الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أرجوحة فصول فيفالدي الأربعة

أرجوحة فصول فيفالدي الأربعة
15 ديسمبر 2011 00:36
كتب انتونيو فيفالدي آلاف الأعمال الموسيقية، تبعا لزعمه، وصل الينا منها حوالي 700 مؤلف في مختلف ضروب الكلاسيكيات. ومع ذلك فقد اشتهر في زماننا هذا بسبب أربعة كونشيرتوهات للكمان تسمى مجتمعة “الفصول الأربعة”، وتعتبر أفضل الأعمال الموسيقية الآتية إلينا من عصر الباروك، مهد الموسيقى الكلاسيكية، وبين أعذب ما أتت به الأوتار في تاريخها. ولد فيفالدي في 4 مارس (آذار) 1978 في البندقية (عاصمة جمهورية البندقية وقتها) لأب حلاق أصبح عازفا محترفا للكمان، وعلم ابنه عزفه فجوّده بسرعة مذهلة، كما هو الحال مع عمالقة الموسيقى الكلاسيكية. وحدا هذا الوضع بالأب لاصطحابه في جولة على الجمهورية للعزف معه وإدهاش السامعين، رغم ان فيفالدي الابن كان يشكو من الربو المزمن الذي حرمه تحقيق رغبته في تعلم إحدى آلات النفخ. صلاح حسن العام 1693، عندما كان في الخامسة عشرة من العمر، بدأ فيفالدي دراسة اللاهوت الذي سيجعل منه قسيسا بعد عشرة أعوام. وقد لقب عندها بـ”القس الأحمر” بسبب لون شعره. لكنه اعفي في العام التالي من مهامه الدينية نظرا لاعتلال صحته بسبب الربو وإن سُمح له بالاحتفاظ باللقب. وقد راق له هذا الأمر تماما إذ أتاح له التفرغ الكامل للعزف والتأليف الموسيقي. كان فيفالدي ذا مواهب متعددة. فقد صار بين أشهر عازفي الكمان في عصره. وكان أعجوبة في ما يخص الإنتاج الموسيقي إذ قيل إنه كان قادرا على تأليف كونشيرتو في يوم واحد وأوبرا كاملة في أسبوع. وكان في الوقت نفسه معلما ومايسترو وشاعرا. وبسبب عذوبة موسيقاه، طارت شهرته الى الآفاق الأوروبية بما فيها فرنسا التي كانت وقتها ذات ذوق موسيقي مستقل تماما عن الذوق العام في أوروبا. ورغم انه كتب 21 عملا أوبراليا على الأقل (كوميدية في أغلبها، كتب سيناريوهاتها المسرحي كارلو غولدوني) فهي لا تعتبر السبب في شهرته، حتى في عصره، وإنما أعماله الوترية التي تشمل 450 كونشيرتو أشهرها، بالطبع، “الفصول الأربعة”. وفي الفترة التي شهدت قمة إبداعاته الموسيقية، وجد فيفالدي حظوة كبيرة وسط العائلات المالكة والنبلاء. وخلالها ألف، على سبيل المثال، الكانتاتا |غلوريا ئي امينيو” خصيصا لزواج الملك لوي الخامس عشر، و”لا سيرتا” على شرف الامبراطور تشارلز السادس. وقد تنقل فيفالدي كثيرا بين حاضرات البلاد الأوروبية. وأثناء إقامته في مانتوا (شمال ايطاليا الآن) التقى بالمغنية الأوبرالية آنا تيسيري جيرو التي صارت تلميذته ومتلقية رعايته وصارت مع أختها غير الشقيقة في قلب بطانته وأبرز صحبه في تسفاره. ولذا ثارت شائعات مفادها أن علاقته بهما تتعدى الصداقة الى المحرّم. لكن هذه الشائعات بقيت بلا دليل يسندها وقد نفاها هو بشدة رغم ما عُرف من ان قسيسيته لم تكبح عشقه الجامح للنساء. ورغم قسوة نقاده وأعدائه الذين نجحوا في الحجر على موسيقاه حوالي قرنين بعد مماته، يعتبر فيفالدي من أكبر أعمدة موسيقى الباروك التي استندت عليها الأعمال الكلاسيكية اللاحقة. وبلغ شأوه أنه ترك أثرا عميقا على مؤلفات عملاق مثل سباستيان باخ، الذي يصغره بسبعة أعوام فقط، بحيث انه حول عددا من أعمال ملهمه المؤلفة للكمان الى الهاربسيكورد. ومع ذلك فقد أقيمت له جنازة أقل من متواضعة لدى وفاته في فيينا في 28 يوليو (حزيران) 1741، تماما مثلما سيحدث لموزارت بعد ذلك بخمسين عاما. الفصول الأربعة “الفصول الأربعة” عبارة عن أربعة كونشيرتوهات للكمان (من مجموع 12 كونشيرتو سمّاها فيفالدي مجتمعة “التنافس بين التناغم والاختراع”) يتألف كل منها من ثلاث حركات في معظمها سريعة (أليغرو) في أولاها وآخرها، وبطيئة نوعا ما (لارغو) في وسطها وهي كما يلي: الربيع: الكونشيرتو 1 في سلم “مي الكبير”. الصيف: الكونشيرتو 2 في سلم “صول الصغير”. الخريف: الكونشيرتو 3 في سلم “فا الكبير”. الشتاء: الكونشيرتو 4 في سلم “فا الصغير”. وغني عن القول إن هذه الأعمال تصوير موسيقي لتلك الفصول. لكن ما يمكن قوله هنا هو ان فيفالدي أحدث ثورة في موسيقى الباروك والموسيقى الكلاسيكية بشكل عام. فبأصوات تلك الفصول ـ مثل نباح كلاب الرعاة وصدح الطيور وخرير المياه وتكثر الثلوج تحت الزلاجات وتشقق الأعواد في نير اشتعالها الى آخره - استحدث هذ الرجل ثورة سميت لدى اشتداد عودها “القصيدة السيمفونية”. ذلك ان الفصول الأربعة هي تأويل موسيقي لأربع قصائد يتألف كل منها من 14 بيتا وتسمى الواحدة “سونيت” أو نحو ذلك في العديد من اللغات الأوروبية، كتبها فيفالدي بنفسه على الأرجح إذ لا يوجد مرجع الى كاتب آخر لها. بعبارة أخرى فقد أشعل فيفالدي “ثورة” في موسيقى عصره أثمرت، بين أشياء أخرى، “الموسيقى التصويرية” كما نعرفها مرتبطة بالأفلام اليوم. والفرق الوحيد بين القصيدة السيمفونية في ذلك الوقت والموسيقى التصويرية الحديثة هو ان أن هذه الأخيرة يقصد بها تكثيف الحدث المرئي بينما العكس هو الصحيح في حال القصيدة السيمفونية التي توظف الموسيقى لاستدعاء المرئي الغائب. ولنذكر في هذا الصدد أن مفهوم الموسيقى “المرئية” الذي تولى قيادته عمالقة آخرين ـ مثل فرانتز ليست ورتشارد فاغنر ـ والأفكار الطليعية التي أدخلها هؤلاء على الموسيقى الكلاسيكية ـ إنما يعود الفضل الحقيقي فيها الى «القس الأحمر» الذي انتزعه مرضه من قبضة الدين الى زينة الحياة الدنيا. لكن ربما كان كل هذا شيئا وعذوبة “الفصول الأربعة” شيئا آخر. فإيقاعاتها الداخلية التي تجبر القدم على طرق الأرض معها وانسيابها الراقص أبدا وتموجها صعودا ونزولا، تطرب القلب وتؤرجح الجسد بأكمله. وهي لا تهتز أمام المقولة التي أدلى بها، بعد مولد “الفصول الأربعة” بقرابة مائتي عام، عبقري الجاز ديوك الينغتون: “إذا لم تؤرجحك الموسيقى فهي ليست موسيقى”. ولهذا تعتبر “الفصول الأربعة” أفضل مدخل للوافدين الجدد على الموسيقى الكلاسيكية، وأفضل “طُعم لاصطياد” أولئك الذين لا يستهويهم، لسبب أو آخر، هذا الفن المعتق. كان فيفالدي أول مؤلف موسيقي يستعمل تلقائيا شكل الريتورنيللو (ritornello)، الذي أصبح شائعا فيما بعد في الحركات السريعة للكونشرتو. والريتورنيللو (واسمها بالإيطالية معناه الذي يتكرر ويعود) هو مقطع يتم عزفه بطريقة تكرارية من قبل أعضاء الأوركسترا عند بلوغ مفاتيح معينة في المقطوعة، وهو يتناوب مع الحلقات، وهي مقاطع يغلب عليها أداء العازف المنفرد. ابتعد فيفالدي بذلك عن تصور الكونشرتو الذي يغلب عليه أسلوب الفوغا ووضع قواعده “كوريللي”، كانت موسيقاه عبارة عن فسيفساء، تتوافق أشكالها عن طريق تقارب نغماتها وثبات نبضها الإيقاعي. واهتم فيفالدي بالتقنيات الآلاتية، وبالطرق التي تمكنه من تطويرها. في الكونشرتو السادس والثاني عشر من مؤلفه لاشيرتا (1725 م)، قام بضبط الوتر الرابع للكمان بثلث ثانوي تحت النغمة العادية. ومكنه استبدال علامة الـ”سي” المخفضة (bemolle) بالـ”صول” من ترقيق نبرة الكمان. ويعتبر فيفالدي وحسبما جاء في مؤلفه “إسترو أرمونيكو” (1711 م) Estro Armonico، أول من وضع قواعد البنية الثلاثية للكونشرتو (خفيف، بطيء، خفيف). وقام بإدخال مبدأ التعارض بين العازف المنفرد والأوركسترا في عمله لاسترافاغانزا (1715 م) Stravaganza، غير الإيقاعات البطيئة، وخفض عدد المقطوعات المصاحبة إلى ثلاثة. تميزت أعمال فيفالدي (كونشرتو لناي واحد) ببساطة وجمال في اللحن، ارتقت إليها أعمال موتسرات فقط. ويمكن العثور على نماذج لأصول الكونشوتو الحديث، والمبني على تباين مهارة المؤدي مع التأليف المتقن، في الأعمال الأخيرة لفيفالدي. نظرا لتفوقه الصارخ في تقنية الكمان على معاصريه، وكان يلقب بـ”الكاهن الأصهب” (بسبب شعره الأشقر) بأنه وقّع عقدا مع الشيطان. أثرت الكونشرتوهات التي وضعها في طريقة أداء عازفي الكمان. وكانت أعمال فيفالدي قد تم نسيانها إلى أن قام يوهان سيبستيان باخ بإعادة صياغتها في أوائل مسيرته الفنية. عودة الموسيقى إلى صاحبها في الآونة الأخيرة، تم اكتشاف أربعة أعمال صوتية دينية لفيفالدي في مكتبة لولاية ساكسونيا في دريسدن. كانت هذه المؤلفات منسوبة بالخطأ لبلدسر جالوبي، وهو ملحن من البندقية في الفترة الكلاسيكية المبكرة، اشتهر بأعماله الكورالية. ففي خمسينيات أو ستينيات القرن الثامن عشر، طلبت المحكمة السكسونية بعض الأعمال الدينية لجالوبي من ناسخ البندقية دون جوزيبي بالدان. وأرفق بالدان، من بين أعمال جالوبي الأصلية، أربعة مؤلفات لفيفالدي، كأعمال لجالوبي. وربما حصل على النسخ الأصلية من اثنين من أبناء أخوة فيفالدي، (كارلو فيفالدي ودانييلي ماورو)، الذين كانوا يعملوا معه كنساخ. وتمت ملاحظة ملكية فيفالدي للأعمال عن طريق تحليل الأسلوب والآلية وملاحظة ألحان من أوبرات فيفالدي. وأهم هذه الاكتشافات الترنيمتان Nisi Domin s وDixit Domin s، اللتان تم اكتشافهما في عامي 2003 و2005، على التوالي، بواسطة الباحث الأسترالي جانيس ستوجيت. وقد تم تسجيل Nisi Domin s لأول مرة في عام 2005 بواسطة أوركسترا King’s Consort تحت إشراف روبرت كينج.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©