الأندلس، كلمة تفتح عند سماعها أبواباً أغلقتها الأحداث وتثير في النفس كوامن الشجن، وتجعل الإنسان العربي بلا مبرر مفهوم، يقارن بين ما حدث في تلك البقعة الجغرافية وما يحدث اليوم على ما تبقى من جغرافيا العروبة والعرب.
دخل العرب الأندلس تحت راية الإسلام عام 92 هجرية واستمروا فيها حتى عام 897 هجرية.
ثمانية قرون كانت كافية لجعل شبه الجزيرة الايبيرية، إسبانيا والبرتغال، جزءاً لا يتجزأ من الوطن العربي.
ولكن، لا الأندلس ظلت عربية، ولا الوطن العربي استطاع أن يمنع الآخرين من اقتطاع ما كان على مرّ التاريخ عربياً خالصاً، وليست فلسطين هي المثل الوحيد في هذه المقولة.
ولكن لأننا لسنا في مجال المقارنات التاريخية بل في مجال الشعر والشعراء.. وبالتحديد شعراء الأندلس، فنحن مضطرون للالتزام بحدودنا والعودة مرة أخرى إلى صاحب تلك القصيدة الشهيرة.
يا ليل الصب متى غُدُه
أقيام الساعة موعدُه
ألا وهو الحصري القيرواني..
لم نستطع في لقائنا السابق معه أن نفرغ ما في جعبتنا من أسئلة، وظلت في الجعبة أسئلة تلح بسماع إجابات الشاعر ولم تبخل روح ذلك الشاعر الكبير علينا بالحضور مرة أخرى وكان هذا الحوار..
? هل تعتبر يا أبا إسحق.. أن قصيدة يا ليل الصب متى غده هي أجمل ما نظمت؟
- اسمع يا ولدي.. تلك القصيدة لقيت حظها من الشهرة ولكنها ليست أجمل ما نظمت..
? فما هي القصيدة الأجمل إذن؟
- لا تسأل أي شاعر عن أجمل قصائده، لأن القصائد بنات الشاعر.. ولا يمكن للأب أن يفضل بنتاً على الأخرى.
? قال عنك ابن بسام صاحب الذخيرة: كان بحر براعة ورأس صناعة وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس في منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب القيروان فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض بالنسيم وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس المقيم.. فهل كان مجاملاً أم صادقاً؟
- كم يريح روحي مثل هذا القول من ابن بسام رحمه الله، نحن الشعراء نحتاج إلى مثل هذا الثناء غير المنافق أو المجامل.
? قرأت أنك عندما تركت المعتمد بن عباد في إشبيلية ذهبت إلى سرقسطة؟
- نعم.. فصاحبها بن هود كان ملاذي، وكان يحبني ويعطف علي.
? ولكنك اتصلت بوزيره ابن حسداي؟
- ولن أنساه.. كان كريماً ومخلصاً وأسبغ عليّ النعمة وقدّم لي الحماية..
? ولكن؟
- ولكن ماذا.. ألأنه كان يهودياً؟
? ألم تتحسس من هذا الأمر؟
- طبعاً لا.. كان التسامح الديني لا يجعلنا نفرّق بين مسلم ومسيحي ويهودي، ويكفي أن تعلم أن اليهود كانوا يصلون إلى الدرجات العليا، فلم يكن ابن حسداي هو الوزير الأول أو الوحيد المنتمي إلى الدين اليهودي بل كان هناك وزراء ومتنفذون غيره.. وكان منهم أدباء وشعراء وعلماء.
? بعده ذهبت إلى ابن صادح صاحب المرية؟
- نعم.. ووجدت عنده كل ترحيب وإكرام.
? ولم تمكث طويلاً عنده؟
- لأن صاحب مرسيه ابن طاهر، كان طموحي الأخير.
? وهو صاحب المدح في قصيدة يا ليل الصبُّ متى غده..
- نعم هو..
? كم ديواناً لك يا أبا إسحق؟
- أربعة دواوين.
? أهمها؟
- كلها مهمة.
? ولماذا يشير الدارسون إلى الديوان الأخير “اقتراح القديم واجتراح الجريح”.
- لأنه يشتمل على 2591 بيتاً من الشعر في رثاء ولدي عبدالغني.
? أسمعنا المزيد من تلك المرثيات؟
- قلت:
أفلح ابني وخبت يوم تولَّى
ليت شعري حتى يكون فلاحي
لجّت العين بالدموع فقالوا
هل لهذا المبتلي نصيحُ فلاحي (1)
مسنّي القرحُ واستضامني
البغيُ لفقدان بغيتي واقتراحي
فاتني واحدي فبت فريداً
ذا انتشاءٍ ولست في وقت راحِ
سوف آوي إلى الجبال فإني
مثلُ سُّمِّ الخياط (2) عادت ولجاحي
? وماذا أيضاً؟
- طف بي على قبر طفلٍ
كالشيخ فيه وقارُ
ما مثله ولدٌ فهل
سيّان مِسكٌ وقارُ
? لعل أبلغ ما قلته في ولدك هو:
هذا أبوك أكنَّ(3) حسرته
لكن عينيه به وشتا(4)
لا تعجبوا من حر زفرته
قد صاف في جمر الغضا وشتا
- جميع ما قلته في ولدي بليغ لأنه صادق.
? أصبت بالعمى قبل وفاة أبنك.. وإلا لقلت إن البكاء هو الذي أعماك.. لقد بكيت كثيراً أيها الشاعر وهذا يخالف الإيمان بالله وقضائه وقدره.
- من السهل أن تقول ذلك وأنت تتفرج على مأساة غيرك
? المؤمن هو الذي يصبر..
- يا لائمي في بكائي
أقصر فإنك هاذي(5)
تالله مالي شفاءٌ
إلا دموعي هذي
? والحب يا أبا اسحق.. ألم تحب؟
- وهل هناك شاعر لم يحب.. الحب والشعر توأمان.
? وهل لنا أن نسمع بعض ما قلته في الحب؟
- أقول يا ولدي:
- أما لك يا داءَ المحبِّ دواءُ
بلى عند بعض الناس منكَ شِناءُ
أسيرُ العدا بالمال يفديه أهلُهُ
وما لأسيرِ الغانيات (6) فِداء
أسود الشرى في الحرب تحمي نفوسها
بنجدتها ما لم تغنّ ظِباء
إذا كنت خلواً فاعذر الصب في الهوى
فما المبتلى والمستريح سواءُ
أتأمرني بالصبر عمّن أحبُّه
وهيهاتَ مالي في هواهُ عزاءُ
أموتُ اشتياقاً ثم أحيا لشقوتي
كذاك حياةُ العاشقينَ شقاءُ
ألا إن قلب الصب في يد حبه
يقلِّبه في الحب كيف يشاءُ
إليكَ فلو ذقت الهوى لعذرتني
جفونك وسنى(7) والفؤاد هباءُ
أنا لُمتُ أهل العشق قبلك في الهوى
فها أنا أزرى (8) بينهم وأساءُ
أصابت فؤادي أسهم اللحظ إذ رمت
فلله قتلى الأعين الشهداءُ
? ما أجمل يا أبا اسحق أن نفترق على قصيدة لك مع ذكر حكايتها.. فما رأيك؟
- الحب يا ولدي يجعل كل حدث يمر به الأحبة خالداً لا ينسى وعلى الرغم من إصابتي بالعمى، وعدم قدرتي على التمتع بجمال من أحببت، إلا أن للقلب المحب قدرة على تصوير الحبيب ومعرفة خطوط الحسن المميزة فيه، وإذا كنت اشتركت مع أبي العلاء المعري في كثير من مواقف الحياة إلا أنني خالفته في الحب.. أنا أحببت وذبت حباً، ولم أتردد في تسجيل مشاعر ومواقف الحب التي مرّت بي، ولعل أهم تلك المواقف كان فراق من أحببت، كان ذلك الفراق مؤلماً ومثيراً لأشد لواعج الأسى، وقد سجلت بعض تلك اللواعج شعراً وفي الكثير من القصائد ولكنني أختار لك واحدة قد تختصر ما قلته في القصائد الأخرى.
? تفضل يا أبا اسحق..
- أقول:
نوى فرَّقت شمل الهوى محيَّاهُهُ
تُزال وأنا عهده فيصانُ
نعيمي وعزي كنتمُ ثم بنتم(9)
فعيشي عذابٌ بعدكم وهوانُ
نصيبي من الدنيا الحبيب ووصله
به العيش عيشٌ والزمانُ زمانُ
نهتني النهى عن حبكم فعصيتها
وهيهات يثني للمحب عَنانُ
نسيم الصبا من أجلكم أستطيبُهُ
وإن زادني قلبي به الخفقانُ
ندمت عليكم مثلما يندم الفتى
فيُقرعُ سنٌّ أو يعضُّ بنانُ(10)
نفت عن جفوني النوم ورق حمائمٍ
شكون ولم يفصح لهنّ لسانُ
نَعَيْنَ إليَّ البينَ لا كان يومه
فما باله لم يخلُ منه مكانُ
ندبن ولم يذرفن دمعاً وإنما
تناثر من دمعي لهنَّ جُمانُ
فكأن(11) قروحي(12) لو أعنَّ على الأسى
بدمعٍ ألا إن الحزين يُعانُ
معاني الكلمات:
-1 لامي: لائم
-2 سم الخياط: ثقب الإبرة
-3 أكنّ: أخفي
-4 وشتا: أذاعتا السر، أخبرتا بما أخفى
-5 هاذي: يقوم بفعل الهذيان، لا يسيطر على ما يقول
-6 الغانيات: الحسناوات
-7 وسنى: مثقلة بالنعاس مشتتة في الوسن (وهو النوم)
-8 أزرى: أزرى عليه: عابه، عتب عليه، احتقره
أزرى به: قلل أو رخّص من قيمته
-9 بنتم: فارقتم، ابتعدتم، هجرتم
-10 بنان: أصبع
-11 لكأن: أعدن فتح الجرح
-12 القروح: الجروح عندما تلتهب
عدد اليوم
