الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تسويغ الهيمنة

تسويغ الهيمنة
23 ديسمبر 2015 20:08
قد يتبادر إلى ذهن القارئ حينما يطالع عنوان هذا المقال، هو: أية حضارة؟! وربما يقول قائل: إن المقصود بطبيعة الحال هو الحضارة الغربية، باعتبارها الحضارة الراهنة المهيمنة. وعلى الرغم من أن الحضارة الغربية في مرحلة تألق وهيمنة، فقد رأى بعض الفلاسفة العظام من أمثال: اشبنجلر وتوينبي أن هذه الحضارة التي بلغت أوج تطورها، قد دخلت مرحلة التدهور أو الأفول بفعل عوامل داخلية تهدد وجودها واستمرارها! ولكننا نجد في مواجهة ذلك رؤى أخرى معاصرة، قد انشغلت بالدفاع عن هيمنة الحضارة الغربية الراهنة، ومحاولة تبرير وجودها واستمرارها؛ ويمكننا الكشف عن هذه الرؤى كما تتمثل في نظريتي فوكوياما وهنتنجتون المثيرتين لكثير من الشك والجدل. د. سعيد توفيق لقد طرح المفكر الأميركي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama نظريته في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» The End of History and the Last Man. وأساس هذا الكتاب كان محاضرة ألقاها فوكوياما في أحد المراكز البحثية بجامعة شيكاغو في العام الجامعي 1988-1989. ولقد لاقت هذه المحاضرة رواجاً واستحساناً؛ لأنها في المقام الأول تخدم التوجهات السياسية في الغرب الأميركي وتبررها؛ ولذلك سرعان ما تحولت المحاضرة إلى مقال شهير، ثم تحول المقال إلى كتاب سنة 1992. نظرية فوكوياما في كتابه يشير فوكوياما إلى الفكرة الأساسية في المقال الذي أخذ عنه الكتاب، وهي أن الديموقراطية الليبرالية قد تشكل نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ. ولا شك أن فوكوياما لا يعني «بنهاية التاريخ» نهاية العالم وتوقف الأحداث التاريخية، وإنما يعني، كما لاحظ كل من هيجل وماركس من قبل، أن التاريخ يتطور ليبلغ غاية معينة، فقد افترض كل منهم أن «للتاريخ نهاية»، وهي عند هيجل الدولة الليبرالية، وهي عند ماركس المجتمع الشيوعي، أما عند فوكوياما فهي الدولة الديموقراطية الليبرالية الرأسمالية التي تتجسد في المجتمع الغربي، وخاصة في المجتمع الأميركي! وعلى هذا، فإذا كان التاريخ قد بدأ بالمجتمع العبودي الذي تطور إلى المجتمع الزراعي الإقطاعي الأرستقراطي، فإنه قد بلغ النهاية الديموقراطية الليبرالية الحديثة، والرأسمالية القائمة على التكنولوجيا، وهي النظام القادر على حل سائر المشكلات البشرية الكبرى، والغاية التي ينبغي أن تسعى إليها سائر المجتمعات؛ لأنها يجب أن تدرك أنه ليس هناك مجال للتقدم أبعد من ذلك فيما يتعلق بتطور المبادئ والأنظمة السياسية، أما الدول التي لا تفهم ذلك، فإنها تحيا خارج التاريخ (وهذا يشمل- بطبيعة الحال- دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية). ولا شك أن الديموقراطية الليبرالية كنظام سياسي، تقتضي- فيما يرى فوكوياما- بناءً جديداً للدولة التي تريد أن تلحق بركب قطار التاريخ، لعل أهم ملامحه: التخلي عن الأشكال التقليدية للتنظيم الاجتماعي (كالقبيلة، والطائفة والعائلة)، والتمييز بين الناس على أساس من الكفاءة في مجال العمل وأهمية الدور الاجتماعي الذي يضطلع به الفرد، وتبني آليات الاقتصاد الحر. وليس هناك جديد في سائر ما يقوله فوكوياما بعد ذلك، سوى محاولة تدعيم هذه الرؤية بالشواهد والأمثلة والحجج. غير أن كثيراً من هذه الشواهد والأمثلة تبدو تعسفية؛ إذ إننا نستطيع أن نسوق في مقابلها العديد من الأمثلة والشواهد المغايرة التي لا تخدم تلك النظرية، ومن ذلك على سبيل المثال: أن بعضاً من الدول المتقدمة اقتصادياً في عصرنا هذا لا تتبنى نفس النظام السياسي، وما يقترن به من أشكال التنظيم الاجتماعي، كما أن النظرية في مجملها ليست بجديدة في جوهرها، وإنما تعيد- بلغة عصرية- ترديد مقولة سابقة في نظريات أكثر شمولاً وعمقاً، كنظريات هيجل وماركس، وهي المقولة التي تدعي أن التاريخ يصل إلى غايته عندما يبلغ نقطة معينة. وبطبيعة الحال، فإن هذه النقطة قد اختلفت من نظرية لأخرى بحسب تصور الفيلسوف أو المفكر، وبحسب الغاية التي يسعى إليها ويحاول تبريرها، وليس هذا هو ما ينبغي أن تكون عليه الرؤية الفلسفية التي تتوخى الحقيقة؛ إذ ينبغي ألا تتخذ موقفاً تبريرياً لوضع قائم في لحظة تاريخية معينة، وإنما ينبغي أن تحاول فهم الوضع التاريخي، ووصفه، وتفسيره، باعتباره جزءاً في سياق متصل لا يتوقف إلا بفناء البشرية ذاتها، وليس أدل على فساد تلك المقولة من أن التاريخ تجاوز مزاعمها في النظريات السابقة: فالتاريخ الإنساني لم يتوقف عند نموذج الدولة البروسية المسيحية التي دافع عنها هيجل إلى حد التأليه، بل إن التاريخ لم يلتفت حتى لمفهوم الدولة الذي حلم به ماركس، والذي تسيطر فيه الطبقة العاملة وتفرض سائر قيمها، وحتى إن قدر لهذا المفهوم أن يتحقق، لكان التاريخ قد تجاوزه حتماً. نظرية هنتنجتون كذلك فإن نظرية هنتنجتون Samuel Huntington تنتمي أيضاً إلى النظريات التي تحاول تبرير الوضع القائم للحضارة الغربية الراهنة وعلاقتها بسائر الأطراف والمراكز الحضارية الأخرى. غير أن نظريته التي ضمنها كتابه «صدام الحضارات: إعادة تشكيل العالم «The Clash of Civilization and the Remaking of the World الصادر سنة 1996 – تعد أكثر تلك النظريات التبريرية ذيوعاً؛ لأنها تتناول الأحداث العالمية الراهنة، وترسم سيناريوهات (أي تصورات ممكنة أو محتملة) تنتمي إلى ما يُسمى «بعلم المستقبليات». وفحوى تلك النظرية يمكن تبسيطه على النحو التالي: إن التاريخ العالمي منذ نشأته وحتى الآن هو تاريخ للصراع البشري، ولقد تمثل هذا الصراع قديماً بين الأباطرة والملوك وفقاً لأهوائهم الشخصية، ثم تمثل بين الدول والقوميات في دفاعها عن مصالحها الاقتصادية، ثم أصبح صراعاً بين أيديولوجيات، وخاصة بين الأيديولوجيا الرأسمالية الغربية والأيديولوجيا الشيوعية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، أما الآن فإن الصراع يعد صراعَ حضارات، أي صراعاً ثقافياً؛ لأن ما يهم الناس، ليس هو الأيديولوجيا أو المصالح الاقتصادية، بل الإيمان والأسرة والدم والعقيدة، فذلك هو يجمع الناس، وما يحاربون من أجله، ويموتون في سبيله»! فالحضارات الإنسانية هي القبائل الإنسانية الكبرى، وصدام الحضارات أشبه بصراع قبائلي يجري على نطاق عالمي، أي أنه صراع بين الكيانات الثقافية التي تتمثل في العرق والدين واللغة والتاريخ والتراث والعادات والأخلاق والقيم عموماً. وعلى هذا، فإن هنتنجتون يتصور الصراع المعاصر بين الغرب والعالم الإسلامي على أنه صراع بين الأصولية الغربية والأصولية الإسلامية: والخلاف بينهما يكمن في أن الأصولية الغربية تنطلق من ثقافتها وإنجازاتها الراهنة التي تمثل عصرها الذهبي، في حين أن الأصولية الإسلامية ترى أن العصر الراهن هو امتداد لعصور التدهور والانحطاط التي تلت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية؛ ولذلك فإن الأصوليين الإسلاميين ينشغلون بالتنقيب في الماضي البعيد، تاركين العالم لمن يهيمنون عليه بالفعل. والواقع أن هنتنجتون لا يكتفي بوضع تصور لتفسير الصراع العالمي بين الحضارات، بل إنه في الجزء الأخير من كتابه، بعنوان «مستقبل الحضارات»، يناقش مفهوم «عالمية الحضارة الغربية» الذي يمثل اعتقاداً سائداً في الغرب، ويرى فيه اعتقاداً زائفاً ولا أخلاقياً وخطراً، وهو اعتقاد خطر؛ لأنه قد يؤدي إلى حروب بين الغرب ودول المركز في حضارات مختلفة: كالحضارتين الآسيوية والإسلامية. وعلى الرغم من أن نظرية هنتنجتون ترفض فكرة الحضارة العالمية الواحدة، وتقر بوجود حضارات أخرى كالحضارة الإسلامية وحضارات جنوب شرق آسيا، إلا أنها لا تخلو من نظرة استعلائية حينما تنظر للحضارة الغربية باعتبارها حضارة متميزة على غيرها؛ ولذلك فإنه (في الفصل الثامن من كتابه) يصنف حضارات العالم إلى: «الغرب في مقابل الباقي». فهو يصور لنا «صراع الحضارات» على أنه صراع بين الغرب (وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها مركز ثقل هذه الحضارة وقوتها) وسائر الحضارات الأخرى: كالحضارة الإسلامية وحضارة جنوب شرق آسيا (وخاصة الصين)، وهو في الفصل الأخير من كتابه يقدم لنا سيناريو محتملاً لنشوب حروب عديدة تجسد هذا الصراع، ويقدم لنا- فضلاً عن ذلك- اقتراحاً لتجنب مثل هذه الحروب المحتملة في الحقبة القادمة، بأن تنأى دول المركز عن التدخل في الصراعات الداخلية التي تنشأ داخل الحضارات الأخرى؛ وهذا الامتناع عن التدخل هو أول متطلبات السلام في عالم متعدد الحضارات، ولكنه يرى أن بعض الدول، وبخاصة الولايات المتحدة، ستجد بلا شك صعوبة في قبول ذلك! ولهذا كله، نرى أن نظرية هنتنجتون هي مجرد خطة لتبرير سياسات الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، إزاء حضارات الشعوب الأخرى. ومن هنا أيضاً فقد رأى صلاح قنصوه- في مقدمته لترجمة كتاب هنتنجتون- أن نظريته أشبه «بخريطة» جديدة لإدارة الأزمات التي تنتج عن عوامل الصراع الحقيقية؛ فالكتاب كله تأكيد على التشبث بالخصومة بين البشر، حتى يفرغ أصحاب المصالح لشؤونهم وإدارة العالم الممزق، ونظريته في الصدام الحضاري ليست أكثر من ثوب قشيب لفكرة أو ممارسة عتيقة جداً هي «فرِّق تسد». فنظريته لا تسعى للسلام، بقدر ما تبحث عن مشروعية للعدوان من خلال خلق عدو باستمرار: فسقوط الاتحاد السوفييتي لم يؤد إلى إنهاء الصراع والاستمتاع بالسلام، بل كان يعني البحث عن عدو جديد، وهذا هو مغزى عبارة جورباتشوف البليغة في خطابه للغرب عند إعلانه سقوط الإمبراطورية السوفييتية: «نحن نقوم بأمر مروع لكم، فنحن نحرمكم من عدو»! وربما يكون السؤال الأساسي الذي يمكن طرحه في مواجهة نظرية هنتنجتون في «صدام الحضارات» هو: هل الحضارات تتصادم حقاً؟! وهذا سؤال بسيط، ولكنه سؤال أساسي يضع علامة استفهام كبيرة على نظرية هنتنجتون منذ البداية، وإن كان عادةً ما يغيب عن ذهن القارئ الذي يكون مأخوذاً بحشد التفاصيل المليئة بالأحداث والوقائع التاريخية المشوقة في الكتاب. فمن الواضح أن الحضارات عبر التاريخ لم تتصادم أبداً، فالصدام كان دوماً وليد نزعات غير حضارية، إمبريالية أو استعمارية، وهي نزعات لا تنشأ إلا عندما تكون الحضارة في مرحلة أفولها كما لاحظ توينبي من قبل. فالثقافة هي بنية الحضارة الأساسية ممثلةً في طابعها الروحي، والثقافات لا تتصارع، وإنما تتحاور؛ لأن الثقافة تقوم على حب المعرفة والرغبة في الفهم، وهذا يقتضي دائماً الانفتاح على ثقافة الآخر، فالثقافات تتلاقح وتستفيد بعضها من بعض، والشواهد على ذلك لا حصر لها في تاريخ الحضارات. سطوة العولمة كل ما سبق يجعلنا نصل إلى نتيجة تؤكد أن القوى الإمبريالية عادت إلى الظهور في عالمنا المعاصر من خلال أيديولوجيات ونظريات تبريرية لسياسات الهيمنة. ومن أدوات الهيمنة التي تستعين بها هذه القوى نظام العولمة الذي تتجلى أذرعه في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولا ريب في أن عصرنا الراهن موسوم بأنه عصر العولمة. فما العولمة؟! يظن كثير من الناس أن العولمة تعني سيادة نظام عالمي جديد يعمل على توحيد البشر في هوية واحدة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، ولكن سذاجة هذا الرأي لا تكمن فحسب في غفلته عن التأثير السلبي للعولمة على بلدان العالم الثالث خاصةً، وإنما تكمن أيضاً في سوء فهم معنى العولمة ومعنى الهوية على السواء. وفضلاً عن ذلك، فإن العولمة كنظام جديد لا يمكن مناقشتها بمنأى عن ثورة المعرفة والاتصالات التي أصبحت تحدد ملامح الحضارة في عصرنا إلى حد بعيد. إن العولمة Globalization في الأصل واقع جديد خلقه نظام اقتصادي مقترن بالرأسمالية الجديدة التي أصبحت تسمى بالرأسمالية الكوكبية أو رأسمالية العولمة، وهي نظام رأسمالي مختلف عن الرأسمالية الإمبريالية التي نشأت عقب الثورة الصناعية، مدعومةً بمفهوم الدولة القومية التي تسعى لتحقيق مصالحها، ولو عن طريق الاستعمار والقوة العسكرية، بنهب ثروات المناطق الغنية بالمواد الخام اللازمة لحركة التصنيع وإنتاج السلع التي يتم تسويقها في المستعمرات المنهوبة. تعد هذه الرأسمالية الكوكبية إحدى أدوات الإمبريالية المعاصرة، فهي نظام لا يكون في حاجة إلى القوة العسكرية ليفرض هيمنته، وهو يتخطى الحدود الإقليمية أو الجغرافية للدول؛ لأنه يكون مدعوماً وموجهاً بشركات كوكبية متعدية للقوميات Transnational Global Corporations، فهي شركات تتخطى حدود الدول والقوميات، متمركزة في ثلاثة محاور رئيسة هي: الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، والتمركز هنا يشير فقط إلى جغرافية المقر الرئيسي؛ إذ إن أغلب هذه الشركات لها فروع بالآلاف منتشرة حول العالم. ولهذه الشركات ميزانيات هائلة كثيراً ما تفوق ميزانيات العديد من دول العالم الثالث، إذ إنها تعتمد على الاحتكار والربح المضمون؛ لأنها تعتمد على تعدد النشاط ولا مركزيته من الناحية الجغرافية، بحيث تبقى هذه الشركات بمنأى عن تقلبات السوق. وعادة ما يُطلق على هذه الشركات اسم الشركات متعددة الجنسيات Multi-national Corporations، وهي تسمية غير دقيقة؛ لأن تعدد الجنسيات العاملة في هذه الشركات ظاهرة ثانوية تابعة لكونها متعددة الأفرع بالضرورة، ومن ثم فإن هذا التعدد لا يشكل جوهر مفهومها، فضلاً عن أن فكرة تعدد الجنسيات- في حد ذاتها- قد توحي لدى البعض بأن هذه الشركات تسعى إلى تحقيق الوحدة والتضامن والتزامل بين الشعوب؛ وبذلك يتم إضفاء مفاهيمَ ومعانٍ أخلاقية على نشاط هذه الشركات الذي يقوم على رأسمالية متوحشة شعارها «إما أن تأكل أو تُؤكَل»، ويسعى إلى تخطي حدود الدول القومية، بما في ذلك دولة المركز نفسها؛ وبذلك فإنه يسعى إلى تقويض الهوية باعتبارها حالة من التوحد لدى شعب أو أمة ما. ولذلك يقول مؤلف كتاب «عالم ماك (أو «الجهاد في مواجهة عالم ماك») الصادر سنة 1995: «إن الدور الذي تقوم به الشركات في الوقت الراهن في الشؤون الكونية أكثر مركزية من دور الأمم. إننا ندعوها متعددة الجنسية، في حين أننا لو فهمناها فهماً صحيحاً، لوجدناها عابرة للقومية أو ما بعد قومية أو معادية للقومية؛ فهي تنكر فكرة الأممية أو الإقليمية التي تقيدها زمانياً أو مكانياً، وعملاؤها ليسوا مواطني أمة بعينها أو أبناء إحدى العشائر الإقليمية؛ لأنهم ينتمون إلى قبيلة كوكبية من المستهلكين، تحددهم الحاجات والرغبات الموجودة في كل زمان ومكان، سواء كانت بفعل الطبيعة أو من صنع الدعاية والإعلان..» (ص. 27 ). ولهذا اتخذت شركة ريبوك للأحذية الرياضية شعاراً لها «على كوكب ريبوك، لا وجود للحدود»! وإذا كان ماكدونالدز يقدم خدمات لأكثر من عشرين مليون مستهلك في أنحاء العالم كل يوم، ويجتذب كل يوم من العملاء ما يزيد على عدد سكان بعض الدول مجتمعة، وإذا كانت بعض هذه الشركات يزيد دخلها على الدخل القومي السنوي لهذه الدول؛ فلنا أن نتخيل تبعاً لذلك مدى قدرة هذه الشركات على التأثير في السياسات الدولية، وفي توجيه القرار السياسي من خلال المؤسسات الاقتصادية الدولية: كمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وصندوق النقد والبنك الدوليان، ومنظمة التجارة العالمية. وهكذا تصبح السياسة أداة في يد المصالح الاقتصادية لهذه الدول، وهي المصالح التي ترسمها الشركات المتعدية للقوميات؛ إذ تمارس السياسة هنا ضغوطاً قوية على الدول الأخرى التي تقع خارج منظومة العولمة، كي تدخل في هذه المنظومة بكل آلياتها وتبعاتها الاقتصادية، بدءاً من تحرير اقتصادها إلى تبني نظم ديمقراطية ليبرالية، وإلا تعرضت لعقوبات ممثلة في قطع أو تقليص التمويل الدولي والمعونات التي تمنحها تلك الدول العظمى، وخاصة المعونات الأميركية، ولكن في أحيان كثيرة يتم التعامل بازدواجية مع الدول الواقعة خارج منظومة العولمة، بحسب توافقها ورضوخها للسياسة الدولية الموجهة وفقاً للمصالح الاقتصادية. ومن تجليات البعد السياسي للعولمة أيضاً: تقليص مفهوم الدولة من خلال انتزاع سيادتها لمصلحة كيانات دولية أكبر وأكثر هيمنة، ومن خلال السعي إلى تفتيتها إلى كيانات عرقية ودينية وعصبيات إقليمية. وهذا الخطر يزداد قوة من خلال تأثير البعد الثقافي للعولمة. ثورة المعرفة ولا شك أن البعد الثقافي للعولمة هو أيضاً نتاج لبُعدها الاقتصادي: فالعولمة بمعناها الاقتصادي، ممثلة في الشركات الكوكبية، تعول على التكنولوجيا وثورة الاتصالات: فمن ناحية نجد أن هذه الشركات العملاقة لا يمكن إدارتها إلا بالاستعانة بالتكنولوجيا المتطورة، سواء على مستوى الإنتاج الذي يستغني تدريجياً عن العمالة البشرية، أو من حيث التسويق الذي يعتمد على سطوة الصورة البصرية من خلال الفيديولوچيا التي تشمل التليفزيون والفيديو وشاشات الكومبيوتر. فمثل هذه الآليات الجبارة يتم استخدامها للإعلان عن ماركة منتج معين وتسويقها؛ لتصبح الماركة نفسها هي المهيمنة على عقول الشباب، وكأنهم يجدون في هذه الماركات ضالتهم التي يستمدون منها شعورهم بالتفوق والامتياز، بل شعورهم بأن هناك عالماً ينتمون إليه، عوضاً عن عالم يفتقدون فيه الشعور بالهوية. إن الفيديولوجيا كوسائط وآليات مقترنة بالعولمة، تنقل معها ثقافات الدول الغربية المهيمنة فيما يتعلق بسائر أساليب الحياة، وفي ظل هذا الطغيان الثقافي الكاسح للعولمة في إطار دولة قد تقلصت سيادتها، تبحث الشعوب عن مرفأ تلوذ به: فتلجأ أحياناً إلى الانصياع إلى الثقافة الدخيلة، وتتقمص مظاهرها الهشة المتداولة إعلانياً عبر وسائل الاتصال السريع Multimedia Super-Highway، كما هو الحال في سلوك أغلب الشباب، وهذا هو عين التغريب، وقد تلجأ في أحيان أخرى إلى استجابة عكسية تحاول من خلالها تأكيد الهوية، كالتشبث بالعرق أو الدين أو العصبية، وهذا هو الحال بالنسبة لأكراد العراق، والصرب في كرواتيا، والنزاع العرقي الديني في السودان وفي اليمن وبلاد الشام، والعصبيات الإقليمية في أفغانستان، ومجازر التصفية العرقية والصراعات القبلية في كثير من بلدان أفريقيا. ولا شك أن ظواهر التقوقع والنكوص والارتداد التي تتمثل في الحركات العرقية والانفصالية وحركات المد الديني الأصولي الذي يسعى إلى الاستيلاء على السلطة- هي كلها ظواهر تعبر عن استجابة فاشلة إزاء تحدي العولمة، إذ استخدمنا هنا مصطلح توينبي فيما يتعلق بالتحدي والاستجابة. وهذه الاستجابة الفاشلة هي الوجه الآخر للاستجابة الأخرى الفاشلة التي تسعى للانسحاق في الآخر: فليس هناك سوى استجابة واحدة ناجحة في مواجهة تحديات العولمة، وهي الاعتراف بالظاهرة نفسها والدخول فيها، لا بالخضوع السلبي لها، وإنما بمواجهة آلياتها بآليات أخرى مغايرة تُعظِّم الاستفادة من فوائدها، وتكفل الحماية من مخاطرها. فليست العولمة شراً في مجملها؛ إذ يقترن بها آليات ينبغي الدخول في مجالها بالمشاركة في صنعها، مثل: ظواهر التطور التكنولوجي الهائل، وثورة الاتصالات والمعلومات، وحرية التجارة وحركة رأس المال.. إلخ؛ فكل هذا من شأنه أن يكفل سهولة الحركة والانتقال، والانفتاح على العالم، وتوسيع الآفاق أمام الإنتاج، ويُسر عملية التلقي للثقافات المختلفة، وتحفيز الإبداع في سائر مستوياته. ويكفي أن يُقارِن المرء بين الفترة الزمنية التي كانت مطلوبة فيما مضى، كي تستفيد حضارة ناهضة من ميراث حضارة سابقة عليها، عن طريق نقل معارفها وعلومها- وبين الفترة الضئيلة التي تتطلبها هذه العملية في عصرنا الراهن. وليس معنى ذلك أن اللحاق بركب التطور يكون من خلال الاكتفاء بنقل ظواهر التطور المقترنة بالعولمة: فعملية النقل أو الاستفادة ينبغي أن تكون مجرد مقدمة ضرورية للإبداع الذي يسعى إلى استيعاب القديم أو الوافد، من أجل خلق شيء جديد يكشف عن شخصية المبدع، ويحقق وجوده بأن يفسح له قدماً راسخة في هذا العالم الجديد الذي نحيا فيه. ولقد كان هذا حال كل الحضارات الناهضة فيما مضى، وهو أيضاً حال الحضارات التي نهضت في عصرنا الراهن. ويكفي أن نتأمل في هذا الصدد التجربة اليابانية التي قامت في البداية على رصد ومسح كل ترسانة الغرب للاستفادة من جوانب القوة فيها، ومعرفة جوانب الضعف التي يمكن تجاوزها على المسارات كافة: الصناعية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والتعليمية.. إلخ. درس اليابان إن التجربة اليابانية تقدم المثل الأعلى لدول العالم التي تريد أن تلحق بركب العصر، وتنأى بنفسها عن تهديدات ومخاطر ظواهر العولمة. ولم يكن التقدم الياباني (كما يلاحظ مؤلف كتاب «المعجزة اليابانية») محصوراً في مجال الصناعة والتكنولوجيا التي أصبحت صادراتها تهدد الصناعات الأميركية بقوة في عقر دارها، بل إن هذا التطور المستمر يمتد إلى مجال الثقافة والتعليم: كتعلم الموسيقى والفنون واللغات الأجنبية. ولقد بلغ تطور التعليم حداً بلغ أن الدارسين اليابانيين الذين يلتحقون بالجامعات الأميركية لا يجدون إلا القليل مما يمكن إضافته إلى معارفهم الأصلية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدول التي تريد مواجهة تحديات العصر والعولمة، يتعين عليها أن تحقق نوعاً من التكتلات الاقتصادية والتعاون في مجال التنمية الشاملة، وخاصة تلك الدول المتقاربة في مستوى تطورها، والتي توجد فيما بينها أواصر مشتركة. كما يتعين على هذه الدول أن تمارس ضغوطاً على المنظمات الدولية من أجل إصدار قوانين دولية قادرة على التقنين الأخلاقي لظواهر العولمة التي دخلت مرحلة الانفلات، وامتد تأثيرها السلبي بحيث يطال الجميع. وينبغي للدول التي تسعى للحاق بركب التقدم، أن تعي أن مجال الثقافة والقيم لا يقل أهمية وخطورة عن مجال العلم والتكنولوجيا، بل ربما يكون المجال الأول هو الأقدر على ترسيخ هوية البشر وتأكيد خصوصيتهم؛ ولا سبيل إلى ذلك كله إلا من خلال التعليم الذي يجب أن تستثمر فيه الدول أعظم طاقاتها. الثقافة بنية الحضارة الأساسية والثقافات لا تتصارع وإنما تتحاور لأن الثقافة تقتضي دائماً الانفتاح على ثقافة الآخر الغرب يتدهور الثقافة الإسلامية تفسر إلى حد كبير فشل قيام الديمقراطية في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي. التطورات في مجتمعات ما بعد الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق تتشكل طبقاً لهويتها الحضارية. المجتمعات ذات التراث المسيحي الغربي تتقدم نحو النمو الاقتصادي والسياسة الديمقراطية، أما آفاق نجاح النمو الاقتصادي والسياسي في الدول الأرثوذوكسية فهي غير مؤكدة.. آفاق النجاح في الجمهوريات الإسلامية كئيبة. الغرب حالياً هو أقوى الحضارات وسيظل كذلك لسنوات قادمة، إلا أن قوته تتدهور بالنسبة للحضارات الأخرى. وبينما يحاول أن يؤكد قيمه ويحكي مصالحه تواجه المجتمعات غير الغربية خياراً. البعض يحاول أن يحاكي الغرب وأن يلحق به أو «ينحاز» إليه. المجتمعات الكونفوشية والإسلامية الأخرى تحاول أن توسع قوتها الاقتصادية والعسكرية وأن تتوازن ضد الغرب. وهكذا يكون تفاعل قوة وثقافة الغرب مع قوة وثقافة الحضارات غير الغربية محوراً مركزياً للسياسة في عالم ما بعد الحرب الباردة. صمويل هنتنجتون صدام الحضارات (ص 48) نظرية هنتنغتون ليست أكثر من ثوب قشيب لفكرة أو ممارسة عتيقة جداً هي «فرِّق تسد» تناقض بقدر نجاح الديموقراطية الليبرالية في تطهير الحياة من الميجالوثيميا وإحلال الاستهلاك الرشيد محلها، بقدر ما سنصبح خاتم البشر. غير أن البشر سيثورون على هذه الفكرة، أي فكرة أنهم أعضاء متشابهون في دولة عامة ومتجانسة، كل كالآخر أينما سرنا في أنحاء المعمورة. سيريدون أن يكونوا مواطنين لا بورجوازيين، وسيجدون حياة العبودية دون سادة - أي حياة الاستهلاك العقلاني - حياة مملة في نهاية الأمر. سيريدون أن تكون لديهم مثل عليا يعيشون ويموتون على هديها، حتى وإن تحققت أعظم المثل بدرجة كبيرة على أرضنا، وسيريدون المخاطرة بحياتهم حتى لو نجح النظام الدولي الجديد في القضاء على احتمال نشوب الحرب. وهذا هو «التناقض» الذي لم تحله بعد الديموقراطية الليبرالية. كتاب: نهاية التاريخ وخاتم البشر (ص: 273-274 ) ترجمة حسين أحمد أمين العولمة أداة من أدوات الهيمنة تتجلى أذرعها في الاقتصاد والسياسة والثقافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©