الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زفة أم جنازة؟

زفة أم جنازة؟
11 ديسمبر 2013 19:30
نجم .. الرحلة الأخيرة عبقرية نجم عصية على الموت، هو والشعب أحياء وخصومهم أموات. هل تعرفون من المقصود بكلماته التالية؟: بصراحة يا أستاذ ميكي انت رجعي وتشكيكي!”.. هكذا كتب يقول الكاتب والمحلل السياسي والمتخصص في الشؤون الإيرانية والتركية مصطفى اللباد، عقب رحيل عم أحمد فؤاد نجم.. عشرات بل مئات، وربما آلاف، الشهادات والكلمات التي يمكن أن تكتب وتجمع عن أحمد فؤاد نجم، بعدد الذين عرفهم وأحبهم وأحبوه، واختلف معهم أيضا وخاصموه، ولكن يبقى في النهاية لقاء المحبة وطاقة الغفران، فالقيمة أكبر من التوقف عند نواقصها والشخصية أثرى من الوقوع في فخاخ ضعفها، هكذا سنجد شهادة الشاعرة والناقدة الكبيرة فاطمة قنديل التي كتبت “فضفضة ضرورية للتصالح” عن أحمد فؤاد نجم، وهي التي كانت في خصومة حادة مع الفاجومي، لكنها كتبت ما أملاه عليه قلبها وهمس به وجدانها. سنجد كتابة رصينة وشهادة محايدة عن الرجل وشعره، كتبها أحد المثقفين المصريين المقيمين بالخارج، ينتمي إلى الجيل الذي نشأ فيه نجم وكتب ما كتب وأبدع ما أبدع في إطاره وسياقه الاجتماعي والسياسي والثقافي، كتب صدقا يقول “ساهم شعر نجم منذ انطلق صوت الشيخ إمام بغنائه في تأجيج روح الثورة.. أشعار حفظتها وتداولتها الأجيال لتكون شعاراتها في المظاهرات والاعتصامات والهبات وفي السجون.. نجم هو شاعر الثورة دون جدال فلقد نثر بذورها وصوت إمام وموسيقاه حولها لورود تتفتح عبر الزمن”.. أشعار وشعارات أما الكاتب الصحفي مصطفى عطية المقيم في فرنسا، فيقول: وداعا يا نجم.. رحل أحمد فؤاد نجم فعلا بعدما أشاع الكثيرون موته مرات، بينما كان يضحك في حجرة مجاورة مع صُحبة.. رحل وبرغم رحيله سيظل دوما بيننا. شعر نجم تحليل سياسي واجتماعي وثقافي رفيع.. عين المبدع الملتزم المهموم بقضايا بلده وبقضايا العالم في نضاله ضد الظلم وانعدام العدالة محليا وعالميا فكان شعره متجاوزا للمحلية ليمتد بمقاومته ضد الاستعمار والإمبريالية.. هذا البعد العالمي في شعر نجم ميزه عن كثير من الشعراء، فهو يكتب عن فلسطين وعن هوشي منه وعن جيفارا.. يرفض في شعره التفرقة والتجريم على أساس ديني فيرفض ثنائية شيعة وسنة.. وينتقد المثقفين ونفاقهم للحكام، وينتقد الحكام وتخليهم عن الدور المنوط بهم حيال المواطنين والحفاظ على الاستقلال الوطني ووهم الحل لمشاكل الوطن بزيارة للرئيس الفرنسي جيسكار ديستان أو الرئيس الأميركي نيكسون.. ساهم شعر نجم منذ انطلق صوت الشيخ إمام بغنائه في تأجيج روح الثورة. أشعار حفظتها وتداولتها الأجيال لتكون شعاراتها في المظاهرات والاعتصامات والهبات وفي السجون. نجم هو شاعر الثورة دون جدال فلقد نثر بذورها وصوت إمام وموسيقاه حولها لورود تتفتح عبر الزمن. مع السلامة يا عم نجم.. جزء من التاريخ ويقول الكاتب الصحفي محمد فتحي: هذا هو الزحام المعتاد، وهذه هي المناسبة المعتادة والحقيقة الأكيدة في الحياة.. الموت. لكن الرجل غير كل الرجال.. كنا نصافحه، ونحتضنه حين نقابله في (ميريت) وكأننا نحضن مصر فيه، ولسبب مجهول ظننا جميعاً أن أحمد فؤاد نجم، أو عم نجم كما كنا نناديه، أكبر من الموت. حتى هو كان يضحك ويقول: أنا قررت ما أموتش إلا لما أطمن ع البلد دي! لكنه مات، فهل اطمأن؟! في الحسين تجمع محبو عم أحمد لكي يصلوا عليه وفق وصيته. يذوب عم أحمد عشقاً في آل بيت سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام، ويبكي الجميع وهم يدعون له، وتخرج من المسجد لكي تجد أمامك (زفة) وليس جنازة. صحيح (زفة) حزينة، لكن كلها أحباب للرجل الذي أحبه الجميع من مختلف التيارات، وكانت الناس تشير للنعش وهي تقول: أحمد فؤاد نجم مات، ثم تدعو له. قالها ملتحٍ، وقالها عامل في مكتبة تراث، وبكت سيدة كانت تخرج من محل كشري في الحسين وقررت أن تتابع الجنازة بالدعاء والبكاء، ودعا له طلاب في جامعة الأزهر، وحمل نعشه بعض الأقباط، وتبارى تلاميذه من الشعراء والصحفيين على الدفع بأكتافهم ليحملوا نعشاً سيذكر كثيراً أن أحمد فؤاد نجم حمل عليه. كنا نمشي إلى (ترب) الغفير، والكل يدعو، والكل ـ ويا للمصادفة ـ يتذكر نفس الطريق في جنازة أخرى قبل عامين، وهي جنازة الشيخ الشهيد عماد عفت، والكل يدعو أن يلحق عم أحمد بالنبيين والصديقين والشهداء والأبرار.. وحسن أولئك رفيقا. كنا نمشي وصدى ضحكات عم أحمد التي لا تنتهي يحيطنا، ويهمس لي مطاوع بركات: شفت حركاته.. طول عمره بتاع حركات! ده لسة جاي من السفر! مش متفقين على كده يا عم أحمد .. لكن عم أحمد الذي يسكننا يرد: حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين؟؟ يبكي محمد هاشم، ويرفض أحمد العايدي أن يترك النعش، ويضع بلال فضل يده ليحمل النعش بدلاً من آخر وهو يقول: أنا، ويبحث عبد الرحمن يوسف عن نوارة كي يعزيها، ويكتم تميم البرغوثي دموعه بصعوبة، ويمشي عمرو إمام مؤمناً الطريق، بينما محمد محسن يمشي في المقدمة، ويقف زين العابدين خيري شلبي أثناء الدفن مانعاً المصورين من الدخول، وتحاول نجلاء بدير الدخول لإلقاء نظرة أخيرة، وتأتي أسماء محفوظ حاملة بنتها الصغيرة التي لم تكمل ستة أشهر بعد، وتبكي ريم ماجد بحرقة، والكل يدعو لعم أحمد ولسان حاله يقول: مات المناضل المثال.. يا ميت خسارة ع الرجال. عم أحمد جزء من تاريخ مصر الحديث، تستطيع أن تقرأه لو كنت تجهله، لكن معرفة الرجل عن قرب أفضل من قراءة أي كتاب تاريخ. صحيح أنني لم أكن من هؤلاء الذين استمتعوا بجواره، ولا أدعي أنني كنت من مريديه، رغم أن مقر مجلس قيادة السطوح في بيته في المقطم كان مفتوحاً دائماً للجميع، و”يساع من الحبايب ألف”، لكنني لم أزره غير مرة واحدة وأنا في الجامعة، وكنت أقابله مصادفة مع ابني الأكبر (عمر) في (لمة) ميريت عند الناشر الكبير محمد هاشم، كما كنت أقابله دائماً في أشعاره التي تربينا عليها، وسمعنا الشيخ إمام يغنيها، إلا أن أكثر لقاءاتي معه كانت في ابنته ونور عينه “نوارة” التي هي بمثابة الأخت، وأمها العظيمة رفيقة مشوار الكفاح صافي ناز كاظم. صحيح أن عم أحمد وصافي ناز انفصلا، وتزوج عم أحمد من الست أم زينب، لكن تظل الأستاذة صافي حالة خاصة، وكما يقول حمدي عبد الرحيم: من الواجب حتمًا تعزية الجليلة صافي ناز كاظم.. نجم لم يكن فى حياة صافي ناز الزوج ووالد نوارة فقط.. كان بمثابة عبد الله النديم وكانت هي له حضن مصر الذي يحتوي تمرده ويربت على قلقه. بعد النكسة.. كان أحمد فؤاد نجم رائداً لمدرسة جلد الذات، فكتب ما يصلح لحالنا الآن: إيه يعني شعب ف ليل ذله.. ضايع كله.. دا كفاية بس أما تقول له.. إحنا الثوار. الحمد لله ولا حولا.. مصر الدولة.. غرقانة فى الكدب علاوله.. والشعب احتار. وكفايه أسيادنا البعدا. عايشين سعدا. بفضل ناس تملا المعدة. وتقول أشعار. قبل أيام من موته، كان خيري رمضان يقول لي إن عم احمد يحلم ببناء مستشفى في المقطم من تبرعات مبادرة 306306، لكن عم احمد مات، وبقي حلمه الذي أتمنى أن يتحقق كصدقة جارية على روحه. حين عرفت الخبر كتبت لنوارة على “الفيس بوك”: اللي زي عم أحمد ما بيموتوش يا نوارة هو حي وهو ميت.. واحنا ف حياتنا مدفونين. ويرد عم أحمد الذي في داخلنا مودعاً مصر كلها: وكل يوم في حبك.. تزيد الممنوعات. وكل يوم بحبك.. أكتر من اللي فات. فضفضة بعد الموت أما الشاعرة والناقدة فاطمة قنديل، فقد كتبت رثاءها بالراحل أحمد فؤاد نجم، تحت عنوان “نعي خاص جدا، أو فضفضة ضرورية للتصالح”. وجاء فيه: قابلت نجم في أول التسعينيات، عرفتني عليه ـ شخصيا ـ عبلة الرويني، عرفتني بالشاعر والمناضل اللي اتربيت على شعره وأغاني الشيخ إمام. لما قالت له إن عندي دواوين بالعامية، كان فرحان بيا وقال لي: خلليني أقراه.. وأنا كمان كنت فرحانة أوي. بعدها بشوية صغيرة تصادف أن ماتت الشاعرة ملك عبد العزيز (زوجة المرحوم الناقد الكبير الدكتور محمد مندور) ـ الله يرحمها ـ ففكر أستاذي الدكتور عبد القادر القط ـ رحمه الله ـ في أني أحل محلها في لجنة الشعر.. كان ليا ديوانين بالعامية ومسرحية شعرية بالعامية وديوان “صمت قطنة مبتلة” وكنت خدت ماجستير ف نقد الشعر. ف يوم صحيت على تليفون بيقول لي إن نجم كاتب عني.. فرحت طبعا. بس أول ما ابتديت اقرا الدنيا لفت بيا، كنت مذهولة من كمية السباب والذم في الشرف، وكأني “عاهرة” فعليا، ودي “كل مؤهلاتي” للانضمام للجنة! لما فقت ـ بعد أول أزمة قلبية ف حياتي قربت م الذبحة ـ قررت أرفع عليه قضية، وكانت مضمونة تماما: سب وقذف، خوض في الأعراض وكلام مكذوب.. إلخ. ولما هديت بعدها بشهر قررت أني ألغي القضية، كنت صغيرة ولسه بابتدي بس مؤمنة بشعري، وما كنتش عايزة اتشهر ـ بقضية! ـ على حساب شاعر كبير. بس فضلت محتفظة بالمقال لحد النهارده الصبح. كنت كل ما افتكر أني كنت حاموت بسببه ف اليوم ده، مقدرش أغفر له. كنت كل ما افتكر أنه شتمني ف شرفي، مقدرش أغفر له. كنت كل ما أفتكر أنه عمل ده بشكل مجاني ولسبب تافه، مقدرش أغفر له. مرة اتقابلنا في سهرة أصدقاء ولما شفته مشيت، وقلت عبارة شبه الشتيمة وأنا ماشية، كان مندهش، وفهمت ساعتها أنه ماعندوش أي فكرة عن العلاقة بين الست اللي كان حيقتلها ف يوم من الأيام واللي قدامه دي (هو نفسه ف المقال قال إنه ما يعرفنيش بس سمع عني!).. عم خيري شلبي الله يرحمه كان قاعد جنبه مسك إيدي وقال لي: معلش اقعدي علشان خاطري يا فاطمة، ونجم كان بيبص لي باستغراب حقيقي، ومش فاهم أنا عدوانية تجاهه كده ليه! بس واضح أني بعد ما مشيت عم خيري فهمه. من سنة دخلت عند هاشم (محمد هاشم الناشر المصري المعروف وصاحب دار ميريت) ولقيته، ما سلمتش، وقعدت، وبص لي وبصيت له، وما اتكلمناش خالص، بس أظن أنه كان عرف خلاص سبب التجاهل. لما عرفت أنه مات النهارده، ما اهتمتش ف الأول، بس ما كنتش قادرة أتجاهل أن قلبي تقيل أوي، وجواه حزن غير مفهوم.. ولما شفت الجنازة لقيت دمعة بطيئة بتنزل من عيني، ولقيتني باكلم ربنا من جوه قلبي: أرجوك يا رب ما تجيبش معاه سيرة الموضوع ده خالص، أنا مسامحه فيه، أرجوك اعتبره كأنه ما حصلش. وقريت له الفاتحة، ودعيت له أن ربنا يديه على قد حب الناس له، حب الناس الكتير والعظيم. وقلت لنفسي أن الأقدار خلتني أتعرض لأسوأ ما فيه، للأسف، مش للأجمل اللي كل الناس حبوه عشانه.. بس ما روحتش العزا.. لأني إنسان.. مش ملاك بجناحين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©