريح بما أكنه لها وجميع تصرفاتنا تكشف كل ما نكنه داخلنا، لذلك عندما بدأت جدياً التفكير في الزواج كان لابد أن أصارحها بحقيقة أحوالي ولها حرية القبول أو الرفض، حدثتها بصراحة شديدة وأخبرتها بأنني أنتمي إلى أسرة متوسطة ولا أملك إلا راتبي، ولو وافقت على الارتباط بي فقد نمضي ما بين عامين أو ثلاثة حتى نتمكن من تأثيث الشقة وتجهيزها، وقد كانت المفاجأة التي لم أتوقعها، فهي الأخرى من أسرة مثل أسرتي وبيننا تشابه كبير في معظم أحوالنا وظروفنا، ولديها كامل الاستعداد لقبول هذا الوضع والمساهمة معي براتبها في بناء مستقبلنا. كدت أطير فرحا وأنا أسمع هذه الكلمات الرقيقة، تحيطني السعادة وترفرف فوق رأسي في كل مكان أسير فيه، ولم يكن هذا وحده مبعث سروري وإنما أيضا ما وجدته من بساطة من أسرتها، أب وأم وثلاثة إخوة نموذج للصفاء النفسي والتصالح مع الحياة، وأصبحت واحداً من أفراد هذه الأسرة التي احتضنتني وأنا أكن لها كل تقدير وأحمل لها معروفاً في عنقي، فلم يشترطوا شيئا لا مهرا ولا مؤخر صداق ولا شبكة ثمينة كما يغالي كثير من الآباء والأمهات، بل كلما جئت بشيء يعاتبونني، بأنه يجب أن أدخر أي مبلغ من أجل مستقبلنا. بساطة العيش كان حفل زواجنا بسيطا لكنه كان أفضل مما يقام في الفنادق الكبرى، أصدقاؤنا وزملاؤنا أعدوا لنا «زفة» وغنوا ورقصوا أمامنا وحولنا، وانتقلنا إلى بيتنا الذي قضينا فيه شهر العسل ولم يكن في إمكاننا أكثر من التنزه بسيارتنا القديمة والجلوس في حديقة عامة نتناول الساندويتشات ونتسلى باللب، لا نطمع في أكثر مما نحن فيه، فزوجتي نموذج للمرأة الراضية الشاكرة، تعرف كيف تدير شؤوننا براتبينا، ولا تطلب شيئا بل تتنازل عن كل احتياجاتها حتى الضرورية، أحسد نفسي على هذه النعم وأدعو الله أن يحفظها ويديمها، خاصة وأنا أسمع من كل الذين أعرفهم مر الشكوى من زوجاتهم فتلك نكدية لا تكف عن المطالب، هذه مبذرة ولا تهمها معاناة زوجها، وثالثة ثرثارة لا يتوقف لسانها عن الكلام، وأصناف وأنواع من النساء كثيرة تجعل الإنسان يدقق ألف مرة عند الاختيار، بجانب ما تشهده البيوت الزوجية من مشاكل كثيراً ما تكون لأسباب تافهة ولغياب التفاهم بين الأزواج والزوجات، وبعدم النقاش بموضوعية أو بتدخل آخرين تفاقم الخلافات وتتسع الفجوات. لم يكن أصدقائي وزملائي في الدراسة على هذا المستوى من الخطأ في تصرفاتهم كما كنت أتوهم، فبعد مرور هذه السنين حققوا نجاحات وأصبحوا أصحاب شركات وأموال وملاك أبنية شاهقة، وقد كنت الأقل بينهم في المستوى المادي، ولا أقارن بيني وبينهم وليس قليلا ما وهبه الله لي من نعم كثيرة ولكن فقط أعترف بأنني كنت مخطئا في أحكامي السابقة، خاصة أن الدنيا تغيرت والمفاهيم لم تعد مثل الماضي الذي أعيش فيه، فالشباب تغيرت أفكارهم ونظرتهم إلى الحياة والأمور، وأراهم يسيرون بخطى واثقة نحو أهدافهم. قرة عيني رزقني الله بثلاثة أولاد وبنت، كانوا قرة عيني، ومن خلال تجاربي السابقة لم أتدخل في اختياراتهم التعليمية ولا الحياتية، وبعد أن تأكدت أن العصر قد تغير، وأن مفاهيم الماضي لا يصلح كثير منها للحاضر فقد خلقوا لزمان غير زماننا، تركت كلا منهم يشق طريقه كما يريد وأنا أتابعهم بالنصائح من واقع الخبرات بحسب سني وتجاربي، كانوا جميعهم متفوقين، والغريب أنهم جميعا التحقوا بكلية الطب، ورغم إمكاناتي التي تقف حدودها عند راتبي وراتب زوجتي أعاننا الله على تربيتهم وتعليمهم حتى حصلوا على مؤهلاتهم وأصبح لدي أربعة أبناء أطباء. مرضت زوجتي مرضا شديدا وعجز أبناؤها الأطباء الأربعة وزملاؤهم الكثيرون عن الحيلولة دون قدر الله المحتوم، وانتقلت إلى جوار ربها، وقد تركت فراغا كبيرا في حياتي أعاني من الوحدة الشديدة، فلا يمكن أن يكون هناك من يحل محلها، أبنائي مشغولون في أعمالهم معظم ساعات الليل والنهار، وأنا لا أطالبهم بشيء وأقدر ظروفهم وأتمنى لهم المزيد من النجاح، فكلهم مقبلون تباعا على الزواج، وقد ارتبطوا، والفتاة تقدم لها أحد زملائها، وكما فعلت أنا وأمهم الراحلة فعلوا هم فكل منهم وشريكة حياته يتحملون مسؤوليات أنفسهم، وقد تعلموا واستفادوا من تجربتنا التي كانت ناجحة بكل المقاييس، ولم يطالبني أي منهم بشيء وهم يعلمون ظروفي، وقد استنزفت مصروفات تعليمهم كل ما كان بين يدي ولو كنت أملك كنوز الدنيا لقدمتها لهم راضيا. تزوج أبنائي وانتقلوا إلى بيوتهم واحدا تلو الآخر، وشعرت أكثر بمرارة الوحدة، أنظر إلى صورة زوجتي الراحلة المعلقة على الجدار أتحدث إليها فلا ترد، أبكي بدموع غزيرة، أتذكر الأيام الخوالي وما عانته معي في حياتنا وكانت نموذجا للإخلاص والتفاني، بالطبع أنا في أشد الحاجة إلى من يؤنس وحدتي، ولا أفكر في الزواج لأنني لن أجد مثلها ولا قريبا منها ووفاء لها، ولكن أبنائي يشعرون بما أنا فيه ويدفعونني نحو الزواج دفعا لأنه ليس هناك حل آخر غيره، وخاصة أنني لا أزال بصحتي وعافيتي، ومع إلحاحهم وافقت تسبقني المخاوف من التجربة التي أرى أنها ستكون فاشلة من البداية، قررت ألا أتعجل الحكم وأن أترك كل ذلك للأيام. تجربتان مريرتان تم الاختيار برأي جماعي، «العروس» أرملة تصغرني بعشر سنوات ليس لها أولاد، تقترب من الخمسين، فيها مسحة جمال، وكعادتي وبصراحتي المعهودة أخبرتها بكل شيء عن تفاصيل حياتي، وأعترف بأن مخاوفي جعلتني حذرا في التعامل معها، ولكن كانت المرأة هادئة الطباع وتراعي مشاعري نحو زوجتي الراحلة، اهتمت بكل شؤوني وقدرت لها وشكرت جهدها، وإن لم أنس أم الأولاد فقد وجدت في زوجتي الثانية أنسا وطباعا جميلة، ولم أنشد فيها الكمال ولا كل ما كان في زوجتي الأولى من صفات، فقد علمتني الحياة أن كل إنسان له عيوب ومميزات والكمال لله وحده، فكانت حياتي هادئة مستقرة. وتكرر ما حدث مرة أخرى بعد أن تبددت الوحدة وعاد الأنس والدفء الأسري الذي اعتدته، وقدته بفقد زوجتي الثانية بسرعة، بعد عامين من زواجنا توفيت فجأة بعدما أصيبت بأزمة قلبية حادة، وبكيتها هي الأخرى وأصبحت وحيدا إلا من معية صورتي زوجتي اللتين علقتهما على الجدار متجاورتين، أصابتني حالة من الاكتئاب والضيق النفسي، وعاد أبنائي بعد ثلاثة أشهر يطالبونني بالزواج للمرة الثالثة، ولم أمانع كثيرا هذه المرة لأنني لا أستطيع الحياة بلا زوجة ووافقت، وتم ترشيح «عروس» مطلقة تصغرني بخمسة عشر عاما، وكما فعلت من قبل صارحتها بكل شيء، وقد كانت من أسرة فقيرة وقبلت كل ظروفي، وتم العرس بلا أي مظاهر احتفال كما حدث في السابق، تكررت مخاوفي وأخشى ألا تكون زوجتي مثل الراحلتين، ولكن بفضل الله كانت أيضا هادئة وديعة، لا تطلب شيئاً ولا تتكلم إلا إذا تحدثت معها أو ناقشتها أو طلبت منها شيئا، اهتمت بكل شؤوني، بل وجدت فيها ما لم أجده في زوجتي الأولى والثانية، وصدق من قال إن النساء مثل الفواكه لكل واحدة طعم ولون، ولكن يبدو أنني منحوس فقد توفيت زوجتي إثر حادث سيارة وهي تعبر الشارع، وفقدتها في لحظة لتتجدد أحزاني بعد عام واحد من زواجنا، الناس فعلا يطلقون عليّ لقب المنحوس وعدو النساء، لكنني لست كذلك. أبنائي يعاودون إلحاحهم علي بالزواج للمرة الرابعة، لكنني لا أريد تكرار مأساتي. نورا محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©