الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حين كنسنا الطريق الترابي

حين كنسنا الطريق الترابي
9 ديسمبر 2011 21:41
كنا نتسكّع في الحي الذي نسكن فيه حين وجدنا أنفسنا أمام منزل قيد الإنشاء ظلّ هكذا سنين طويلة، ربما مات صاحبه أو تعرض للإفلاس أو صدّق أن جناً يسكنون فيه، فدلفنا إليه نستكشف ما بداخله، على الرغم من أننا استكشفناه ألف مرة من قبل، وحمل أحدنا لوحاً خشبياً رآه ملقى في الخارج، ربما لاستعماله كسلاح إذا واجهنا شيئاً لا نتوقعه، وفعلاً لم نتوقع وجود أحد أشرس أولاد الحي مستلقياً على كرتون. فلما رآنا وقعت عيناه على اللوح الخشبي، فوقف وهو يردّد بنبرة تهديد ساخرة: تريدون أن تضربوني ثم مشى إلى الخارج وهو يأمرنا بأن نلحق به: سرنا وراءه وأيدينا ترتجف وقلوبنا تخفق، فهذا ولد وجهه مربع، وجسده عظام في عظام، وعدواني لا يعرف الرحمة ولا المنطق، تحيته سب، فلا يمكن أن يرحب بأحد ثم لا يصفه بحيوان من الحيوانات، مثل: ما هي أخبارك يا كلب؟ يا حمار، أين اختفيت؟ أما كلامه فسب على شتم على لعن على كل ما هو وقح، والنبرة لا تتغيّر، فهي نبرة فريدة من نوعها. إذ استطاعت حنجرته أن تجمع كل الأشياء العدوانية في صوت واحد: تهكّم على تقريع على استهزاء على تهديد، والخيط الفاصل بين مزاحه وغضبه رفيع جداً، فلا تدري إن كان يمزح أو هو غاضب، ولا يمكن تصوّر رد فعله في أي موقف، فربما يخرج سكيناً من جيبه أو يضرب على القفى، في الموقف الواحد ومع الشخص نفسه. كما أنه يملك سريرين، أحدهما في بيت أهله والثاني في السجن، وسمعنا أنه دخل السجن يوماً فوجد شخصاً مستلقياً على سريره الذي قرر أن يكون ملكاً له حين كان في السجن قبل ثلاث سنوات، فحشره في زاوية وركله كأنه يركل كرة. وصلنا إلى منزلهم لكنه لحسن الحظ لم يدعنا للدخول، ذلك أن أهله كانوا مستائين منه وكان شقيقه الكبير يهز رأسه كلما شكاه أحدهم، وبقينا واقفين لا نجرؤ على الهرب، لأنه لا يمكن أن ينسى، وكل من في الحي يعرف قصته حين أحاط به نحو خمسة أولاد أشقياء مثله يسكنون في حي آخر. وضربوه ثم ألقوه أمام باب منزلهم بكندورة ممزقة، وأنف ينزف، وفم محشو بالتراب، لكنه في اليوم التالي، ذهب بمفرده إلى ملعب ذلك الحي، وتشابك بالأيدي مع الأشخاص أنفسهم، ومع آخرين كانوا حاضرين، وألقوه مرة أخرى أمام باب منزلهم. لكنه مع هذا لم ينس، فقد كمن للأشخاص الخمسة واحداً بعد الآخر، وأذكر أنني كنت أنتظر دوري في صالون للحلاقة يقع بين حيّنا وحي أولئك الأولاد، فإذا به يقف أمامي فجأة، وقال بالنبرة نفسها: يا حيوان، ماذا تفعل في هذا المكان؟ فطأطأتُ رأسي أبحث عن إجابة مناسبة بين نتف الشعر الملقاة على أرضية الصالون متوقعاً «بوكساً» على رأسي لأنني في نظره حيوان، وليس هناك سبب آخر، لكن صوت لطمة قوية أيقظتني من الرعب الذي كنت أعيشه، وتعجبت لأنني لم أشعر بأي ألم، فرفعت رأسي وكان المشهد غريباً، إذ كان يشدّ على عنق شخص بالملاءة البيضاء الملفوفة حوله، بينما الشخص يخبط برجليه والكرسي يهتز بعنف والحلاق يقف مذهولاً والمقص في يده، ثم فجأة تركه وغادر المكان وهو يضحك ويسب. بينما ذلك الشخص متجمد على الكرسي يتأوه ثم خرج من المحل وهي يبكي ويمسح سوائل أنفه بكمّ كندورته، وعرفنا بعد ذلك أنه كان أحد الأشخاص الخمسة. وطال انتظارنا ثم لمحناه يتمشى فوق منزلهم بينما يقرّب من أنفه بين الحين والآخر علبة صغيرة، وكنا نعرف أنها علبة غراء، إذ كان مدمناً على شفط هذه المادة، ويبدو أن الغراء تسرّب إلى رأسه والتصقت فصوص مخه بعضها ببعض، وأصبح مخه بلورة شديدة التماسك لا يمكن أن يفكر إلا في اتجاه واحد. وكنا في أحد الأيام نلعب الكرة في ملعبنا البعيد نسبياً عن منزلهم، فإذا به يقتحم الملعب بسيارة وقعت بين يديه، ووقف في وسط الملعب يسب ويهدد، وفي هذه الأثناء اصطدمت يده بأنفه، فوجّه المرآة الداخلية بشكل يرى فيه وجهه، وأخذ يحرك أنفه يميناً وشمالاً، إذ شعر بأن أنفه تزحزح من مكانه بسبب تلك الضربة الخفيفة. وكانت رؤيته مع تلك العلبة فأل خير، فما دام هو مشغول بالشفط فإنه لا يبالي بأي شيء في هذه الدنيا، كما أننا في الأساس مجرد حيوانات في نظره، ولا بد أنه سيقوم من نشوة الشفط ليخرج إلى الحي ويبحث عن مشكلة جديدة. بدأنا نبتعد خطوة إثر أخرى، لكنه خرج فجأة وهو يحمل عدداً من المكانس اليدوية، وقال: كل حيوان يأخذ مكنسة ويكنس أمام البيت، أريد أن أرى القار بعيني. نظر بعضنا إلى بعض، فالطريق أمام بيتهم غير معبّد أصلاً، وليس هناك إلا التراب حتى لو حفرنا إلى باطن الأرض. وربما نعثر على آثار حضارات قديمة لكن لا يمكن استخراج القار من هذا المكان. والمصيبة أنه أعطانا مكانس يدوية لا يمكن أن نحفر بها، فهو يريدنا أن نكنس الطريق الترابي لا أن نحفر فيه. المهم أنه أعطى كل واحد منا مكنسة مع ضربة قوية على الفخذ، ثم أخرج كرسياً بلاستيكياً ووضعه أمام باب منزلهم وجلس يراقبنا ونحن نكنس. لم أحمد الله على موت شخص إلا على موته، فقد وُجد رحمه الله في حمّام المسجد منتفخاً وفي ذراعه إبرة هيروين. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©