السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذكريات الجراح العربية

ذكريات الجراح العربية
15 ديسمبر 2011 00:37
لو صدرت هذه الرواية قبل عدة اعوام لكان لها شأن آخر بين القراء والنقاد.. رواية “ذكريات منسية”، وهي بالفعل كذلك للبطل/ الراوي، هي ليست ذكريات فقط، لكنها ايضا تنطوي على مفارقات عديدة من الواقع والأحداث.. ربما تكون المفارقة الأولى في شقيقي البطل زغلول ومحمود.. الاول كان مجندا بالقوات المسلحة واستشهد في حرب اكتوبر 1973 ونال والده التكريم بسبب ذلك، سواء من الدولة أو المجتمع واصبح والد الشهيد الذي ينظر اليه الجميع باكبار وتقدير، ونال هو كذلك بعض الامتيازات في التعليم باعتباره شقيق الشهيد، اما شقيقه محمود فكان ضابط شرطة بمديرية امن اسيوط، وكان واحدا من الذين تعرضوا لاعتداء الجماعات المتشددة بالرصاص يوم 7 اكتوبر 1981 في اليوم التالي لاغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ضابط البوليس قتل في هذه العملية واستدعى رجال الامن والده وابلغوه بالحادثة وتسلم الجثمان ودفن في صمت، لم يعتبر شهيدا، لا من الدولة ولا من وزارة الداخلية ولا حتى من المجتمع، وكل عام في ذكرى السادس من اكتوبر يتذكر الجميع شهيد حرب اكتوبر وترسل اليهم القوات المسلحة الهدايا ويتلقون التكريم سنويا، لكن قتيل الشرطة لا يتذكره احد، مجرد قتيل وشيعه الجميع، وظلت تلك المفارقة تؤرق البطل وحين استشهد شقيقه زغلول في 1973 كان هو لايزال طفلا، يبلغ من العمر 8 سنوات اما حين قتل شقيقه الثاني في 1981 فقد كان ناضجا واستقبل الصدمة بألم حقيقي.. ألم عاجز ومجروح. المؤلف في الاصل ضابط شرطة خرج الى المعاش برتبة لواء، وكانت معظم سنوات خدمته في اسيوط وعايش احداث الاعتداء على ضباط الشرطة في اسيوط، والتي قادها عبود الزمر، ويبدو انه آلمه عدم التعامل مع زملائه باعتبارهم شهداء، بل قتلوا وكفنوا ودفنوا في تكتم وصمت شديدين ولم يذكرهم احد ولا اهتم بتكريمهم اي طرف سواء من الرسميين أو من الاهالي والمجتمع المدني. البطل يتخرج في الجامعة ويعين في وظيفة باسيوط ولاسباب اقتصادية يقرر السفر الى العراق للعمل، ينتقل من القاهرة الى الاردن ومنها الى بغداد، وفي الدول الثلاث يتشابه رجال الامن تشابها كبيرا في تعمدهم ايذاء المواطنين والاستهانة بهم وتعطيل مصالحهم، الازياء مختلفة لضباط الامن بين مصر والاردن والعراق لكنهم يتشابهون في السادية التي تسيطر عليهم. داخل العراق وفي بغداد كانت هناك في الثمانينيات عمالة عربية كثيفة، مصريون وسوريون واردنيون وسودانيون، وكانت امامهم فرص العمل متاحة، لكن الخوف من صدام حسين وحزب البعث كان يسيطر على الجميع، البطل عمل في منزل مسؤول عراقي سابق، اصيب في حادث مدبر له فصار قعيدا وكان دوره ان يقرأ له الصحف والكتب ويساعده وكان ذلك الرجل في سفارة العراق بهولندا واتهم انه استقبل معارضا عراقيا في السفارة، فترتب على ذلك سجنه وفصله من عمله بالخارجية وتحول الى موظف في مقر الحزب، ومن خلال وجود البطل في منزل هذا المسؤول اطلع على الواقع السياسي العراقي آنذاك ثم تتطور الامور ويتم احتلال العراق في عام 2003 ويأتي عدد كبير من العراقيين ليقيموا في القاهرة وبينهم شقيقة ذلك المسؤول العراقي وتلتقي البطل الذي كان قد صار استاذا جامعيا واصبح كاتبا روائيا فقد نال الدكتوراه بعد عودته وظل معايشا لمعاناة العراقيين منذ غزو صدام حسين للكويت والحصار الذي فرض على العراق. ويقدم تناقض بعض دعاة القومية العربية بين الافكار والشعارات الجميلة التي يقومون بعكسها في الواقع السياسي وعلى الارض. كما رصد الراوي مشهد الحروب في سيناء وهو يمر منها في رحلته الى العراق ويرصد ايضا مشاهد الحرب في العراق ولنقل الحروب الطويلة مع ايران ثم تحرير الكويت واخيرا حرب اسقاط صدام حسين، هذه كلها تركت دمارا حقيقيا في المجتمع وداخل الانسان. اقيم المجتمع على الخوف وعلى القهر.. في هذا المجال لا تقدم الرواية جديدا، بمعنى ان المعاناة والتجربة العراقية كتب فيها الكثير وبعضها صار في ذمة التاريخ أو حبيس ملفات الارشيف الان الكل يعلمه ولا احد يريد ان يتذكره أو يستحضره لكن العمل يقدم هذه المشاهد ليس بهدف اثارة المواجع بقدر ما يريد رصد جوهر ما جرى وما حدث وهو الاستبداد والتسلط السياسي ودائما نتائجه وخيمة. الرواية تسيطر عليها معاناة الانسان العربي في كل مكان ولاسباب مختلفة، سواء داخل بلده أو اذا خرج الى بلد عربي اخر، في واحدة من رحلات البطل الى القاهرة بقطار الصعيد، يجلس الى جوار فتاة يتبين انها صومالية تدرس الدكتوراه بجامعة القاهرة وتكتب اليه في رسالة معاناتها بين الصومال والسودان واريتريا، كان والدها سياسيا صوماليا قتله رجال سياد بري، وتركها هي وشقيقها الطفل، وأمهما الشابة، التي لم تجد وسيلة لاعاشة اطفالها سوى الدخول في علاقة مع احد المسؤولين الجدد بالصومال، ويكتشف امر هذه العلاقة من بعض الشبان الاسلاميين فيتركون الرجل وياخذون السيدة ليقيموا عليها الحد، لكن يتمكن ذلك المسؤول من انقاذها في اللحظات الاخيرة وتهرب الى بورسودان ومنها الى اريتريا حيث التصحر والمجاعات والاوبئة ومعاناة الافراد في سبيل الحصول على القوت الذي يضمن لهم الحياة.. في مثل هذه الظروف ظهر المبشرون الاسرائىليون يعدون الناس بالمساعدة وتوفير الوطن المناسب في ارض الميعاد، تفاصيل كثيرة فيها اليأس الانساني والاجتماعي، ومع ازدياد الفقر والحاجة يتراجع التفكير في الاخلاق والقيم أو اي شيء اخر ويصبح الحفاظ على الحياة هو الهدف الاول والاخير. يدهش القاريء من كل هذه الاحداث والتفاصيل بين صعيد مصر والقاهرة مرورا بهذه المجتمعات والبلدان العربية في هذه الرواية القصيرة، 80 صفحة، الكتابة تخلو من الثرثرة وتتميز بالتركيز، الجمل قصيرة وسريعة، تقريرية ومباشرة احيانا، مع ملاحظات ثاقبة، في مشهد اجتياح بغداد يتوقف عند قيام جندي اميركي بتغطية وجه تمثال صدام حسين بالعلم الاميركي، ومشهد الجثث الملقاة في الشوارع، بعضها بسبب غارات الطائرات الاميركية وبعضها بفعل القوات النظامية والبعض بفعل المليشيات والمهم ان رجال الامن لم يكن يعنيهم تلك الجثث في الشوارع وكان كل همهم التدقيق في بطاقات المارة للتأكد منها وفي كل مشهد سوف نلاحظ انه يتوقف عند اشياء بهذا المعنى. حمدي البطران سبق له ان قدم العديد من الروايات والمجموعات القصصية، ومن بينها روايته “يوميات ضابط في الارياف” التي صدرت عام 1996 وتعرض للمحاكمة بسببها، فقد تناولت سلوك ضباط الشرطة مع المواطنين في الصعيد وتسليتهم بتعذيبهم مما اغضب وزير الداخلية آنذاك حسن الألفي فحوله الى محاكمة تأديبية ومن يومها توالت اعماله حول المسكوت عنه في الواقع سياسيا واجتماعيا وانسانيا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©