الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مانديلا: سجين ورئيس... وبستاني

مانديلا: سجين ورئيس... وبستاني
10 ديسمبر 2013 23:39
اسم نيلسون مانديلا الأوسط، «روليهلالا»، وهذه الكلمة تعني «المشاغب»، وهو فعلا كان كذلك، فعلى مدى حياته الحافلة تقمص الأدوار كلها تقريباً بين لص صغير ومحام رائد وسياسي ماهر وزعيم لحرب العصابات، أو «إرهابي»، حسب خصومه، ليصبح سجيناً مشهوراً وصانع سلام استطاع كسر أغلال نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ويكون أول رئيس أسود للبلاد. واليوم وفيما يبكي العالم كله وفاته، تظل حياته الاستثنائية فرصة فريدة لإثراء النقاشات الأخلاقية المهمة حول الحرب والسلام لأجيال قادمة،. فمنذ أن بدأت التقارير الإعلامية تتحدث على مدى الشهور القليلة الماضية عن تدهور صحة مانديلا، كان ذهني منصرفاً للتفكير في أحد الدروس الكبيرة التي تعلمتها منه، وهي كيف تزرع الطماطم!؟ ففي خريف العام 1997 انتقلت أنا وزوجتي للعيش بجنوب أفريقيا، حينها كان مانديلا قد أمضى سنته الثالثة في ولايته الرئاسية الوحيدة من خمس سنوات التي قضاها في السلطة، ولم تكن وقتها البلاد قد استعادت توازنها تماماً بسبب المشاعر والانفعالات المختلطة والمتأرجحة بين الارتياح وعدم اليقين، وبين المصالحة والشعور بالاستياء، والشك والصفح، كما أن قدومنا في هذه الظروف إلى جنوب أفريقيا كان يُقابل بالدهشة وعدم التصديق، إذ كيف لزوج أبيض المجيء إلى بلاد يصطف البيض لمغادرتها؟ لكن حياتنا بدأت مع ذلك في جنوب أفريقيا، وكانت الخطوة الأولى استئجار بيت متواضع في إحدى ضواحي جوهانسبيرج الشمالية، وفي الربيع زرعنا بعض النباتات الوردية في أماكن من حديقة المنزل، حيث كانت أشعة الشمس تغسل أرض الحديقة طيلة اليوم، وكنت أراقب ما يجري من نافذة المكتب المطلة على الورود متتبعاً نموها وتفتحها، لكن مع ذلك ظل يحدوني أمل في استكمال زراعة الحديقة بالخضروات وملئها بالأنواع المختلفة، وكنت متوجساً من أن مالكي البيت لن يسمحوا لنا بزراعة الحديقة وتقليب ترابها، رغم أنهم غادروا إلى أستراليا ولم يعودوا قط، إلا أن الخوف في ظل أشعة الشمس الدافئة التي تغسل كل صباح أرضية الحديقة وتبعث في أوصالها الدفء والحياة بدا لي غير مبرر، حينها وفي غمرة تفكيري صادفت مقطعاً في كتاب السيرة الذاتية لمانديلا «المسيرة الطويلة نحو الحرية» كان كفيلاً بتغيير موقفي، إذ لم يسهم فقط في حل مشكلة الحديقة التي أود زراعتها، بل أوضح تماماً الطريقة التي شن بها مانديلا معركته ضد نظام الفصل العنصري وانتصاره عليه. وبعدما قضى 18 سنة وراء القضبان في جزيرة روبين، نُقل مانديلا ورفاقه إلى سجن آخر داخل البلاد بالقرب من مدينة كيب تاون، ورغم نظام السجن الصارم في محبسه الجديد، أصر مانديلا على استنساخ تجربة جزيرة روبن والحصول على حديقته الخاصة، متحدياً بذلك كل الظروف الصعبة التي يقول عنها «في غضون أسابيع قليلة من رصد الفضاء غير المستغل على سطح السجن وكيف أن أشعة الشمس تلامسه طيلة اليوم، قررت إقامة حديقة فوقه وحصلت على الترخيص». ويواصل مانديلا مستذكراً ما جرى: «طلبت من سلطات السجن تزويدي بـ 16 برميلاً احتفظت بقواعدها السفلية بعدما قصمتها إلى نصفين، وقامت السلطات بملئها بالتراب الخصب لأحصل في النهاية على ما يشبه 32 أصيصاً.. وسرعان ما زرعت البصل والباذنجان والملفوف والجزر والخيار والطماطم والشمندر والخس وغيرها، وفي أوج ازدهار الحديقة وصل عدد المزروعات إلى حوالي تسعمائة نوع». ولم يمر وقت طويل على قراءة كتاب السيرة الذاتية لمانديلا حتى حصلت أنا أيضاً على حديقة متنوعة. وعلى مدى السنوات الإحدى عشرة التي عشتها في جنوب أفريقيا، راقبت مانديلا عن كثب واقتربت منه في العديد من المناسبات، حيث تجادلت معه في المؤتمرات الصحفية، وزرت الزنزانة التي كان يقبع فيها داخل السجن، كما التقيت بعدد من أصدقائه من مرحلة النضال ضد الميز العنصري، ومع أن يديه الكبيرتين تشبهان يد الملاكم المحترف، إلا أن مصافحته كانت مليئة بالدفء، وكان أيضاً ودوداً ودمثاً، وأحياناً سريع الغضب وعنيد، بالإضافة إلى واقعيته وميله للدعابة والمرح. وحتى عندما كان مانديلا في أوج نضاله ضد مضطهديه كان صبوراً ولا يستعجل النتائج، حيث حرص حرصاً شديداً على التفريق بين النظام السياسي القمعي نفسه وبين الناس الذين يخدمونه، وما كان إصراره على الحديقة في سجنه إلا وسيلة لإرغام سجانيه على الاعتراف بكرامة المعتقلين السياسيين دون أن يمنعه ذلك من وضع الورود على طاولة آمري السجن، فقد جسد مانديلا في نفسه مبادئ المصالحة التي ساعدت شعبه على تجاوز الماضي وآلامه. كما أن حضوره إلى جنب مواطنيه طمأنهم بشأن مستقبلهم، وطالما أن مانديلا كان بينهم شعر الجنوب أفريقيون أن المصير القاتم الذي تربص بعدد من البلدان الأفريقية لن يلاحقهم، ورغم الصداقات التي جمعته بشخصيات مثيرة للجدل والتي ترجع إلى سنوات النضال ضد العنصرية مثل فيديل كاسترو والزعيم الليبي معمر القذافي وغيرهم، إلا أن أهم ما كان يحرك مانديلا هو استعادة الأفارقة لكرامتهم، وهو لذلك لم يتردد في انتقاد رؤساء الدول بسبب الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وبالنسبة لقارة ابتليت بالحروب المستعصية والانقلابات العسكرية المستمرة مثَّل مانديلا سابقة فريدة من نوعها في الانتقال السلمي للسلطة من رئيس لآخر؛ وما زلت أذكر أن صديقاً قال لي إنه سمى ابنه أوباما تعبيراً منه على مدى تقديره للرجل، لكني أجبته بأني سبقته قبل عشر سنوات بتسمية ابني الذي ولد في جنوب أفريقيا بمانديلا تقديراً مني للزعيم الأفريقي. كيرت شيلنجر مراسل «بوسطن جلوب» في جنوب أفريقيا من 1997 إلى 2008 ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©