السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المثقف.. وتعقب البلاهة

المثقف.. وتعقب البلاهة
24 ديسمبر 2014 20:45
يقول رولان بارث، إن قدرات التحرير التي تنطوي عليها الكتابة لا تتوقف على الالتزام السياسي للكاتب، كما ذهب إلى ذلك جان بول سارتر، وإنما على ما تقوم به من خلخلة للغة، فالكتابة، في نظره، لا تواجه إلا اللغة. وحتى إن قلنا، إن ما يعنيها في نهاية الأمر هو «الواقع» بكل أبعاده، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنه لن يكون في نهاية الأمر، إلا واقعاً دالاً، وسرعان ما تجد الكتابة نفسها أمام دلالات وعلامات وإشارات، مادام الواقع نفسه يغدو لغة وعلامات دالة. حينما تغدو تلك العلامات تحت تهديد مختلف أشكال التنميط والتخشب تغدو مهمة الكتابة أساسا هي مواجهة كل تلك الأشكال، ولا يتبقى على المثقف إلا الانخراط في شبكات مقاومة تسعى جهدها إلى بلورة أسئلة وإحداث شروخ في الواقع الذي ينحو نحو التنميط وتكريس البلاهة. كل المسألة تؤول إذاً الى ما نعنيه بالبلاهة، حتى القرن التاسع عشر الأوروبي لم يكن أحد يشك في وجود البلاهة، إلا أنها كانت تُفهم على نحو مغاير لما سيُعرف فيما بعد. فإذا استعملت بصيغة الجمع les bêtises، فإنها تعني مجرد الحماقات، أما بصيغة المفرد، فهي ترد الى الحيوانية وغياب الذكاء، وبالتالي إلى ردود الفعل الغريزية. انطلاقاً من ذلك، فقد ظلت الكلمة تشير إلى نوع من التبلد، وتعني مجرد غياب للمعارف، وهو غياب كان يُنظر إليه على أنه يمكن أن يُتدارك عن طريق التربية والتكوين. استلهاما من عنوان كتاب فلوبير «قاموس الأفكار الجاهزة»، ذلك الكتاب الذي عمد فيه صاحبه إلى جمع العبارات الجاهزة التي كان الناس في محيطه يتفوّهون بها كي يظهروا بمظهر العارفين بمجريات الأمور، حاول ميلان كونديرا تحديد البلاهة بمعناها الحديث فكتب: «إنها لا تعني الجهل، وإنما اللا فكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة»، لن تسعفنا كثيرا هنا نظرية الأيديولوجيا، وما تسنده للمثقف من مهمة «النقد الأيديولوجي»، وقد أثبتت الانتفاضات التي عرفها كثير من المجتمعات العربية خلال السنوات الأخيرة عدم فعالية تلك المهمة. قد يقال،، إن المثقف ظل بعيدا عن الإنتفاضات ولم يسهم فيها كبير إسهام، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الانتفاضات قد نالت منه، ولم تتركه على حاله، فهي قد بدلت صورته عند الآخر، وزعزعت صورته عن نفسه. وقد تمخض عما عرفه تطور الأمور في كثير من البلدان أن لمس المثقف أن الشعارات التي رفعتها الانتفاضات، لم تكن موجهة فحسب لسلطة أو حزب أو جماعة حاكمة، وإنما كانت موجهة أساسا لعلائق اجتماعية وعوائد أخلاقية وأساليب فكرية وقيم ثقافية، إنها وُجّهت لمفهومات الإنسان والمجتمع والفكر والتاريخ، فلم يكن الأمر ليتعلق باستبدال أنظمة فحسب، وإنما بتغيير ذهنيات. ها هنا أدرك المثقف الدور الذي غدا منوطا به، والذي لا يمكن أن يعوّضه فيه أحد، ذلك أن ما آلت إليه الأمور في كثير من البلدان التي هزتها الأحداث أثبت أن أهداف الانتفاضات كانت عرضة، في أغلب الأحيان، لمقاومة قوى المحافظة والتقليد، وهيمنة الفكر الوثوقي الذي ينطوي بطبيعته على آلية توحيدية ترفض كل تعدد للآراء واختلاف للمواقف، ما يدفعها إلى أن تُدخل كل الأمور في دائرتها فتجبرها على الخضوع لمنطقها، مع ما يقتضيه ذلك من آلية إكراهية سرعان ما تتحول إلى توتاليتارية فكرية تجد تطبيقها في حركات عنيفة تنفي كل ما قامت من أجله الانتفاضات، وما رفعته من شعارات. وقد كان من نتيجة ذلك أن خلّف لدى المثقف إحساسا بثقل المسؤولية، وقوّى اقتناعه بأن دور الثقافة اليوم لم يعد فحسب نقد أفكار وفضح أنظمة، وإنما إرساء شبكات مقاومة تسعى جهدها إلى بلورة أسئلة وإحداث شروخ في عالم ينحو نحو التنميط والتخشب وتكريس البلاهة، إيقافا لعنف الفكر الوثوقي، بل مساهمة في مناهضة كل أشكال الإرهاب المادي والرمزي. في هذا المضمار، يدرك المثقف اليوم الأهمية الكبرى التي أصبحت تتخذها الوسائط الإعلامية الجديدة، والدور الهام الذي لعبته في قيام الانتفاضات وانتشارها، وكذا ذاك الذي لا يقل أهمية، والذي مازالت تلعبه في دمقرطة الثقافة، وبث المعلومة، ونشر المعرفة. إلا أنه في الوقت الذي يؤمن فيه بضرورة احتكام الثقافة لتكنولوجيا الإعلام، سواء على مستوى الإنتاج أو مستوى التسويق أو مستوى الاستهلاك، يتبين أيضا أن كثيرا من تقاليد الممارسة الثقافية، غدت تحت رحمة هذه التكنولوجيا الكاسحة. ومن هنا، شعوره بالحاجة إلى عقل يقظ وفكر نقدي وروح وثابة، خصوصا في ظل اتساع الاستهلاك المجاني السريع، والتدفق المهول للصور والتسجيلات والمعلومات، ومن هنا أيضا إحساسه العميق بضرورة التفكير في العلاقة التي تربط الفعالية الثقافية بتلك التكنولوجيا، بما يجعل منها علاقة منتجة ثقافيا، في إطار ما يغني خصوصية الثقافة، ويجعلها قوية بانفتاحها على القيم الكونية. * مفكر وأكاديمي مغربي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©