السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

اللغة هي السلطة الغائبة في السياسة العربية

22 مايو 2007 00:34
القاهرة - حلمي النمنم: يندر أن تجد كتابا يجمع بين العمق الفكري ورصانة التناول ويكون ممتعا وشيقا للقارئ، وهذا كله توفر لكتاب الناقد التونسي د·عبد السلام المسدي ''السياسة وسلطة اللغة''، وصدر مؤخرا في القاهرة والمؤلف أحد أساتذة اللغة والخطاب المعدودين في العالم العربي كله، وهو ليس بعيدا عن السياسة، فقد تولى عدة مناصب في تونس من بينها وزير التعليم العالي والبحث العلمي· ويبدأ الكتاب من حقيقة مؤكدة لدى د· المسدي وهي الارتباط الشديد بين السياسة واللغة، فالسياسة هي السلطة الحاضرة واللغة هي السلطة الغائبة، والذين يصوغون الأحلام الإنسانية يرون أن العالم كان يمكن أن يكون أسعد لو أن ''السياسة قلصت من حضورها في وعي أصحابها، وان اللغة قلصت من غيابها عن جمهور الناس المحكومين بالسياسة''· وإذا كانت اللغة أداة مطلقة عموما، فإنها في السياسة قيمة مقيدة، وفي الإعلام تصبح وظيفة متحكمة· وقد تحولت اللغة إلى سلطة داخل سلطة السياسة بمراحل عدة، أهمها، في العصر الحديث نشأة الصحافة ثم ظهور البث الإذاعي وبعده البث التلفزيوني، وأخيرا استحداث الانترنت، إنها كالمراحل الجينية التي استوى فيها سلطان اللغة وتم فيها الاعتراف لها بسلطاتها، وسيكون من الغباء أن نعزل سلطة السياسة عن سلطة اللغة، وسيكون وجيها أن يسأل السائل وهو ينخرط في ميثاق قراءة الهم الإنساني ايهما أكثر اقترافا للإثم؟ سياسي يزهد في اللغة أم لغوي يستهجن السياسة، وقد يجر السؤال صاحبه بعيدا أيهما أحق بالكشف·· لغوي يحترف ''تسويغ'' السياسة أم سياسي يتجنى على اللغة؟ وإذا كان هناك كلام أدبي وكلام علمي وقانوني ولكل قواعده وترتيباته الخاصة، فإن للكلام السياسي ضوابطه وقوانينه، ومن جهل تلك الضوابط والقوانين تحدث في السياسة وهو غافل عن أسرار لغة السياسة، حتى ولو كان ممسكا بزمام القرار ومتربعا على أرفع المناصب، ويأتي خطابه السياسي كخطاب الهواة في لعبة السياسة، ومن علم تلك الضوابط والقوانين وخبرها تحدث في السياسة وهو واع بأسرار لغتها ماسك بأزمتها، حتى ولو لم يكن صاحب القرار ومن أهل المناصب· صناعة التخييل واللغة تساهم في صناعة التخييل، فنرى الحقيقة متعددة بينما تكون واحدة، أو يتم تأويل الرؤى المتعددة باعتبارها ستائر تخفي وراءها حقيقة واحدة، والنموذج لذلك هو ما أورده الشاذلي القليبي أمين عام جامعة الدول العربية سابقا في كتابه ''الشرق والغرب''، عندما غزا العراق دولة الكويت في 2 أغسطس عام ،1990 عقدت قمة عربية في القاهرة وكان القادة العرب بين اختيارين: الأول هو إرسال قوة عربية لمواجهة الجيش العراقي وتحرير الكويت، ولم يكن ذلك ممكنا، فضلا عن انه يكرس الأمر الواقع· الاختيار الثاني هو الانضمام للقوة الدولية أو التحالف الدولي الذي كانت الولايات المتحدة قد بدأت تشكيله· وكان صعبا على القادة العرب أن يبرروا أمام شعوبهم ذلك المسلك، وهنا تدخلت اللغة لتنقذهم فقد تحدث الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد قائلا: إن القوات السورية ستأتي لا لضرب العراق بل لحماية المملكة العربية السعودية، ويقول ''القليبي'' إنها كلمة أسعدت الجميع فتبنوها· كما يضيف أيضا عن صياغة الأسد، انه وجد الصيغة الملائمة التي يمكن أن تصون الشرف، وقد أنقذت هذه العبارة الزعماء العرب من الاختيار الصعب، إما تكريس احتلال العراق للكويت وإما الانضمام للتحالف، وهنا تكمن سلطة اللغة فلم يكن العراق قد هدد المملكة العربية السعودية، ولا السعودية نفسها كانت قد طلبت قوات عربية ولا اشتكت من تهديد لها، وكل ما كان هناك وقتها أن الولايات المتحدة بثت صورا وأخبارا لم تتأكد عن ''نية'' صدام حسين دخول المملكة العربية السعودية''، والحقيقة في كل هذا أن العرب كانوا راغبين في تحرير الكويت، وكان الرئيس حافظ الأسد راغبا في إرضاء دول الخليج، وليس الولايات المتحدة· وهنا يثور التساؤل الذي طرحه الفيلسوف الألماني ''هيجل'' من قبل، هل التاريخ تحكمه الوقائع؟ أم تحكمه الأفكار التي يصوغها الإنسان باللغة عن الوقائع كما يراها؟ والنتيجة أن اللغة كما يرى ''المسدي'' تصبح في لحظة معينة هي بذاتها سلطة، كما في حالة القادة العرب بمؤتمر القاهرة، وان الحقيقة في النهاية كينونة مطمورة وغائبة إلى أن تستدعيها فكرة ويتم التعبير عنها باللغة· سلطة الألقاب سلطة اللغة ليست واضحة في عالمنا العربي فقط، ولكنها موجودة في السياسة الدولية وفي سياسات الدول والقوى الكبرى ويطوف بناء ''المسدي'' في دهاليز البيت الأبيض والإليزيه والكرملين ضاربا الأمثلة والنماذج التي تكشف سلطة اللغة· وإذا كانت اللغة تتحول إلى لقب يجذب الشهرة في عالم الفن، فإنها تصبح كذلك في عالم السياسة وفي عالمنا العربي أيضا، فالاسم الحقيقي يختفي تماما وراء الاسم الفني، أو اسم الزعيم، فلو سألنا مواطنا في أي عاصمة عربية من هو محمد عبدالرحمن القدوة الحسيني فلن يجيب أو من يكون محمد بوخروبة، رغم أن الكثير من المواطنين العرب يعرفون جيدا صاحبي الاسمين فالأول هو ''ياسر عرفات الرئيس'' الفلسطيني الراحل والثاني هو الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين· ياسر عرفات اختار لنفسه ذلك الاسم، في المشرق العربي يكون النداء بالكنية فصار لقبه ''أبوعمار''، وسواء كان الاسم أو الكنية، فكل منهما له دلالة خاصة في الأذن العربية، أما الرئيس الجزائري فقد ألف لنفسه اسما ثنائيا، كل طرف من طرفيه هو اسم لأحد الأولياء، الصالحين في الجزائر الولي الهواري والولي ابومدين وكل من الزعيمين عرف النضال ضد الاحتلال والاستعمار وفرضت سنوات النضال على كل منهما أن يتخذ له اسما حركيا ولكن بعد انتهاء تلك المرحلة لم يعد أي منهما إلى اسمه الذي تسمى به عندما ولد· في مصر منذ ثورة 23 يوليو 1952 التي قام بها الضباط الأحرار الذين كانوا يحملون رتبا عسكرية، حرص كل رئيس جاء منهم على أن يقدم نفسه للرأي العام بالاسم السياسي، وهو الرئيس وقد اشتقت من تلك الكلمة صيغة ذات نبرة صوتية وبنية مقطعية مغايرة لإيقاع العربية الفصحى ''الراّيس''، وقد اتخذت الصحافة الأجنبية تلك التسمية وأخذت بها خاصة ''لوموند'' الفرنسية· لعبة النبرات يعد الرئيس المصري أنور السادات من أبرع الذين انتبهوا إلى سلطة اللغة والتلاعب بمقاطع الكلمات ونبرات الصوت في خطبه، إذ كان لديه ولع بأن يطلق عليه في الإعلام الرئيس المؤمن، وفي إحدى المرات حين غامت العلاقات بين مصر وليبيا بسبب عدول الرئيس المصري عن بعض مشاريع الوحدة، ونشبت حرب اعلامية بين السادات والقذافي، راح السادات يتساءل عن اسم الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي، ويردده كلمة كلمة ببطء أو بصوت لاهث· والمعروف أن الاسم في اللغة إذا طال لا يصلح، ولكن قانون الاقتصاد اللغوي سيحمل الناس على الاختصار، وقد تم هذا فعلا، حيث يقال فقط الجماهيرية والعقيد القذافي نفسه يكتفي بتلك الكلمة· لم يكن السادات يتوانى عن استحداث كلمات يواجه بها أزمات سياسية، ففي 18 و 19 يناير 1977 قامت انتفاضة الشعب المصري احتجاجا على رفع بعض الأسعار، وانبرت الصحف في وصف ما حدث بأنه ''انتفاضة الخبز''، ولكنه في خطاب ينطلق بتسمية جديدة تختزل موقفه ورأيه كله، فقد أطلق عليها انتفاضة الحرامية، ولم يأت بهذه التسمية من فراغ، لكنه استغل قيام البعض بالسطو على المحلات ونهب بعض الممتلكات، وتسميته لم تكن تخلو من دلالة سياسية وصارت تسمية أخذ الكثيرون بها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©