الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دروس «جنة العبيط»

دروس «جنة العبيط»
11 ديسمبر 2013 19:35
كان المفكر د. زكي نجيب محمود واحدا من كتاب المقال الكبار، أصدر عشرات الكتب في الفلسفة والمنطق وقضايا الفكر المختلفة مثل “الشرق الفنان”، “المنطق الوضعي” في مجلدين وغيرهما، وترجم العديد من الكتب، لكنه ظل وفيا طوال حياته للمقال الأدبي، وكان مجددا فيه، وكانت كثير من كتبه جمعا لمقالاته التي واظب على نشرها حتى وفاته في صيف سنة 1992. ومن أهم كتبه كتابه “جنة العبيط أو أدب المقالة” وقد أصدره أول مرة سنة 1947 عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي كان هو أحد أعمدتها مع أحمد أمين، ثم أعيدت طباعته عدة مرات، عن دور نشر مختلفة وفي إحدى المرات صدر بعنوان “قصاصات زجاج”، وهو عنوان أحد مقالات الكتاب، أما جنة العبيط فهو أيضاً عنوان مقال آخر بالكتاب. وقامت هذه الأيام “مكتبة الآداب” وهي دار نشر عريقة بالقاهرة، بتجربة فريدة. حيث أعادت طرح الطبعة الأولى من الكتاب، وكل ما فعلته هو نزع الغلاف القديم وتغليف الكتاب بغلاف جديد، يحمل صورة للمؤلف، وهو ما لم يكن المؤلف يحبه ولم يحدث نهائيا في حياته، وكانت المكتبة أمينة مع القارئ فصارحته بذلك، ولم تقم بالتدليس، كما يفعل بعض الناشرين، إذ أبقت على الغلاف الداخلي للكتاب ويحمل اسم دار النشر القديمة كما هو، ولم تحصل على رقم إيداع جديد بدار الكتب، وقدمت الطبعة القديمة كما هي، رغم أن المؤلف أضاف مقالات أخرى إلى الكتاب في طبعات لاحقة، وكتب على الغلاف الجديد “طبعة نادرة”، وهي كذلك بالفعل لعشاق الطبعات النادرة والأولى من الكتب. قلق الأديب بين صفحات الكتاب مقال بعنوان أدب المقالة، في هذا المقال يحمل بقوة على كتاب المقال في مصر، ويرى أنهم لا يحددون معنى المقال جيدا وربما لا يدركونه.. يقول: “المقالة توشك أن تكون في مصر القالب الأوحد الذي يصب فيه الأديب خواطره، فأديبنا قصير النفس، تكفيه المقالة الواحدة ليفرغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجج به صدره من عاطفة وما يختلج به رأيه من فكرة”. الواضح هنا أن د. زكي يتحدث عن فئة من الكتاب كانوا يضعون في المقال كل شيء، الشعر والقصة وحتى البحث العلمي والأدبي، وكان د. زكي متأثرا بالثقافة الإنجليزية، التي تضع للمقال تصورا معينا، يتحدث هو عنه قائلا “هم هنالك يقولون إن المقالة يجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صورة الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ.. وعلى هذا النحو يستطرد في شرح مفهوم المقال في الثقافة واللغة الإنجليزية، ويطلب من القارئ أن يراجع مقالات “أدسن” الذي يطلق عليه “رب المقالة الإنجليزية”. يتوقع زكي نجيب من كاتب المقال أن لا يكون خطابيا زاعقا ولا واعظا آمرا وناهيا، يقول: “نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره، لا أمام معلم يعنفه، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، أو موقف المؤدب يصب في أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا. القارئ الضيف ويصل في النهاية إلى القول “نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب”. بدأ د. زكي المقال هادئا في نبرته، لكنه راح يهاجم كتاب المقال في مصر ويحدد نوعياتهم، منهم من يقرأ مجموعة كتب علمية ويبادر بشرحها للقراء، وهذا مهم ويفيد، لكنه لا يدخل في باب المقال الأدبي، المقال ليس فصلا من كتاب ولا بابا من أبوابه، هو أيضا ليس كتابا مصغرا أو مختصرا، يقدمه الكاتب للقارئ، ولا هو بحث علمي يقوم به الكاتب ولهذا السبب -كما يقول- “ينفر القارئون يا أيها الأدباء من قراءة ما تكتبون. د. زكي نجيب كتب دائما بلغة هادئة، وكان بالغ التواضع وهو يقدم نفسه للقارئ، لكنه لا يخفي انتقادات لكثير من الأوضاع وأنماط التفكير السائدة، ومنها طريقة استقبال القراء والناشرين لكاتب المقال وللكاتب عموما، يحكي هو أن رئيس تحرير إحدى المجلات، كان إذا قدم إليه مقال للنشر لا يقرأه ولا يقوم بتقييمه، بل ينظر إلى توقيع كاتب المقال واسمه، وأظن أن جانبا كبيرا من ذلك يحدث إلى اليوم، ولذا لا تظهر أسماء جديدة في عالم الثقافة والكتابة. والواضح أنه تعرض لشيء من هذا، لذا نراه يناشد القارئ في تقديمه للكتاب قائلا: “نشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بمعيار قادة الأدب في بلادنا، إنما نشرت هذا الكتاب لأناهض به أولئك القادة، فكأنما بهذا الكتاب أقول: من هذا الطريق يا سادة لا من هناك”، هو هنا يرجو القارئ ويعلن له أنه “يناهض” قادة الأدب، الذين ينصت القارئ إلى آرائهم ويأخذ بأحكامهم على الكتاب الجدد، وهذا سر المناشدة الأخرى إلى القارئ، “نشدتك الله لا تحكم على قيمة هذا الكتاب بقيمة كاتبه، إن كاتبه ليرجو أن يكبر في عينيك بهذا الكتاب”. طبعة نادرة لكتاب مهم، ورغم مرور 66 عاما على إصداره أول مرة، مازالت الأفكار التي ينطوي عليها وآراء المؤلف تبدو طازجة وصالحة لهذا الزمان، خاصة ما يتعلق منها بقيمة ومعنى المقال الأدبي ومعيار تقييم الكاتب والكتاب، فضلا عن آراء أخرى في قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©