الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمود يوسف.. فيلسوف الأروقة الضائعة

محمود يوسف.. فيلسوف الأروقة الضائعة
11 ديسمبر 2013 19:34
محمود يوسف.. شجرة الفلسفة المفعمة بأثمار العشق، الضائعة في لغة الكلام المنمق، والحلم المؤجل والأغنيات الرشيدة. أنت سيدي، حارس الأناشيد الغامضة، في غابة معيريض، بين جدرانها المتداعية، وعند الأزقة الواقفة في ظلام الوقت، أنت المترجل دوماً، وجوارك ذاك الحُلُم، والحِلم، أنت المسترسل دوماً في الابتسامة، الفائض بالحب، أنت الراهب في صوامع الفلسفة، أنت والمعرفة صنو الوعي المبكر، وعلامات الاستفهام واسعة الحدقات، وضمير الحاضر في الجملة الفعلية، أنت الطائر الذي غرّد وأفرد أجنحة الفرع، كأنك الخالد في تلافيف الحياة، كأنك السارد في تجاويف القصة التي لم تكمل فصولها، بعد أن استدعتك الروح للغياب، بعد أن استدرجت أحزاننا، في مقابل ذلك التحليق في فضاء النجوم المبجلة. محمود يوسف.. بين السطور، مقالك، ومآلك، وسؤالك، وأحوالك، وأقوالك، وأهوالك، وأمطارك التي غزت الأفئدة، واحتلت مكاناً قصياً في الوجدان، وملأت الروح بأشجار الفرح، لا زلت سيدي تفكر وتكتب وأنت في حضرة الغياب، لأنك ما كنت تعلن أبداً أنك ذاهب، لأنك تعي معنى الحضور عندما يكون العقل موقداً لرغيف الحياة، وعندما تكون الروح سماء أمطارها أفكار لا تنضب، وأخبار لا تقضب.. أنت سيدي ما بين السطور وما بين الثغور والنحور، وما بين الصدور ضلع لم يكن أعوجاً أبداً، لأنك أقمت العلاقة الوطيدة ما بين اللواعج والمهج، وما بين المباهج والنهج. الرجل والكتابة محمود يوسف.. كتبت عنا، عن الوطن والناس، في سطور أشبه بالنار والثلج، اليوم ربما نستطيع الكتابة عنك، عن ذلك المعتزل، ونكتب عن خليل الفلسفة، سليل المعرفة، أصيل في العطاء، جليل في المجازفة، نكتب ونكتب عن رجل كان والقلم نهرين، يرفدان الحياة بحبر وخبر، وسبر وعبر، وصبر وسحر.. كنت يا سيدي، تكتب كأنك في الكتابة تقص حكاية الخلْق والأخلاق، وعلى الإطلاق كنت الهلال الذي يفسر خيوط الظلام، وكيف يكون للعتمة مزاج الكتمان والحرمان، ولا يسهر على ضوئك سوى عشاق ما ملّوا النشيد، وما جاوزوا حد اللاوعي، لأنك في الوعي كنت سراجاً ومنهاجاً، واحتجاجاً بالغ الحدة والذروة. كنت المسافة المتأججة ما بين الظل والنور، كنت الجحيم اللذيذ حين تكون لذة الكلام، في المنطق وحجة البلاغة ونبوغ الفكرة ونضج العطاء.. كنت الرسم والوشم، وكنت النغم على ريشة ووتر، والناي حين تغرد كلماتك على أوراق شجنها من رحيق اللوعة الأبدية. محمود يوسف.. يطاردني وجهك، وكأنك تبحث عن فراشة ما حلت على غصن القلب ثم طارت تبحث عن ألوانها في فراغات المراحل المضطربة، تواجهني بالمعنى، وتقول ها أنذا أسكن هذا، في هذا الزقاق القديم، عند الأديم الرطب تحت جنح الظلام، أسأل عن سدرة كانت تظلل أحلاماً، عن جدار أسندت عليه الآمال ثم طارت، وهناك عند سحابة غاشية أجدها تلملم أجنحتها لتفر من جديد إلى مكان آخر، إلى تضاريس لا تسكنها الشياطين ولا يلونها غبار. محمود يوسف.. أنت فقط الذي تسأل عن ظل الشجرة الخالدة، عن حبيبة، عن أغنية مرت على الخاطر، عن صوت عبدالحليم حافظ وفيروز، عن كلاسيكيات زمن توشح بالفرح، والمشاعر الدفينة، عن وطر، طوى أشرعته وألقى بالمراكب عند سواحل مكفهرة، ثم ذاب في العويل المؤلم.. أنت تسأل سيدي عن قافلة العشاق، الذين مروا على مضاربك، وتغنوا معك، وأنشدوا باسم الحب الذي لا تأفل أقماره حتى وإن أفردت الغيوم، شراشف الكسل، واسترخى الوجدان، متداعياً كجدران معيريض المتهالكة، كأزقتها التي أصبحت مرتعاً للوجوه الفارة من غيابات زمن، يطهر جلده، بالرمل الملوث، والمبلل بلعاب القطط الضالة. محمود يوسف.. لا يموت العشاق، وأنت العاشق الباسق الشاهق في علياء شجرة الحب، أنت في الدرب عشب وخصب وصخب، والصحب إن ملوا التذكار تبقى أنت يا سيدي ذاكرة محملة، بأوزار المحن الأزلية، أنت في الأبد تزخرف حياتنا بجمال السحنة والطلعة البهية، أنت في السرمد، تعني لأجل الذين سيأتون، ولأجل الذين لا زالوا يرشقون الكلمات بحروف من دم الشهداء، الذين عرفوا كيف تخصب الحياة، وكيف تزدان حقول الموت، بكافور الذين بُعثوا لكي يؤكدوا أن الموت ما هو إلا رحلة مؤقتة، وأنت الحياة هي السماء التي لا تنطفئ نجومها، أولا يخمد ضوء أقمارها. الوجود والوجودي محمود يوسف.. الساحر الساهر الساخر، السافر عن عبقرية لم تجد مساحة للولوج إلى المعنى الأكيد، أنت الظافر الطاهر، الباهر، السابر في عروق الوجد، والوجود أنت الوجودي بحق، قبل سارتر وقبل صموئيل بكيت، وقبل حتى نيتشه العظيم، أنت يا سيدي والفلسفة جناحان لطائر الوعي، أنت والمعرفة مجدافان لقارب الفكرة، أنت يا سيدي القديم الجديد، أنت المتجدد كلما حل فجر أجدك، طامعاً ترسم خيوط الشمس على زجاجة القلب، وتحلم معي لأجل استقطاب ما يمكن استقطابه من مفردات العشق، لأجل كتابة كلمة عظيمة، عظم الحب الذي نشدناه، ونحن نرتل آيات العشق، في كتاب المعرفة، أنت الذي قلت كما قال الفيلسوف الفرنسي مونيتي، “نحتضن كل شيء ولا نملك إلا الهواء”، ثم تستعيد قواك وأنت على السرير الأبيض بمقولة أفلاطون “الجسد مقبرة مؤقتة للروح”، ثم تطلق عصفورك ليذهب بعيداً، ليحلق ويسكن في الغياب. محمود يوسف.. لم تتعب من العشق، بل خانك القلب، حين تجاسرت عليه الأنواء، فاستعددت للرحيل، تاركاً خلفك معضلة الأسئلة، تحملق في الوجوه، وترسل إشعاعاتها المؤلمة، تركنا سيدي، كأننا في حلقة الزار، تحوم حول فراغ لا منتهى، وتحوم حول أسئلة تتطاير كأنها الشرارات في الرأس. محمود يوسف.. الصديق الذي فرَّ من قسورة الجفاء، فاستمال في الغياب، صورة مثلى لقديس منتظر، صِرت البائن والمستتر، صرت سيدي المدى في الوجود، يجرد عصاه لينشف بحر الكلمات وليغرق الذين لا يفقهون المعنى، والذين يصومون الزمن، ويفطرون على كلمة إغواء، ووشايتها أنك غائب إلى الأبد. أبو عبدالله.. هذه هي الحكاية، عندما تكبر الوشاية وتصير فقاعة مؤذية، تصير موجة غادرة، تصير غيمة غاشمة، تصير وعداً بلا موعد لقاء ولا عهد وفاء، أنت فقط سيدي، هنا في حفل الغياب، نحصد نحن معنى الفقدان، ونجرد حسام الوعي، لعل وعسى تصحو الأزقة من سبات ونسيان. أنت سيدي، المجازف الغارف من فناجين العفوية، أنت النخوة الأبدية، أنت على صهوة الزمن وجدت نفسك، وأوجدت الحلقة المفقودة، لكلمة ظلت غامضة حتى مجيء الفجر، أنت الذي أعلنت أن الحب عبادة، وسيادة، وفرادة، لا يتجاهلها إلا المغفلون. أبو عبدالله.. في هذا المساء الساهر على رعاية النجوم، في هذا المساء الساكن في خيمة الوحدة، في هذا المساء الذاهب إلى قارة العزلة، أراك، أراك تسكب قهوة الحلم، في فنجان الفرح، فتؤجج زمني، وتؤرقني وأنا المنكب على تلاوة فرح لم يئن أوانه، ولم يزل حصانه، يقضم من عشب الانتظار حتى أصبح العشب، كثيباً رملياً، يغطي عاشق ركاب، حتي أصبحت مثل طائر فرَّ من سرب فضاعت بوصلة مراسيه، وتاهت الأعشاش في حومة التيه البغيض.. سيدي، اكتظت القبور برائحة عطرك، وازدحمت الأكفان بأغنياتك، وترانيم الرومانسية الأليفة، لكنك لم تزل بعد تغني للحياة، وترفع الموال عالياً، لأجل أن يعود المسافرون، لأجل أن تهبط طائرة النهار، وتضيء قلوباً ودروباً، وسهوباً، وكروباً، تضيء لأجل أن نحيا جميعاً يا سيدي، محمولين على أجنحة الفرح، والأمل سجادة، مخملها من خيوط الحب.. لأجل أن تفضح الأزقة عن سر ذلك الهجير الذي أفقد الكائنات فرحتها، بعد أن ضاعت الخطوات الحثيثة بلا جدوى، بين فجوات الأسئلة المبهمة.. محمود يوسف.. وحدك الآن في المنفى الأبدي، ترتب أوراق اللوز، وتنادي العصافير كي ترتاح من التحليق فلا جدوى من المشي طالما عُرفت نهاية الطريق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©