الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

أبوظبي.. ملمس الحرير وعطر البحر

25 مايو 2007 00:34
نعيمة حسن: ودَّعت فضاء غزة المتشح بالسواد، وأنا أسمع حركة أبناء المدينة تدب في كل جانب من جسدي· بينما يهودية شقراء بشعر مجعد اصطناعي تصرخ: هون·· هون··· أوقف هون، بمعنى (قف هنا) وهي تتكلم بصيغة المذكَّر المفرد لجميع الحشود التي تنشد الفكاك من هذا الأسر الكبير· أقلتنا حافلة متكدِّسة برجال، ونساء، وأطفال، وقد حشرت أمتعتهم في الفجوات الضيقة بين هذه الكتل البشرية، ومكثت الحافلة واقفة بنا ما يقارب الأربع ساعات تحت شمس هائجة، واثنان من اليهود يتفحصوننا من تحت خوذتيهما الباهتتين في غرف زجاجية مكيفة على جانبي الحافلة ويشهران بنادقهما نحونا· ونحن مستسلمون لهذه الوقفة الإجبارية، فلا تسمع إلا همساً· أشار أحدهما بحركة من يده فسمعنا صريرَ عمود حديدي يرتفع من أفقيته ليسمح للحافلة بالمرور إلى الأراضي المصرية· تنهب السيارة الطريق وصوت أنينها يعلو ويعانق البيوت الطينية الحمراء المتناثرة على جانبي الطريق، بينما الفواكه الصيفية مكوَّمة على الرصيف الممتد على مرمى البصر· سماء القاهرة تلمع بالنجوم والعربات كأنها ربطت بخيط غير مرئي يتحرك رويداً رويداً، كان الزحام شديداً، غير أن السائق الذي أخذ يفقد أعصابه شيئاً فشيئاً، يضغط بوق سيارته بقوة محاولاً تجاوز هذا الزحام· السيارات المتزاحمة لا تعطيك الفرصة لتمتع عيونك بمنظر المباني الأثرية التي كُسيت باللون الفاطمي· وصلنا إلى مطار القاهرة الدولي بعد 7 ساعات، كان التفتيش دقيقا لكل حاجياتنا، مما أضاف حملاً جديدًا علينا· وبعد أكثر من 5 ساعات طارت بنا الطائرة، وكنت أركبها لأول مرة في حياتي· في مطار أبوظبي حطت بنا الرحلة وقت الغروب، وجدت نفسي في طابور قليل من أناس مختلفين فلا تجد اثنين يتشابهان، ومن وراء الزجاج الذي يفصل القادمين عن موظفي المطار، كان يجلس رجل مكسواً بالأبيض من رأسه حتى أخمص قدميه، وعلى المد الأفقي الزجاجي كان الرجال جميعهم بهذه الهيئة، لباسهم الأبيض يجعلك تشعر بالسكينة بعد هذا العناء بشفافية من يرتديها، وغمرني إحساس بالغبطة عندما سلمت جواز سفري الأخضر لذاك الرجل، نظر إليَّ بابتسامة رقيقة قائلاً: أهلاً بكِ في الإمارات، الحمد لله على السلامة· لم تأخذ الإجراءات أكثر من 10 دقائق· وعندما خرجت من المطار كنت أعتقد أنه مازالت هناك أماكن تفتيش آخرى سوف نرسل إليها· ولكنني فوجئت بأخي في استقبالي، فسألته: هل انتهت الإجراءات· فقال مبتسماً: أنت الآن على أرض الإمارات· فحمدت الله كثيراً· وأنا أشك في أن ساعات العذاب الطويلة والوقوف للتفتيش قد انتهت· جزر متناثرة في الإمارات تجد البحر والصحراء والجزر المتناثرة هنا وهناك، كان الطريق من المطار الى داخل العاصمة متعرجاً، تدخل في حدائق أشجار النخيل، بدت المدينة من جسر المقطع والذي تشاهد وأنت تمر من فوقه بقايا مبنى قديم، يذكرنا بفنارات البحر عند الرومان قديماً، مبنى عمودي ينتصب وسط الماء، يقطع عليك مجالك البصري ليمتد بك الخيال لأكثر من مجرد عمود طيني تبدو المدينة ملتحفة بالضباب، تمر على هذا الجسر دون أن تشعر أنك تعبر جسراً تاريخياً، وموقعاً حيوياً لمكان كان ذات يوم بمثابة البقعة الروحية التي تربط ما بين أبوظبي الجزيرة، واليايسة· أذان المغرب تترد أصداؤه في المكان· فكان صوته يضفي على المشهد سحر التناغم والانسجام، فالشمس ترسل آخر أشعتها، والمدينة كحوريات البحر تغتسل بزرقة السماء· اتخذنا طريق كورنيش أبوظبي وهناك نافوره كبيرة على شكل هرم، تتسلل من داخله جداول ينساب ماؤها بأنغام هازجة طرية· بينما الشمس تنحدر الى المغيب وظلال أشجار النخيل المصفوفة على جوانب الشارع غامرة إياه بنشوة المساء الجميل، وعلى البنايات الشاهقة المزخرفة بالألوان ذات الأدوار المتعددة، وهي تناطح السحاب ينشر القمر شعاعه فتبدو البنايات كعرائس تخفي وجوهها تحت براقع وردية شفافة تزيدها جمالا· سعادة هادئة ناعمة مثل ملمس الحرير غمرتني حين نزلت من السيارة في كاسر الأمواج على كورنيش ابوظبي لأشم رائحة البحر، كنت أحدق بالجزر التي تختفي في ضباب البحر، وطيور النورس البيضاء تحوم في السماء، وقد توهج الافق خلفها شفقياً ناصعاً، وصوت ارتطام الموج بالصخور يعلو ويعلو، فيتناثر رذاذ البحر المنعش على وجهي، بينما الظلام يتساقط متسللاً في مياه الخليج العميقة· بدت لي أبوظبي في الطرف الآخر، وكأن الأشجار والمباني الممتدة على الكورنيش رسمت بيد فنان بارع، و قفت على الشاطئ مستسلما لغنج وسحرالمدينة، وهي تتراقص على صفحة الخليج بنعومة، محدثة نغماً ينشي النفس، وكأنها قطعة موسيقية تهدهد المدينة وهي ذاهبة الى النوم· نقل العشب الأخضر عنفوانه إلى دمائي، وهو يلامس قدمي العاريتين لتنبض عروقي من جديد، وتدفع الوهن والنوم عن جفوني، الذي أنهكها خلال الأيام الماضية· فهنا سحر المكان يسرقك حتى من تعبك الجسدي· قرية الشعبي في نهاية كاسر الأمواج دخلت مقهى شعبيا، وبمجرد دخولي المكان أحسست أنني أمشي بين ذاكرة الأجداد، إنها تغفو هنا في هذا المكان، ذكراهم تغط في حلمها اللذيذ المشع والذي لا ينطفئ، يشحنك المكان بنوع من السحر لا تقدر على وصفه بالكلمات، وكأن أرواحا غامضة ترفرف في فضائه وبين ثناياه، فتملؤك سكينة وحبا بكل تفاصيل حياة الأجداد· لم يكن المطعم مجرد مكان للأكل والشرب، إنما بمثابة نقطة التقاء الحاضر بالماضي ، فهو يطل على البحر كاشفاً شفافية المدينة وكأنك تشاهد بثا مباشرا من مدينة أبوظبي موجها لمرتادي هذا المطعم فقط· جدران وسقف صالة المطعم مجدولة من خوص النخيل، تتدلى من أعمدته فوانيس تنقلك إلى ما قبل اختراع الكهرباء مضيفة مذاقا خاصاً ودفئاً لا تجده في أرقى المطاعم المنتشرة في أبوظبي، تقدم في هذا المطعم الأكلات الشعبية مثل: البرياني، المجبوس، الهريس· كما تقدم الشاي والقهوة العربية مجاناً كنوع من الكرم العربي المعروفة به بلاد الخليج· أغلب مرتادي هذا المطعم من الأجانب فهم مولعون بكل ماهو قديم، وتثيرهم تلك الصناعات اليدوية القديمة التي نثرت في الردهة اليمنى للمطعم، يلتقطون الصور التذكارية مع ما خلفه لنا أجدادنا، ونحن غير عابئين بهذا الموروث العظيم· كان ضجيج المكيفات والتوربينات والمولدات وأنا أدخل السوق القديم يسيطر على فضائه محدثا صدى ممتزجاً بصياح الباعة الآسيويين بأياديهم السمراء الداكنة، الجافة، وأصابعهم النحيلة ذات العظام الناتئة، وشرايينهم وعروقهم المحتقنة تكاد تخرج من الجلد الرقيق الذي يغطيها، يضعون سلعهم أمامهم لتغريك بأن تتفحصها، ومن ثم تشتريها· دكاكين صغيرة متناثرة، روائح البهارات ممزوجة بروائح العود العالقة بجدران السوق القديم· تسمع لهجات ولغات متنافرة، لا يربطها رابط· كنت مبهورة بمنظر النساء الخليجيات، وهن يرتدين البراقع ليظهر أجمل ما في المرأة العينين السوداوين المكحلتين، ورجعت بذاكرتي إلى رجال الجوازات في المطار بلباسهم الأبيض، وعلى النقيض منهم النساء يضربن بالأسود من رؤوسهن إلى أخماص أقدامهن حتى لا يبدو منهن شيئ سوى تلك العيون· المدن التي نألفها، ولا نراها، سنراها مرة أخرى بعيون الآخرين، حيث يلبسونها حلة جديدة، ونظرة عميقة، فنراها مختلفة، وليست كما كانت تبدو لنا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©