الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نجم والشيخ إمام.. حكاية جيل

نجم والشيخ إمام.. حكاية جيل
11 ديسمبر 2013 19:28
عندما قامت ثورة 25 يناير 2011م، وقف نجم وسط محبيه وجمهوره في ميدان التحرير، وسط ملايين الثائرين قائلا: “فينك يا شيخ إمام دلوقتي تشوف بعينيك؟ أنت مت ليه؟.. كان لازم تشوف اللحظة دي معانا”.. ولا غرو فشعر أحمد فؤاد نجم كان “صوت الحب والمقاومة والثورة”، وقد تألق مع صديقه وقرينه العظيم “الشيخ إمام” في ملحمة الغناء الشعبي الثوري، الذي لايزال فعّالا في مسيرة الحياة المصرية والعربية على السواء.. لكن القصة تمتد فصولا وجذورا لأبعد من ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013. كان الشيخ إمام عيسى، ذلك الشيخ المصري الضرير، المعجون بالفن وحب الوطن لم يفارقه “عوده” وبحة صوت مصرية عتيقة، حاضرا قائما متوهجا في قلب الميدان المنتفض، حيث استدعى الشباب الثائر تراث الثنائي الفذ (نجم/ إمام)، التراث الغني الفاتن، منذ لقائهما الأول في أواخر الستينيات وحتى وفاة الشيخ إمام منتصف التسعينيات. الشعر والموسيقى أجيال وأجيال من الشباب في مصر والعالم العربي، نشأوا وشبوا وهم يستحضرون ويتذكرون ما قام به الثنائي الفني الأشهر في تاريخ الغناء العربي، الشيخ الضرير إمام عيسى “ملحناً ومطربا”، وأحمد فؤاد نجم الشهير بالفاجومي “مؤلفا”، وما كان لأغنياتهما من صدى ألهب الجماهير العريضة، خصوصا في سبعينيات القرن الماضي التي عرفت بتقلباتها السياسية الحادة. وقطاعات واسعة من الجمهور العربي من عشاق الموسيقى والغناء والشعر، عرف وتعلق بأغنيات الشيخ “إمام عيسى” التي كتبها أحمد فؤاد نجم بل وحفظها البعض عن ظهر قلب، رغم أنهما لم يعرفا الطريق أبداً إلى أجهزة الإعلام والاتصال الجماهيري في مصر حيث نشآ وأنتجا فنهما، أو في أي بلد عربي آخر، بل وعلى العكس من ذلك قضى الشيخ “إمام عيسى”، معظم عمره الفني إما مسجونا أو ملاحقاً من الشرطة متهماً في كل الحالات “بالتحريض على كراهية النظام والجهر بالغناء”، كما كان يقول التكييف القانوني، وكان معه دائما شاعر العامية الكبير “أوي” أحمد فؤاد نجم.القصة بدأت في حارة “حوش قدم”، التي كان يسكن في بيت من بيوتها العتيقة الشيخ إمام، بحي الغورية الشعبي العريق، في قلب منطقة الأزهر والحسين، وهو واحد من أعرق أحياء القاهرة وأكثرها ازدحاما بالآثار التاريخية لتلك المرحلة (لايزال بيته قائما هناك رغم أن زلزال العام 1992 قد أصابه بأضرار بالغة)، ولكنه تحول مع ذلك إلى مزار يتردد عليه محبو الشيخ والفنانون من مختلف المشارب. في هذا المكان اجتمع الشيخ إمام بأحمد فؤاد نجم، الشاعر الشعبي الدفاق الأفكار والرؤى، الذي علّم نفسه القراءة والكتابة وهو في عمر السابعة عشرة، ليبدآ منذ ذلك التاريخ في إبداع تراث غنائي غير مسبوق، ربما لم يسبقهما إلى مثيله في جماهيريته وشعبيته واتصاله ببسطاء الناس سوى الشيخ سيد درويش، الذي غنى للشيالين والسقائين والفلاحات والمصريين الفقراء عامة، وهم بالملايين، وغنى للوطن من موقع هؤلاء الذين يصنعون ثروته. وكذلك فعل إمام وعيسى، فغنى الشيخ إمام عيسى، بكلمات أحمد فؤاد نجم، للكمسارية والشغالين والمراكبية والمنتجين الفقراء من كل نوع، وتحول “العزيق” في إحدى أجمل أغنياته لنوع من الوجد الصوفي، وأصبحت مصر كما هي في تمثال نهضة مصر للمثال “مختار” فلاحة تضم تحت جلبابها وطرحتها كل الأبناء وتشملهم بالحماية على امتداد الأجيال حيث يقول “نجم”: (الزمن شاب وأنت شابه/ هوه راح وإنت جاية). الوعي والذائقة في مقالة بديعة وقديمة له عن الثنائي الفني (نجم/ إمام)، كتب اللبناني حازم صاغية يقول “في مصر، ولكنْ في العالم العربيّ كذلك، ارتبط بشعر أحمد فؤاد نجم وبغناء الشيخ إمام المتوفّى في 1995، وعي جيل وذائقته. فهما أقاما في هامش الثقافة الرسميّة، وشبه الرسميّة، إلا أنهما أسّسا إحدى اللحظات القليلة عربيّاً حيث الهامش ينافس المتن في فعاليّته ويفوقه، حتماً، شباباً وحيويّة”. بين أواخر الستينيات وأواسط السبعينيات، شكّل الطلاب قوّة اجتماعيّة يافعة تعريفا، مثاليّة وحالمة بقدر ما هي مُصرّة وحاسمة، ناقمة على الأب، متعدّدة في مصادرها الفكريّة والطبقيّة بما يكثّر الطرق إلى قتل الآباء بقدر ما يوسّع الحيرة حيال العالم الذي يلي قتلهم، هكذا صعد الثنائي “نجم/ إمام” مع صعود الطلبة، وبزغ نجمهما في هذا السياق، وسرعان ما يصبحان أيقونة “التمرد” الفني الموازي للتمرد السياسي والاجتماعي الحاصل في المجتمع المصري آنذاك. ويجسد الثنائي (نجم/ إمام) حالة الانشقاق و”التعدّى السياسيّ”، كما ناهض التبجيل والتوقير اللذين يتّسم بهما تعبيرنا “اللائق” واستجاباتنا “المهذّبة”: فالسلطة الناصريّة اعتقلت إمام، ذات مرّة من 1969، على غنائه، واعتقلت الاثنين، مرة أخرى، بذريعة تعاطيهما المخدّرات! وخلال تلك الفترة أيضا، وبسبب الأغنيات التي تواصل إنتاجها من (نجم/ إمام) لاحقت الحكومة، أو بالأحرى نظام عبدالناصر أولا ثم نظام السادات بعد ذلك، مؤلفها وملحنها ومغنيها، وكانوا بذلك يعبرون عن معارضتهم الجذرية لتوجهات النظام السياسي ويعلنون سخطهم العارم عليه بعد الهزيمة الماحقة التي تلقاها، وبعد أن كان قبل هذه الهزيمة قد أسكت كل أصوات المعارضة رافعاً شعار: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” بل كان هذا الشعار نفسه موضوعا لأغنية ساخرة لـ”نجم” و”إمام” وضعته الشرطة في ملفهما كإحدى حيثيات اتهامهما بالحض على كراهية النظام. ووضع الاثنان “نجم وإمام”، أولى لبنات مشروعهما المشترك في تاريخ الأغنية السياسية العربية، حيث كانت أغنية “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا” أو “ضُبّاطنا تحت باطاتنا/ ياما أحلى رجعة ضبّاطنا من خط النار/ يا أهل مصر المحميّة؟ بالحراميّة”، تلك التي كانت أول أغنية مصرية على الإطلاق تجرؤ على السخرية من الرئيس عبدالناصر أو “عبد الجبار”، كما سمته كلمات نجم. وتبعتها أغاني “بقرة حاحا” بنبرتها الحزينة التي تبكي نهب مصر، و”يعيش أهل بلدي” التي تتمسك بالأمل والحماسة، ثم جاءت أغنية “مصر يمّا يا بهية” غزلاً وطنياً في حب مصر. «لخبطة الغزل» في هذه الفترة التي توقف فيما المثقفون عن تنظيم احتفالاتهم ـ المنزلية غالبا ـ للاستماع للشيخ “إمام” عيسى” و”أحمد فؤاد نجم”. كان نظم التعددية السياسية المقيدة قد بدأ في مصر مع نهاية 1976 وبعد عام واحد من هذا التاريخ كان الرئيس السادات قد ركب طائرته ذاهباً القدس ليضع البلاد على طريق سياسي جديد تماماً “ويلخبط غزل” كل القوى الوطنية والمعارضة. “ولخبطة الغزل” ـ تعبير عامي مصري بليغ ـ أعمق أثراً وأشد إيلاما من توجيه الضربات المباشرة من عدو أو خصم صريح، فلخبطة الغزل تربك وتجعل الطريق معتماً لا تتبين ملامحه. كان السادات قد بدأ بعد النصر في حرب “أكتوبر/ رمضان” المجيدة سياسة أطلق عليها اسم الانفتاح الاقتصادي، وهي السياسة التي ساندها الليبراليون وإن تحفظوا على غياب الديمقراطية السياسية فيها ولم يساندها “اليسار” بل انتقدها في المستقبل لكنه بدوره انتقد غياب الديمقراطية السياسية وهو النقد الذي أفضى إلى التعددية الحزبية. وهنا نأتي لمحور الاستجابة غير العادية لأغنيات الشيخ “إمام عيسى” و”أحمد فؤاد نجم” في زمن سابق ثم خفوت هذه الاستجابة وتراجعها بعد دخول نظام التعددية الحزبية إلى مصر، رغم أن هذه التعددية قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بالخيارات السياسية الجديدة للنظام أي الاقتصاد الحر. انخرطت قوى الوطنية في التعبير المستقل عن نفسها لأول مرة منذ قيام ثورة يوليو 1952، وكانت مؤسسة الشيخ “إمام عيسى” و”أحمد فؤاد نجم” ـ إذا جاز التعبير ـ قد نهضت بهذا الدور، أي التعبير المستقل فنياً عن طموحات المعارضة وبخاصة “اليسار” رغم أن المعارضة الليبرالية وجدت فيهما بعضا من شفاء غليلها، بل ولا أبالغ إن قلت شماتتها في النظام الناصري ـ الذي انتقدوه بقسوة بالغة ـ خاصة بعد هزيمة 1967. صحيح أنهما اعتُقلا، أيضاً، ومراراً، في العهد الساداتيّ، كما في السنوات الأولى من عهد مبارك، فلم تُرفع القيود عن حريّة نجم وحقّه في السفر حتى 1984. بيد أن الأهمّ أنهما ربما كانا خير من مثّل الستينيات العربيّة، وخير من مثّل التباسها عندنا. فهما، وإن ذهبا أبعد من سواهما في الانشقاق، لم يقولا: “مارسِ الحبّ، لا الحرب”، بل قالا:”دمْ، دمْ، دمْ/ نارْ، نارْ، نارْ”، وكثيراً ما حضّا “عبد الودود” وغيره على “الثأر” لقتل أخ أو مصرع مجنّد زميل. وطبعاً غنّيا فلسطين، كما غنّيا جيفارا وفيتنام، وهو ملمح ستينيّ راسخ. وهما هدّدا السلطة بأن “التلامذة رجعوا.. للجدّ تاني”، واصفين، في المقابل، سجن القلعة و”الزنازين”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©