الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المتقاعد

المتقاعد
20 مايو 2007 02:17
سعاد جواد: يمر شريط الذكريات أمام عيني وكأن الأحداث التي وقعت في الماضي كلها طرية وجديدة وكأنها قد حدثت بالأمس، أمي وأبي يلحان علي بالزواج وقد أنهيت دراستي الجامعية وصرت أعمل بالتدريس· اشترطت عليهم أن تكون العروس ربة بيت تتفرغ لأسرتها تفرغا كاملا، فاختاروا لي ابنة خالتي، تلك الفتاة البسيطة الطيبة التي لم تكمل دراستها الثانوية بعد· تم الزواج وزادت مسؤوليات الأسرة بقدوم الأولاد، ستة ذكور يحفظهم الله، لم أشعر كيف تربوا وكيف كبروا، فقد مر الزمن سريعا وكأنه حلم· كانت زوجتي امرأة مخلصة تفانت في إسعاد الجميع، وقد حاولت جاهدة أن تريحني من مسؤوليات كثيرة تحملتها هي بصبر وثبات· أتاح لي وقت بعد الظهر فتح بعض المشاريع البسيطة التي كان إيرادها يساعدني في تغطية نفقات الأسرة التي تتزايد كلما كبر الأولاد· تميزت في الإخلاص في عملي وأعطيت التدريس كل جهدي حتى أصبحت ناظراً بعد سنين وأصبح الكل ممتنا لي لحسن تعاملي مع الطلبة ومع المدرسين، وقد أصبحت مدرستي نموذجية من جميع النواحي· كنت سعيدا سعادة لا توصف وأنا أجد نفسي رجلا ناجحا يحبه الناس· أتمتع بسلطة لا حدود لها، أساسها الامتنان والاحترام لدوري كمعلم· فأينما أذهب أجد تلاميذي وقد كبروا وأصبح لكل منهم دور متميز في مجال أو آخر· إنها سعادة حقيقية لا يمكن أن يتخيلها أحد، ولم أفكر بأن كل ذلك سيمضي ويرحل سريعا لأنتهي وحيدا لا أعني شيئا لأحد· كبر الأولاد وتخرجوا وتزوجوا واحدا بعد الآخر، فهدأ البيت وأصبح خاويا بلا حيوية· زوجتي تشتكي من الوحدة وتعاني من الفراغ وأنا لاهٍ عنها بعملي وكأن مسؤولية العمل هي الشيء الوحيد الذي يستحق الاهتمام في عالمي· يتجمع الأولاد مع زوجاتهم وأولادهم في نهاية الأسبوع، فتسعد زوجتي وتنتشي مرحا وبشرا، ثم بمجرد أن يعودوا الى بيوتهم وأعمالهم، تذبل وتذوي وتنكفئ على نفسها وكأنها ورقة ذابلة لا يصلها الماء اوالغذاء· بقيت على هذه الحال لفترة من الزمن ثم داهمها المرض فانتقلت إلى جوار ربها بهدوء وسكينة دون أن تحمّل أحدا عبء الاعتناء بها ورعايتها في سِنيّ الكهولة· معاناة صعبة كان رحيلها مؤلما لنفسي لأنني ولأول مرة أشعر بمدى حاجتي لها وتعودي على وجودها في حياتي· لم أكن أدرك قبل رحيلها بأن لها دورا عظيما في استقراري النفسي· صرت أبحث عنها دون وعي مني فلا أجدها فأتذكر بأنها ماتت فتسقط دموعي حزنا لفراقها· مع كل تلك المشاعر المتعبة كان الوضع محتملا لأنني كنت مشغولا بعملي، أمنحه كل وقتي فأستطيع أن أتحمل مشاعر الوحدة والغربة· عند عودتي إلى منزلي ليلا، لا أنام وأبقى أتقلب على جمر الشعور بالوحدة حتى يغلبني النعاس فأنام نوما قلقا متعبا لا راحة فيه· كل ذلك كان محتملا لولا أن حدث ما حدث· كتاب رسمي استلمته بغير انفعال كباقي الكتب التي تصلني يوميا في عملي· فتحت المظروف وقرأت السطور بغير عناية فالمكتب مزدحم كالعادة··· وليّ أمر يشتكي ومدرّس لديه اعتراض على الجدول وإداريّ بحاجة لتعليمات جديدة حتى ينهي عمله· كلمة واحدة لفتت انتباهي فاسودت الدنيا بعيني، حتى غاب من حولي الناس فلم أعد أراهم أو أسمع أصواتهم وبقيت مشاعري كلها متحجرة عند تلك الكلمات الثقيلة القاسية· عرفت بأنهم قد أحالوني للتقاعد بعد أن بلغت الستين من العمر وقد أتممت خدمتي المطلوبة كلها مع كلمات الامتنان والشكر للجهود القيمة التي بذلتها في مهنتي· أقف أمام حشد التلاميذ··· تلاميذي الكبار وتلاميذي الصغار وأجيال من التلاميذ يحتفلون بتكريمي كرائد مخلص من روّاد الحركة التعليمية· أرسم الابتسامة على وجهي وقلبي يتآكل من الداخل· الأسئلة الكبيرة تحاصرني· ماذا بعد ذلك؟ هل انتهى كل شيء؟ هل سأحرم من عملي الذي أحببته طوال عمري؟ هل سأبقى بعيدا عن تلاميذي؟ وجرس الحصص؟ هل يمكنني نسيان رنينه؟ كيف ستكون حياتي؟ وكيف سأقضي أيامي؟ وما هو هدفي في هذه الحياة؟ الأسئلة تمزق رأسي والشعور بالوحدة صار يزحف مثل النمل على رأسي وذراعي وقدمي، كأنه تيار مغناطيسي مهلك· اجتمع الأولاد حولي، حاولوا جهدهم التخفيف عني، اقترحوا عليّ العيش مع أحدهم بدلا من البقاء لوحدي فأبيت أن أفعل، فليس سهلا أن أترك بيتي الذي عشت فيه عمرا كاملا لأعيش في مكان آخر لا أنتمي إليه· خطوة جديدة بعد معاناة طويلة انتهى بي الحال للجلوس في أحد المقاهي وتدخين الشيشة التي كنت أنصح أولادي وطلبتي بالابتعاد عنها لأن التدخين مضر وهو يقضي على نعمة الصحة والعافية التي منحنا الله إياها··· لكنيّ الآن وفي وضعي هذا أجدني مختل التوازن، كل مبادئي وقناعاتي صارت هزيلة يمكن عبورها وتجاوزها· أصبح لي أصدقاء جدد من المتقاعدين والعاطلين عن العمل والبائسين واليائسين، مجموعة جديدة من الناس لم أتصور نفسي يوما محتاجا لصداقة من هذا النوع· فماذا أفعل في البيت لوحدي؟ استأجرت خادما لينظف ويطبخ ويشتري حاجيات المنزل، فلم أتعود طوال حياتي القيام بمثل هذه الأمور، وقد تأذيت كثيرا في الفترة السابقة عندما كنت مضطرا لشراء الطعام الجاهز والاعتماد على مجيء أولادي وخادماتهم في نهاية الأسبوع لينظفوا المنزل ويغسلوا الثياب· الوضع هكذا أفضل، ثم إنني صرت أتابع بعض الأعمال المتعلقة بمشاريعي البسيطة التي كانت تحت كفالتي من قبل وقد أوكلتها للعمال سابقا، وبالطبع فهي لم تعد تأتي بالشيء الكثير ولكنني أبقيتها لأن هؤلاء العمال المساكين يعتمدون عليها في رزقهم· أصدقاء المقهى اقترحوا عليّ أن أتزوج، وقد اعتبروا بأن هذه الخطوة هي حل مثالي لي· فأنا لازلت شابا - كما يقولون- مظهري لا يدل على التقدم في السن، كما أن وضعي المادي جيد، فلماذا لا أجرب فكرة الإقدام على حياة جديدة تملأ أيامي بالحيوية والنشاط؟ فأعيش البداية وحلاوتها وأبتعد عن النهاية ومرارتها· الفكرة بدت لي مقنعة ولكني لم أكن أملك الجرأة على تنفيذها، فحياتي السابقة علمتني عدم التسرع في اتخاذ الخطوات، فبقيت مترددا استشير هذا وذاك واستلم الآراء المؤيدة والرافضة وأقوم بدراستها وإعداد تقرير نهائي، وبالطبع فإن النتائج لم تشكل دافعا قويا لاتخاذ القرار· خطوة أكثر جرأة اقترح عليّ أحد العاملين لديّ باستخدام سكرتيرة تجيد الطباعة لتطوير العمل في المكتب فوافقته على ذلك· فوجئت يوما بوجود شابة جميلة في الخامسة والعشرين من عمرها وهي محتشمة في مظهرها أخبرني الرجل بأنها من عائلة فقيرة وهي تعيل أسرتها براتبها البسيط· بعد مدة من ترددي على ذلك المكتب تبلورت فكرة الزواج برأسي بشكل أكبر عندما وجدت تعاملا خاصا وترحيبا واهتماما غير عادي من قبل تلك الفتاة، فاستغربت وقلت في نفسي: أصحاب المقهى معهم حق فأنا لازلت محافظا على شبابي بشكل يكفي لجذب اهتمام فتاة صغيرة وجميلة مثل هذه· وبالطبع فإنني لم أجد أية صعوبة في الحصول على موافقتها للارتباط بي، وقد ملأني الشعور بأنني رجل فتّاك امتلك الجاذبية اللازمة للتأثير على الفتيات· اتخذت قراري بالزواج وسط تشجيع كبير من ربعي ومعارضة شديدة من أولادي، حيث أنهم لم يقتنعوا بفارق السن الكبير بيني وبين الفتاة، فلم أكترث لهم وتزوجتها· كانت الأمور رائعة وجميلة لولا تلك الصدمة التي لم أكن أتوقعها أبدا· إنها الصدمة التي يخشاها كل من هم في مثل سني إذا أقدموا على الزواج، فلم يكن بمقدوري مجاراة فتاة في أول الشباب وعجزت عجزا كاملا أمامها، وصرت أعاني نوعا جديدا من المعاناة التي لم تخطر على بالي، وصرت مثل المريض الذي قارب على الموت وهو يلهث باحثا عن عمن يعيد له الحياة· انهالت عليّ النصائح من الربع وأنا أطبقها كلها كما يريدون· أخذني أحدهم إلى الطبيب فأعطاني الأدوية فلم تنفع، الآخر أخذني للعشّاب فأعطاني وصفات كثيرة طبقتها كلها ولم تفد، الآخر أخذني لشخص يفك العقد ويبطل السحر فبخرني وقام بأفعال غريبة استهجنتها بشدة فكرهت نفسي واحتقرتها لأنني وصلت الى هذا الحد· لم يكن أمامي سوى تقبل الأمر الواقع والصبر على هذا البلاء الذي بلوت نفسي به· وبالطبع فإن زوجتي لم تطق مثل هذا الأمر فتحولت تلك القطة الوديعة الطيبة إلى نمرة شرسة تمزقني بلسانها اللاذع وبمخالبها التي لا ترحم شيبتي وضعفي حتى أوصلتني إلى حالة متعبة وغير محتملة فطلقتها وأنا غير نادم· نهاية المطاف بعد هذه التجربة التعيسة مرضت مرضا شديدا وبقيت في المستشفى لمدة طويلة وقد ارتفعت نسبة السكر في دمي وارتفع ضغطي وتخلخلت ضربات قلبي حتى شعرت بدنو الموت مني· تناوب الأولاد للبقاء معي طوال فترة بقائي في المستشفى وبالطبع فإن ذلك كان صعبا عليهم لاضطرارهم ترك أعمالهم وعائلاتهم ولكنهم كانوا حريصين على راحتي وعدم إحراجي بأي شكل الى ان خرجت من المستشفى فأجبروني على البقاء عند أحدهم خلال فترة النقاهة على الأقل، فوافقت وأنا مرغم لأنني كنت أخاف العودة لوحدتي في منزلي· أخذني ابني الكبير في بيته، خصص لي غرفة وخادمة تسهر على راحتي· الغرفة فيها حمام خاص لا يستعمله أحد غيري، ووضع لي تلفازا في الغرفة لأتابع الأخبار كما أحب دون إزعاج من أحد، كما أنه صار يأخذني للصلاة في المسجد المجاور لبيتهم وأمر أولاده بأن يجالسوني لبعض الوقت عندما ينهون واجباتهم· لا أدري ماذا أقول؟ هل أقول بأنني أدركت لأول مرة بأن الكهولة ليست هي النهاية؟ وأن الإنسان يمكنه أن يكون سعيدا إن أراد ذلك؟ فماذا ينقصني الآن؟ لا شيء إطلاقا· أنا سعيد جدا بهذا النوع من الحياة التي كنت أخشاها ولا أعرف السبب· كنت أعتقد بأنني سأشكل عبئا على أولادي، وهذا غير صحيح، فأنا استمتع كثيرا في الذهاب إلى منازلهم وزيارتهم من حين لآخر··· وأنا سعيد في العيش مع أسرة ابني الأكبر· سعيد لأنني أجالسه وأتحدث إليه بدلا من صحبة الغرباء··· سعيد جدا بصحبة أولاده ومراقبتهم وهم يمرحون ببراءة من حولي· تذكرت بأنني كنت محروما من هذه المتعة عندما كان أولادي صغارا ولم يكن بوسعي مراقبتهم وهم يلعبون ويتحدثون ببراءة وجمال، حيث كنت مشغولا بعملي ومشاريعي الصغيرة التي لم تنتج لي شيئا· للأسف فإنني لم أتذوق هذه المتعة من قبل وقد آن لي أن استمتع بها استمتاعا يفوق الوصف· الشيء الآخر الذي أتاحته لي هذه المرحلة هو تفرغي للعبادة والتفكر والتمتع بالقرب من الله سبحانه وتعالى· جلسات التسبيح وقراءة القرآن والأحاديث والسيرة والتفسير، عالم لذيذ لا يمكن مقاومته، فكم كنت لاهيا عن تلك المتعة، أصلي بسرعة ولا أجد الوقت الكافي للقراءة أو ختم القرآن الكريم وفهمه بهذا الشكل الواضح الجميل· اكتشفت كل هذه المتع الرائعة وأنا أقضي أيامي في بيت ابني الأكبر فنسيت وحدتي ونسيت قلقي وتعبي ونسيت المقهى والوقت الضائع الذي كنت أقضيه فيه، والأحاديث التافهة التي كنت استمع إليها، والدخان الذي كنت أحرق به رئتي بلا رحمة· كل ذلك مضى وانقضى وأحمد الله كثيرا لأنه انتشلني إلى بر الأمان الذي أكرم فيه شيخوختي خير إكرام·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©